في شهر أغسطس سنويًا يحل صيام السيدة مريم عليها السلام، ويمتد 15 يومًا، وتبدأ أول أيامه هذا العام الثلاثاء القادم، وتستعد ربات البيوت لذلك الصيام بشراء كميات كبيرة من الملوخية المجففة لصناعة تلك الوجبة الشهيرة والتي ارتبطت بصيام العذراء وهي «الشلولو»، الوجبة المشتركة للكثير للأسر المسلمة والقبطية. تعد هذه الوجبة هي الأساسية في كل أيام الصيام بجانب الأنواع الأخرى من الأطعمة وهي مكونة من الملوخية المجففة، وليمون، وثوم، وبهارات حسب الرغبة، وماء مثلج، و تخلط تلك المكونات التي تشكل مزيجًا ثقيلا قبل إضافة الماء مع إضافة الملح إلى "الشلولو" ويتم خلطه جيدًا لتشكل مكوناته قوامًا متناسقًا تصبح وجبة المسلمين والأقباط في صيام البتول، جاهزة للتقديم، ومعها فوائدها الغذائية وهي الفيتامينات المتركزة في الثوم والليمون. الصلة الوثيقة التي تجمع بين صيام العذراء ووجبة «الشلولو» حسب الاعتقاد الموروث القائل أن السيدة مريم تناولت هذه الوجبة خلال رحلة العائلة المقدسة إلى مصر وخاصة عندما استقرت بالصعيد، أما الأصل التاريخي لهذه الوجبة فهو فرعوني حسب متخصصين فقد توارثها الصعايدة جيلا بعد جيل، ولم تتغير مكوناتها منذ العصر الفرعوني حتى الآن، حيث استخدم الثوم والبصل كمطهرات ولتقوية المناعة حيث حرص الفراعنة على تزويد العمال بحبات الثوم للوقاية من الأمراض، ووضعوا فى توابيت موتاهم البصل اعتقادا منهم أنه يساعد الميت على استعادة أنفاسه فى الحياة الأخرى حسب معتقد البعث بعد الموت. وبحكم احتفاظ المجتمعات المحلية في محافظاتجنوب الصعيد بعاداتها الاجتماعية والحياتية الباقية من الحضارات المتعاقبة وبفعل انغلاق هذه المجتمعات على نفسها بقيت تلك الوجبة الفرعونية الأصل ككثير غيرها من العادات الاجتماعية، وجبة متعارف عليها لدي المسلمين والأقباط في الصعيد ويندر أن يعرفها سكان شمال مصر إلا المهاجرين من أصول صعيدية، ويتم إحياء تلك الوجبة في صيام العذراء سنويًا. تحمل وجبة الشلولو دلالة أخري فهي تعرف بوجبة الفقراء في الصعيد بسبب زهد ثمن مكوناتها، وربما يكون ذلك إحياءًا لشظف العيش الذي عاشته العائلة المقدسة في مصر متنقلة بين أكثر من محافظة مصرية، والحالة المرسومة لأطهر نساء العالمين في الذهنية الشعبية ومخيلة البسطاء كونها عاشت معاناة حقيقة مع أسرتها للنجاة بوليدها عيسي عليه السلام، من أيدي الطغاة المتجبرين من ملوك اليهود في مسقط رأسها بفلسطين، وعاشت أيامًا من الترحال الصعب وعاشت حياة الفقراء في مصر. تبقي وجبة الشلولو كوجبة رئيسية لا تغيب عن موائد محبو السيدة العذراء طيلة أيام الصيام، ولا ينافسها في الأيام الأخيرة سوي نوعًا من المخبوزات الصغيرة وتسمي «المنون» وهو من طقوس نهاية الصيام، تقوم ربات البيوت بإعداد ذلك النوع من المخبوزات بالمنازل لتناوله في نهاية الصيام وهو يتكون من الدقيق والكركم والزيت والمحسنات العادية، وتقوم ربات البيوت بتوزيعه على الجيران احتفاءًا بختام صيام العذراء، وتلاحظ أيضا فكرة الزهد في هذا النوع المخبوزات الذي لا تدخل في مكوناته أية نوع من الحليب أو السمن وغيرها من المكونات التي تدخل في صناعة المخبوزات الأخرى. ويترفع الأقباط في الصعيد حبًا في السيدة مريم عليها السلام عن تناول الأسماك رغم تصريح الكنيسة بتناولها، ويكتفون بالبقوليات والأطعمة الصيامي المعروفة. وبعيدًا عن ذلك التماس والتقديس للسيدة مريم عليها السلام، في القرآن والإنجيل، ثمة أسباب أخرى تضع السيدة مريم في مكانة عزيزة على النفس عند الكادحات من النساء من المسلمات والقبطيات. لم تكن السيدة مريم عليها السلام من طبقة النبلاء أو الأثرياء في فلسطين محل ميلادها، كانت من الطبقة الفقيرة المهمشة التي تعاني من أزمات زمانها، رغم عراقة نسبها، تشير المصادر التاريخية أنها ولدُت في مدينة الناصرة وهي مدينة في الجليل، وكان اليهود يزدرون تلك المدينة ويقولون عنها إنها «لا يمكن أن يأتي منها شيئًا صالحًا»، وعندما جاءت لحظة المخاض، كانت الولادة عسيرة وفقيرة، مثلها مثل كل النسوة الفقيرات اللاتي يلدن أبنائهن في ظروف صحية واقتصادية قاسية، ومثلهن أيضا كانت صابرة وقوية وتحملت تلك اللحظات لتضع مولودها. وفي رحلتها إلى مصر كانت مظاهر ذلك الفقر ظاهرة تمامًا، كان الارتحال إلى أرض وادي النيل، بموكب غاية في البساطة، رجل يجر حمارًا تمتطيه أمرآة تضم ولدها إلى صدرها، وهو ما شخصه فناني إيطاليا في لوحاتهم عن رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، ولم تكن مظاهر الفقر قاصرة علي الرحلة، لو تتبعنا خط سير العائلة في مصر لو جدنا أن موكب الرحلة مر أيضا وأقام أصحاب الموكب في مناطق فقيرة اقتصاديًا ومعيشيًا، مرت العائلة المقدسة في رحلتها داخل البلاد المصرية بنحو 22 موقعًا جغرافيًا من شمال شرق البلاد إلى جنوبها، وكان أغني هذه المواقع «الفرما» التي كانت مركزًا تجاريًا مهمًا في ذلك الوقت، لتستقر في النهاية في الصعيد البعيد عن السلطة المركزية في الشمال، ومكثت العائلة في موقعين بمحافظة أسيوط، كان كلاهما أشد وعورة في جغرافيته ومعيشته عن الأخر، الأول هو دير المحرق حاليا، والثاني هو جبل«درنكة»، ورغم شظف العيش في الموقعين الجبليين، فقد كان الصعيد أمنًا للعائلة المقدسة الفارة من اليهود في فلسطين، وطال بقائها 6 أشهر و10 أيام. في كل موالد السيدة مريم عليها السلام في محافظات الجمهورية، والذي يحتفي به مساء 21 أغسطس سنويًا، تكون مظاهر الاحتفال ذات خصوصية تختلف عن مظاهر الاحتفالات الشعبية بموالد الأولياء والقديسين في مصر، يتصدر المشهد في ذلك الاحتفال الشعبي النساء ..نساء الطبقة الشعبية الفقيرة، وهن يمسكن الدفوف ويطلقن الزغاريد وكأنه عرس يخص إحداهن بالتزامن مع غناء الأناشيد الدينية التي تمجد البتول وأخلاقها ونسبها وقصة الاصطفاء من الله سبحانه وتعالي، يأخذك ذلك المشهد فورًا إلى السؤال مجددًا لماذا تحب الفقيرات السيدة مريم عليها السلام ؟!. يتولد الحب ويتدفق بين السيدة مريم عليها السلام وبنات جنسها الفقيرات لأنها كانت تشبههم في ظروفهم الحياتية والمعيشية، ورغم ذلك اختيرت لتكون المصطفاة من بين نساء الأرض وأنعم عليها بمعجزة الولادة دون يمسها بشر، ويتجدد الرجاء والأمل بالتشفع بها لأنها الأقرب إليهن. في كل الكنائس المسماة باسم سيدة الطهر والعفاف في مصر، يُقام احتفال ديني وشعبي في نهاية الصيام، فضلا عن الصلوات اليومية التي تقام في الكنائس، غير أن الحج إلى درنكة بمحافظة أسيوط لحضور الاحتفالات هناك لا يضاهيه أي احتفال أخر، حيث يقيم الزوار هناك في غرف يتم إيجارها لمن يرغب للبقاء في رحاب أم النور، رغم وعورة الجغرافيا بالمنطقة بالجبل. ينبض جبل «درنكة» ويبعد عن محافظة أسيوط بنحو 8 كيلو مترات بالحياة ، تتدفق الآلاف من الأسر على الدير الذي يحمل نفس اسم الجبل «دير السيدة العذراء بدرنكة» لحضور الليلة الختامية للصيام الذي يواكب رحيل السيدة مريم عليها السلام عن الأرض، وتقام طقوس الاحتفال التي تعرف باسم «الدورة» التي تبدأ من الكنيسة المسماة بكنيسة المغارة حيث يخرج الشمامسة حاملين أيقونة كبيرة للسيدة العذراء، أمامها أطفال صغار يلبسون أيضا ملابس الشمامسة البيضاء، بينما يظهر الرهبان والقساوسة خلف الأيقونة مباشرة مصطفين في صفين، وهم يرددون مديح العذراء « يا أم النور يا جميلة يا عدرا يا طاهرة يا نبيلة يا بنت دواد يا أصيلة.. جاكي ملاك ببشارة وقالك أنت مختارة» وتنطلق الزغاريد من السيدات، وتدق أخريات الدفوف وترمي الورود على الموكب في مشهد شديد العزوبة. وجبل درنكة مشهور عنه بوجود الكثير من المغارات التي كان يستخدمها الفراعنة في استخراج المعادن، واستخدمها المصريون الأوائل في الإقامة أثناء الفيضانات، ولذلك فالمرجح أن السيد المسيح والسيدة العذراء قضوا تلك الفترة هناك أثناء رحلة العائلة المقدسة. وبعد ظهور الرهبنة انتشرت العديد من الأديرة في تلك المنطقة، وذكر المقريزي الدير في كتابه باسم دير العذراء، وتحول هذا المكان إلي دير في عهد القديس يوحنا الأسيوطي، وكان تلاميذه يعملون في نسخ الكتب المقدسة، لذلك سمي هذا الدير باسم دير النساّخ.