كتبت - رغدة خالد - تصوير دينا الباسوسي: يستقبلك عبير البخور المستكي من على بعد، يصطحبك عبر الحارات الأثرية والأقبية المتداعية بعيدًا عن صخب المدينة إلى وداعة رحاب الحي العتيق، يفتح "الحسين" ذراعيه مرحبًا بالزائرين، تحتضنك نفحات الأجواء الرمضانية العطرة، بين أضواء ألوان الزينات المتلألئة، وتصافحك جدران مباني ومداخل الأزقة، تسري بينها أواصر الود على امتداد خيوط الزينة، التي تلضم الشرفات بالنوافذ، وتشي بأسرار محبة خالصة، أبت قلوب الأهل والجيران إلا أن تفيض بها. في صدر حي الجمالية، يقبع مسجد سيدنا الإمام الحسين، شامخًا بأعمدته الحجرية يشرف من علو على قاهرة المعز، كوالي يراقب مريديه عن كثب، ينسلون من كل حدب وصوب قاصدين التبرك بمحبته، في هيبة ألبسها عليه نسب أهل بيت النبي، عطرته ببعضًا من البردة الشريفة وآثرًا لصحابته، فتركت القلوب التي أثقلها الشوق تهوى إليه. يفتح مشهد الحسين أبوابه على مصراعيها أمام الوافدين، كاشفًا عن صحن فسيح تتقدمه عتبات رخامية طمستها كثرة الزيارات من صدق العزم وطول الرجاء، تدلى من قبته قناديل زجاجية مزينة بزخارف إسلامية، فتسبغ على المشهد روحانية لم تزدها القرون الثمانية المنصرمة إلا بهاءً. تصدح أروقته بتلاوة آيات الذكر الحكيم والتواشيح قبيل إقامة كل صلاة، وتتعالى من مأذنته ذات الطراز العثماني ابتهالات تدني القلب، يتردد صداها بين أعمدته الرخامية، فتخشع الأصوات إلا همسًا، هالة من الحسن سبغت "الحسين"، وجعلته قِبلة الصلاة الأثيرة لدى قاطني الحي. يزده ميل ضلعه الأيمن إستقامة، فيقف "الحسين" شاهدًا على ماتحول إليه اليوم من بقعة طاهرة يذكر فيها اسم الله إلى ساحة للتجارة والمساوة تعج بضجيج الباعة ومساومة الزبائن، يحتضنها على امتداد البصر عبق العطور الشرقية من خان الخليلي يمينًا، وتهل عليه النسائم الوافدة من رحاب الجامع الأزهر يسارًا. تقودك أمواج الأفواج المتلاطمة في جولة بين شواهد جمال وروعة تصميم ومعمار الحي الزاخر بأثر الفاتحين الأوليين، تتنافس عبره بقايا الفاطميين مع ثلة مما ترك والإيوبيين، وما تبعهم من المماليك، يتباهي كل عهد بجودة تركته ويظل المنتصر الوحيد هم قاصديه. الأجواء الرمضانية تسود "الحسين": تعم الأجواء الرمضانية المكان، تبادرك واجهات المحال والدكاكيين بتصميمات فوانييس رمضان الرائجة لهذا العام، فيزجي "محمد صلاح" المنافسة بينها، بمجسماته التي تخطف انتباه الوافدين، وتعيد التقليدي منها للصفوف الخلفية، وبينما تكمن ذوات التصميمات الفريدة المصممة يدويًا، كالدرر بين الأزقة ودهاليز الحارات، فلتعثر على قطعتك المنشودة من فانوس رمضان، عليك قطع مسافة لابأس بها، حتى تجد ضالتك بين القنادييل الخزفية المزخرفة بقطع الفسيفساء وأخرى تستوحي تصميمها من أقبية المساجد، مطعمة بالخشب والنحاس بأنامل أمهر الصناع. تتراص الصحون الخزفية على جدران الحوانييت والأرصفة، فتحظى بالنصيب الأكبر من مَنزل الأبصار، تتخطف بجمال نقوشتها الأنظار وتدير الروؤس لبراعة ودقة زخارفها، تطل من بعضها وجه جارة القمر "فيروز"، التي تتطلع في تبجيل لكوكب الشرق "أم كلثوم" التي يعلو وجهها أباريق الشاي الزجاجية، فيما تقابلها مكملات الأثاث المنزلي من الوسائد والمقاعد الخشبية التي شٌدت عليها أقمشة الخيامية بعناية فمزجت التصميم بارع الصنع، بزركشة الألوان، حتى تكاد تشير لزبائنها من من ذواقة الفنون اليدوية وتدعوهم للدنو وإمعان النظر. زوار "الحسين" ومريديه: ومن علو 5 طوابق ببناية متهالكة يطل مقهى صاخب، على باحة "الحسين"، الغارقة بالمارة في ليالي رمضان، تتصاعد منه أصوات الموسيقى الشرقية، التي تصدح بها حناجر في حاجة لمزيد من التهذيب، منغمة بألحان لاتخفي ركاكتها، يرجوها محبي الطرب من الخليجيين الذين يتناثرون بأريحية على مقاهي المنطقة، تكشف عنهم لكنتهم الممدودة والمدغمة ومحاولاتهم مناورة الباعة ومساومتهم على اقتناء إحدى التذكارات الأثرية بسعر زهيد، بإيعاز من نسائهن المتلفحات بالأسود، تكشفن أعينهن المكحلة بتكلف عن هويتهن. فيما تفصح بشرة الغربيين البيضاء المشربة بحمرة، والتي لفحتها أشعة شمس القاهرة الثاقبة، عن أصلهم الأوروبي، فيما يبدو عليهم التململ بينما يشقون طريقهم وسط الزحام والأعين النهمة في من كل مكان، يقودهم مرشدًا سياحيًا، ترتفع نبرته كلما أتي على سرد قصص أبطال ومحاربين مروا من هنا، حكايات طواها الزمن ولم يبق منها سوا آثارًا جامدة، فيطغى بصوته على حفيف عباءات الطلبة الأزهريين من حاملي الكتب ذوي المظهر المتحفظ الغير مألوف حاليًا، ونداءات "الحنانات"، اللواتي يتناثرن على قارعة الطريق، تعرفهن ببشرتهن اللتي لوحتها الشمس. التذكارات تتنافس على الفوز بالزبائن: لم تفلح الأجواء الرمضانية الطاغية في محو الأثر الفرعوني الأصيل الذي يتخذ مكانه في صدر أوجه متاجر التذكارت، لاتكاد تخلو منه المحال، كلحن نشاذ يعزلك عن الأجواء المحيطة، ويراهن به الباعة على هوى الزوار من عشاق التاريخ المصري، وغيرهم من راغبي اقنناء غير المألوف من الهدايا والتحف، وسط أكوام من العباءات السيناوية التي تزخرف فتاريين العرض، وأزياء الراقصات الشرقيات التي تتهافت عليها السائحات العرب، التي لاتكتمل هيئتها بدون العباءات اللف المصرية والحلي من القلائد والخلاخيل، مع البراقع والطرابيش للرجال. وهذا العام، وجدت عرائس الماريونيت لنفسها فسحة بين متاجر الحي، وزبائنه، تتدلى من أسقف أبواب المحال، كأنما دبت فيها الحياة، تسترق الأنظار للوجوه المارة المتلفتة بعينين تملؤهما الفضول وسط الطوفان المنسل مع رفع آذان المغرب وحتى الساعات الأولى من الصباح. "قهوة الفيشاوي": لوحة عتيقة تحمل حروف لم ينل منها غبار السنين، أضفى إليها زوارها من المثقفين والكتاب هيبة وصيت مدوي، أركان منزوية ظلت شاهدة على رواد رحلوا، فلم يستطع الثرى محوا آثارهم، لايزال يتلمس مريديهم اليسير من خلفائهم وتابعيهم من شباب الكتاب والصحفيين الذين يتناثرون بين الحين والآخر على طاولاتها، في سجالات لم تطفئ روحانية الشهر الكريم من حموتها. واليوم تعج بالجلبة، صرير الكراسي والطاولات التي تتحرك في كل مكان لإفساح مجالًا للوافدين الجدد، يختلط مع كركرة الشيشة، وأزيز الزجاج الذي يدوي عاليًا، معلنًا وصول المزيد من أدوار الشاي والقهوة على المناضد. يصدح "وليد"، العواد الخمسيني بالغناء من على أحد الطاولات، يخفت الضجيج لينصت الزوار لارتعاشات أوتار عوده العتيق كلما همت ريشته بمباغته إحداها فجاءة، فتتقافز أنامله عليه جيئة وذهابا، مثيرا حوار غامض بين اهتزازات عوده ودقات قرع طبلة "محمد الشاعر" على شجن مقام النهاوند، في رائعة بليغ حمدي، التي تصطحبك إلي عالم من "ألف ليلة وليلة"، فتتمايل الروؤس من وجد العتاب والشوق للوصل، قبل أن تشق موجات التصفيق الهواء في حماس. شاهد الفيديو..