تحقيق: إسلام أبوخطوة / إشراف : نادية صبحي كنت أتجول فى شارع رمسيس لقضاء بعض الحاجات، فوجدت أحد المتسولين ملقى على أحد الأرصفة، وكادت الديدان أن تقضى على جسده المنهك، اقتربت منه شيئًا فشيئًا فوجدته رجلًا مسنًا يقرب من الخمسين عامًا فقررت مساعدته والسعى فى هذا المجال لإنقاذ مئات المتسولين، ومن هنا جاءت فكرة «معانا لإنقاذ إنسان» هكذا يتذكر المهندس محمود وحيد عبدالحميد.. اللحظة التى اتخذ فيها قرار إنشاء مؤسسة لإنقاذ أبناء الشوارع. وتقوم فكرة المؤسسة على رعاية المتسولين فى الشوارع ولم شملهم داخل الدار الذى أنشئ خصيصًا لهم بمنطقة الدقى بالجيزة وتقديم الخدمات من مأكل وملبس ومشرب، ومع مرور السنين عادت بعض الحالات إلى أسرهم.. وكل واحد من هؤلاء له حكاية تفوق المسلسلات الرمضانية فبعضهم حصل على مؤهلات عليا ولكن هناك أسبابًا دفعتهم للتسول والنوم على الأرصفة والبعض انتهى به الحال بالإصابة بالزهايمر. وبحسب ما أكده المهندس عبد الحميد، فإن المؤسسة تضم 92 موظفًا ككل موزعين على 3 فروع بالدقى والهرم وسقارة، وداخل الدار بالدقى يوجد 16 موظفًا بمن فيهم المتخصصون فى شؤون التمريض وعلم النفس. فور دخولك بوابة المؤسسة تجد عالمًا آخر من البشر ظلوا طيلة حياتهم وسط متاعب الشوارع ومخاطرها فغيرت ملامحهم بشكل جذري، وجوه تائهة وعيون غائرة مليئة بالحسرة وأجساد هزلية هددتها الأمراض. وشاء القدر أن يتزامن دخولى للموسسة مع دخول متسول عجوز، كان ذا وجه شاحب، وله عينان مليئتان بالحسرة على ماضيه المرير، يرتدى ملابس ممزقة تكشف أغلب ملامح جسده الذى يعتليه الأتربة، وله شعر طويل متشابك يفوح منه روائح كريهة. كان غاضبا ويردد أنا اسمى «إسلام» ومحدش ليه دعوه بالماضي،.. حالة من الذعر الشديد انتابته حينما لمح عدسة «الوفد» ترصده، ليدخل فى نوبة بكاء وبصوت عالٍ ظل يردد جملة: «أنا براعى ربنا.. ومش بعمل حاجة غلط.. سبونى لنصيبى محدش ليه دعوه بيا». وبحسب ما أكده المتخصص النفسى للمؤسسة فإن هذا المتسول يعانى من صدمة عصبية شديدة، وفقدان للثقة فى الآخرين كغيره الكثير من الدار والذى أدى بهم الحال لتفضيلهم النوم على الأرصفة بجوار الكلاب عن معاشرة البشر. جلس المتسول ومن أمامه المهندس محمود يحاول تهدئته ودخل «إسلام» فى نوبة بكاء أخرى وبعد دقائق عاد لحالته الطبيعية، وطالب الجميع من الحاضرين سماع ما يقوله.. يترقب المتسول الحاضرين بحرص شديد ثم قال إنه تدهور بيه الحال من سنوات طويلة ولا يتذكر أى شيء عن أسرته أو حياته، وظل يتجول فى شوارع المحروسة حتى أن تبدلت ملامحه. وجاء العاملون فى الدار وارتدوا جاونتات لحمايتهم من الأمراض المعدية وبدأوا فى إعادة تأهيل المتسول من جديد من خلال تنظيفه وارتدائه جلبابا نظيفًا وتحضير الأطعمة له. وحاولت «الوفد» التواصل مع عدد من المقيمين فى الدار، إلا أن جميعهم لن يستطيعوا الحديث، وكأنهم يعيشون فى حالة غيبوبة تامة ولا يريدون تذكر ماضيهم المرير. تركت نزلاء الدار وسألت صاحب فكرتها المهندس محمود وحيد عن الصعوبات التى واجهته عندما بدأت المؤسسة نشاطها فقال: واجهت مشاكل عديدة فى إنشاء المؤسسة وطاردتنى تساؤلات عديدة، طرحت حوله: هل له أهداف سياسية من تحقيق هذه الفكرة؟، هل يريد التجارة فى الأعضاء؟، أم لديه مساع أخرى غير أخلاقية؟، ومع مرور الوقت استطعت تحقيق الفكرة وتدعيمها على مستوى المحافظات. وأضاف: يشاركنى العمل فى المؤسسة اثنان من الأصدقاء وكل ما نريده هو رضا الله عز وجل فقط، ولا نبغى ربحًا أو مكسبًا ماليًا. وحول مصروفات الدار أشار إلى أن المتسول يتكلف شهريًا ما بين 3 إلى 5 آلاف جنيه، وشهريًا 450 ألف جنيه مصرفات على مستوى الفروع. طرق وحيل مختلفة يلجأ إليها العاملون فى الدار لجذب المتسولين ورعايتهم فى الدار من خلال التقرب منهم شيئًا فشيئًا على مدار عدة أيام وتقديم الرعاية لهم من مأكل وملبس ومنها يتكون نوع من الارتياح بين المتسول والمندوبين وبعدها يحاولون إقناعه الدخول للدار بطريقة ودية وليس بالإصرار. وأشار مؤسس الدار إلي أن هناك نوعين من المتسولين، الأول ذو الشخصية الهادئة ويتعاملون معه الأطباء النفسيون فى الدار والاجتماعيون، أما ذو السلوك العدوانى فنخشى دخوله المؤسسة ونكتفى التعامل معه من الخارج بتوفير متطلباته. إجراءات عاجلة يتخدها العاملون فى الدار فور موافقة أحد المتسولين علي التواجد داخل المؤسسة، أولا عن طريق تحرير محضر داخل قسم الشرطة التابع لها المنطقة المتواجد فيها المؤسسة، ثم يخضع المتسول للتحاليل الطبية ثم يتم ترحيله للمستشفى لتقديم الخدمة الطبية له حال إصابته بمرض ما، وبعد إتمام شفائه يعود للحياة داخل المؤسسة. وقال رئيس الدار: نستقبل المتسولين من سن 18 عامًا ولدينا حالات تجاوزت أعمارها 105 سنوات، وهناك 111 حالة عادت إلى ذويها بعد التواصل معهم، وهناك حالتان لجأتا إلى الهرب من المؤسسة على مدار ال 4 أعوام الماضية، مؤكدًا أن الدار لن يجبر أحدًا على البقاء فيه وحال إصرار أحدهم الخروج مره أخرى نتركه ولكن نظل نراعاه فى الشارع. وحول أغرب حالة تعامل معاها المهندس من المتسولين، تذكر سيدة تدعى «فريدة» والتى لقبت بأشهر متسولة فى المحروسة، بلغت من العمر 56 عامًا، فكلما كان يذهب إليها ترفض عرضه بالمعيشة داخل الدار على أمل أن تلتقى بنجلتها الوحيدة. حاول مؤسس الدار معرفة أى تفاصيل عن نجلتها للتواصل معها إلا أن «فريدة» كانت مصابة بالزهايمر فلم تتذكر شيئًا، إلا أنها كانت متجوزة وأنجبت طفلة وبعد انفصالها حرمها زوجها من بنتها وهرب ولم تعلم عنهم شيئًا مما جعلها تتجول فى الشوارع لسنوات طويلة بحثًا عنهم ومع تعرضها لأزمات نفسية أصيبت بالزهايمر. ومع مرور السنوات وافقت «فريدة» علي المعيشة داخل الدار وعلى الفور أعلن العاملون بالمؤسسة عن صورتها عبر صفحات التواصل الاجتماعى حتى أن توصلوا إلى نجلتها التى أصبحت جدة، وجاءت لاسترجاعها. وحول عدد الحالات المتواجدة حاليًا داخل الدار قال يوجد ما يقرب من 70 حالة على مستوى الفروع وفى فرع الدقى يوجد 30 حالة. قصص حياة المتسولين أوحت لمؤسس الدار بدرس كما قال أن الدنيا لن تدوم لأحد ولابد من مسانده المتسولين فى الشوارع بأقل الإمكانيات. وحول مصدر تمويل الدار قال المهندس محمود إنه يعتمد على التبرعات الخيرية التى زادت فى الفترة الأخيرة بعدما اكتسبت المؤسسة شهرة كبيرة وبلغ حجم التبرعات التى تلقاها من ميلاد المؤسسة قبل عامين حتى الآن 450 ألف جنيه.