السكان أكثر من 80 متسولًا يحتلون البناية بوضع اليد.. و3 حراس يحمون المكان بمقابل يومى 50 جنيهًا للفرد المتسولون الأطفال يتمرنون على استعطاف سائقى السيارات.. والطابق الثالث مخصص لممارسة الرذيلة بشرط الحجز مسبقًا هى ظاهرة طاغية الآن على المجتمع المصرى، فى الماضى كنت تراهم على استحياء فى أماكن بعينها، أما الآن فالمتسولون فى كل بقعة من أرض مصر، تراهم يوميًا فى عربات المترو وأمام المحطات وفى الشوارع والمقاهى.. دولة كاملة للمتسولين تنشط داخل مصر. «الصباح» قررت دخول «عمارة الشحاتين» أكبر تجمع للمتسولين فى القاهرة، لنفهم كيف يتم إعداد الفرد المتسول، وكيف يتم تدريبه وتوجيهه إلى هذه المهنة العشوائية؟
أمتار قليلة تخطوها بقدميك داخل شارع «طلعت حرب» بوسط العاصمة، لتدخل عمارة تمتد لنحو 3 طوابق، يبدو على طابعها الشكل القديم فتشعر وكأنك داخل استوديو للتصوير السينمائى. البناية مهدمة، لا يوجد بها أبواب أو حواجز تفصل شققها عن بعض، يتردد عليها سكان أخذوها بوضع اليد، فلا ورق، لا وثيقة تثبت ملكيتهم لها. 3 من الشباب تقترب أعمارهم من نهاية العِقد الثانى يراقبون كل من يمر من أو إلى الشارع، يأمنون الشارع بشكل شبه كامل، ومن يشكون فيه يقررون التعامل معه بطريقة مباشرة على طريقة «التثبيت»، وهى وصفة سحرية تعود عليهم بالنفع من ناحيتين، الأولى أنها تؤمن خط السير إلى العمارة، والثانية العائد المادى الذى يحصلون عليه من نهب الضحية. كل هذا لم يمنع «الصباح» من اختراق وكر التسول الأول فى القاهرة، والتى تعد بدورها أكبر المحافظات تكدساً بالشحاتين، فوفقاً لدراسات حديثة صادرة عن المركز القومى للبحوث الجنائية والاجتماعية؛ فإن شوارع القاهرة احتلت المركز الأول فى أعداد المتسولين ب 4333 متسولًا، تليها محافظة الإسكندرية باحتوائها على 1572 متسولًا، كما أكدت الدراسة أن 3.14% من المتسولين يتم إجبارهم على ممارسة التسول بغير إرادتهم، كذلك فإن 75% من المتسولين يحملون صفة متسولى المواسم مثل رمضان والأعياد، وهم المتسولون الذين ينزلون للعمل فى المواسم والأعياد والمناسبات الرسمية اعتقاداً منهم أن هناك زيادة فى الرزق فى تلك الأوقات من العام. الدراسة قدرت عدد المتسولين فى مصر بحوإلى 11059 متسولًا احتل فيهم الأطفال العدد الأكبر بمجموع 7357 متسولًا يليهم نسبة المسنين، والتى تقل عنهم بنسبة طفيفة للغاية.
هارب من أهله «إسلام» 11 عامًا، يعتلى رصيفًا مليئًا بالأوراق الممزقة، يلعب بيديه فى بقايا طعام لا يختلف شكله كثيراً عن شكل الرصيف الجالس عليه، يروى ل «الصباح» قصة دخوله العمارة قائلاً: «وقت ما خرجت من بيتنا كنت محددًا أنى هعيش فى العمارة دى، حصلت مشكلة بينى وبين أخويا الكبير فى البيت فسيبته وخرجت، ومروحتش بعدها المدرسة، وجيت هنا اشتغل واصرف على نفسى». لم يرغب إسلام فى ذكر أسباب تركه للمنزل وتحوله إلى رجل يعتمد على نفسه، بل رفض حتى استكمال الحديث، إلى أن جاءت «شربات»، وهو اسم الشهرة الذى تشتهر به الفتاة التى أكد الجميع أنها محل ثقة «إسلام»، وهى فتاة خمرية اللون يبلغ عمرها 16 عاما تقريباً، وتعلم قصة إسلام جيداً، فقالت: «ترك إسلام البيت بعد مشاجرة مع أخيه الأكبر بسبب رسوبه فى الامتحانات فخرج إسلام دون عودة، وقرر عدم الذهاب للمدرسة من الأساس». شربات تقول إنها هى من أدخلت إسلام العمارة للمرة الأولى، ومن وقتها واعتاد عليها وعلى الموجودين معها، لافتة إلى أن جميعهم يرون فى إسلام الشحاذ الخجول، الذى يرفض اقتسام الطعام معهم.
أصغر السكان «رندا» 6 سنوات، قصتها تختلف قليلاً عن باقى الأطفال بالعمارة، فهى لم تأت بإرادتها، بل اجتذبها للمكان صديقتان من الشارع ذاته بعد أن تاهت من أهلها منذ عامين، وتروى إحدى المتسولات الأكبر سنًّا قصة إلحاق رندا لعائلة العمارة بقولها: «وجدناها بشارع طلعت حرب تبكى ولا تتحدث كثيراً، فقط أخبرتنا باسمها وعلى الفور تم إلحاقها بالقطيع. كانت فى البداية تنزل معنا بصحبة من يسبقونها فى السن ولا تتحدث، نطعمها وجبة واحدة فى اليوم نظير ذلك، إلى أن بدأت مؤخراً فى النزول بمفردها فبدأت فى العمل ولكن على مراحل، كانت المرحلة الأولى هى أن تمد يديها لسائقى السيارات فى الإشارات الموجودة بالشارع دون الحديث تماماً، أما المرحلة الثانية فتبدأ فيها بالحديث والعمل على استعطاف قائد السيارة، كذلك فلهذا الاستعطاف أيضاً مراحل واستعدادات يتم التدريب عليها بالكامل، وتدفع رندا ثمن هذا التدريب من اليومية التى تحصل عليها فى نهاية اليوم».
مطلقة المملكة أما «علا» 20 عاما، فتلجأ لمملكة الشحاذين بعد أن قضت أسبوعين كاملين تنام فى الشارع، فبعد طلاقها بشهور لم تحتمل المعيشة مع أمها وزوج أمها وهى تعول طفلها الذى يبلغ من العمر 6 شهور، وبعد أن بحثت كثيراً عن عمل شريف لم تجد، مما اضطرها اللجوء لتلك العمارة، وقد استقبلوها بترحاب شديد فهى بالنسبة لهم غير مكلفة على الإطلاق، كذلك ستكون مصدر دعم، كما أوضحت علا أنهم عند استقبالهم لها قالوا: «أنتى جاهزة ومعاكى طفل من الأول وهتأكلى عيش معانا بسرعة»، وعليه بدأت علا العمل معهم بالفعل وتعتبر من المحظوظين المترددين على العمارة.
الطابق الثالث للجنس الطابق الواحد قد تتعدى مساحته ال 150 متر تقريباً بالرغم من أنه مفتوح من جميع الاتجاهات إلا أنهم اعتادوا أن الطابق الثالث هو مركز اللقاءات المُحرمة ويعرف الجميع أن الصعود له لا يكون إلا بغرض ممارسة الرذيلة، حتى إنهم بدأوا فى الأيام الأخيرة توزيع التوقيتات على بعضهم والحجز مسبقًا للصعود إلى الطابق الثالث المرغوب بشدة، وذلك وفقاً لما رواه «محمد. ص»، أحد الباعة الجائلين المحيطين بالمكان، فقد شرح ل «الصباح» طبيعة العلاقات التى تدور بين البنات والشباب فى تلك العمارة قائلاً: «العمارة دى بيدخلها البنات والشباب بدون عدد، وأهل المنطقة لا يستطيعون حتى التدخل أو الاقتراب منهم بالرغم من أننا نعلم كم المخالفات التى تحدث بالداخل إلا أن معظمهم معتاد للإجرام ومن الصعب التعامل أساساً، ويضيف أن عدد المترددين على تلك العمارة ربما يزيد على 80 فردًا يختفون تماماً بالنهار، حيث يبدأون رحلة العمل بداية من العاشرة صباحاً يبدأون فى التسلل واحداً تلو الآخر من العمارة، ولا يظهرون مرة أخرى إلا فى منتصف الليل ويكون قد انتهى يوم العمل لكل منهم، وحصل على قوت يومه».
قوانين المملكة من المعروف والمقبول أن لكل مؤسسة قواعد وقوانين بعينها يسير على نهجها من فيها، وهو ما يتم تطبيقه داخل العمارة الموعودة، فهناك أسبقية فى كل شىء، وقواعد ثابتة، فالشحاذ الأقدم فيها هو من يسيطر على الأوضاع كلها، كذلك يتم تقسيم اليومية التى يحصل عليها المستجدون وفقاً لما يقوم به كل فرد فى المؤسسة من مجهود، فعلى سبيل المثال، عند حصول أى فرد فيهم على يومية معينة ولتكن 50 جنيهًا مثلاً يقوم بدفع مبلغ منها للفرد المسئول عن شئون المستجدين بالداخل لتتوزع عليهم، كذلك فإن قانون الغابة هو من يحكم ويسيطر بالداخل، حتى فى العلاقات غير الشرعية التى تتم.
أنواع الشحاتة للشحاتة أنواع عدة، يتم تقسيم المجموعة عليها بالتساوى، منها مثلاً أولى مراتب الشحاتة وهو المبتدئ، وهو المرتدى ملابس قديمة، يتعمد الإهمال فى ملابسه، كذلك الرومانسى وهو المتخصص فى الهجوم على كل خطيب وخطيبته أو زوج وزوجته، ويتعمد إحراج الرجل أمام أنثاه أياً كانت صلة القرابة بينه وبينها كى يجبره على الدفع، أما الشحات الصامت فهو نوع من الشحاتين الذين يلجأون لبعض الوسائل التقليدية مثل الجلوس أمام كرتونة بيض مكسور أو ما شابه ذلك، أما الشحات «الشيك» فهو على شاكلة الفنان عادل إمام فى فيلم «المتسول» هو من يرتدى بدلة أنيقة، ويتسول بمنتهى الرقى، ويغير أماكن وقوفه باستمرار، ويستعطف الناس بمظهره الراقى النظيف الذى يحتاج للمساعدة بسبب تغير الأحوال. تواصلنا مع الباحث الاجتماعى محمد على، الذى اعتبر أن «التسول المزدوج» هو ما أكثر أنواع التسول انتشاراً على الإطلاق، وهو الذى يعتمد فيه المتسول على غيره، وغالباً ما يحتاج إلى طفل مشوه أو مريض يحمله ويسير به ليستعطف الناس ويجعلهم يتصدقون عليه بحجة العلاج.
أولى مراتب الإجرام هكذا تفسر «منال زكى»، إخصائية علم النفس سيكولوجية المتسول، فهى ترى أنه بالرغم من الظروف الاجتماعية المتدنية إلا أنها أصبحت حرفة يمتهنها عدد كبير من الأفراد فى المجتمع يستطيعون من خلالها تكوين الثروات، لكن فى أحوال أخرى يتحول الموضوع إلى جريمة، خصوصاً مع الأطفال، حيث إنهم ينشأون دون أى تعاليم تربوية، وفى بيئة قائمة على الأخذ دون العطاء، مما يجعلهم مهيئين لاستقبال الأمراض النفسية والاضطرابات ويصبحون عُرضة لتعلم الجريمة، فكل ما يهمهم هو النتيجة والحصول على المال دون النظر للاعتبارات الأخلاقية وما يجب أن يتبعوه من أجل الحصول على تلك الأموال.