إنه السؤال الصادم الآن والذي يوازي بالمقابل ما كنا نعده السؤال المستحيل قبل 11 فبراير، وهو: هل يمكن أن يرحل مبارك؟.. وأنصح الجميع بالتروي والهدوء والتفكير في الأمر بموضوعية. في الحقيقة.. فإن كل شيء أصبح ممكناً، لا يملك أي محلل سياسي أو استراتيجي مهما بلغت قدرته علي رسم سيناريوهات للمستقبل بأن يخلص إلي نتائج محددة وقاطعة سواء بالنسبة لمصر أو للمنطقة العربية بكاملها، فهناك حالة حراك سياسي شعبي كبيرة أسهمت في إحداث نوع من التفكيك في البنية السياسية لها وصلت إلي حالة المخاض التي حتماً تستتبعها حالات ولادة، صحيح أن منها التي ستكون ميسرة وأخري متعسرة. ولا شك أن الرئيس مبارك قد تخلي حسبما أعلن السيد نائبه وترك الأمر برمته علي كاهل المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي نثق فيه وفي قادته ولكني لست متأكداً من أن هناك قناعة لدي مبارك بالتوقف عند حد التخلي أو أن الأمر قد انتهي بقراره الوطني والشجاع، خاصة أنه لم يخرج منذ غادرنا وأعلن عن نيته الجديدة وقراره النهائي، فضلاً عن أن الدستور المعدل والقوانين المتماسة المزمع أن يخرج جميعها للنور هذا الأسبوع منطقياً لن تمنع أي مصري بمن فيهم مبارك أو نجله تحديداً من الترشح ويدعم ذلك كله بل يسبقه أن لمبارك رصيداً كبيراً لدي شعبه رغم كل ما شاهدناه وأن رجال النظام السابق ونساءه مازالوا علي رأس معظم الهياكل التنظيمية للدولة ومتغلغلين فيها، بل إن مبارك ذاته موجود بكل ما تعنيه هذه الكلمة وربما يكون في صياغة بيان التخلي ما يكفل استمرار التواجد وليس العودة. من هنا.. يمكننا أن نميل إلي احتمال تحقق السيناريو الذي يعتبره البعض السيناريو المستحيل.. والسؤال التالي الآن: ماذا أنتم فاعلون؟ إذا ما عاد أو حتي تقدم الرئيس مبارك للترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ ولكي نرفع الحرج عن كل قارئ خاصة من أهل الرأي والفكر والمسئولين في الدولة علي جميع مستوياتهم دعونا نبحث عن إجابة بسيطة وسهلة من خلال وضع الإجابة أو بالأدق إذابتها في السياق الملائم للمرحلة المقبلة، فالدستور في الغالب سوف يضمن تحويل مصر إلي نظام برلماني أكثر منه رئاسي، بمعني أننا في حاجة إلي رئيس بمواصفات خاصة أهمها الخبرة والحكمة والوعي والقدرة وهي مهارات تتوافر في الرئيس مبارك وأيضاً نحن في حاجة إلي شعب جديد يستعيد الإمساك بزمام أمره ويستنهض قيمه الأخلاقية والحضارية ويبقي في حالة الوعي التي أفاقته وأفاقت المنطقة كلها من حوله. السؤال التالي والمنطقي الذي يمكننا أن نسوقه من الآن لكل من لديه الرغبة والقدرة في الترشيح للرئاسة سواء كان مبارك أو أي مصري آخر؟ ما هي رؤيتك لأولويات العمل الوطني في المرحلة المقبلة؟ ونعتقد أن الجميع حالياً في حالة إدراك تام للأولويات خاصة بعد أن كشفت ثورة 25 يناير كل التشوهات التي كان يعاني بل يئن منها الوطن وإن جاز لنا أن نسهم بالإشارة لأهم هذه الأولويات فهي الآتي: الأولوية الأولي: التركيز الشديد واستكمال قضية إعادة صياغة الدستور والتي تعد نقطة البداية نحو إعادة هيكلة وتصميم النظام السياسي الديمقراطي للجمهورية الثانية، حيث إن نتائج ذلك سوف تتلخص في: وجود قاعدة دستورية سليمة يؤسس عليها النظام السياسي الجديد وتتمثل هذه القاعدة في الدستور الجديد بما يحتويه من تعديل لمواده التي تكفل انتخابات برلمانية تحت إشراف قضائي ورقابة منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان المحلية والدولية وتضمن وجود حياة برلمانية سليمة بأعضاء يمثلون الشعب بحق ولديهم الوعي بالدور التشريعي والرقابي وانتخاب رئيس جمهورية بالاقتراع المباشر الحر والنزيه من بين كل من تتوافر فيهم شروط الكفاءة والنزاهة والوطنية.. وإنهاء حالة الطوارئ التي امتدت لحوالي ثلاثين عاماً وتسببت في حالة من الخوف العام لدي الكثيرين بالداخل والانتقادات من الخارج.. تكوين حكومة جديدة وقوية لديها رؤية استراتيجية وخطة واضحة ومسئولة.. هذا بالإضافة إلي إلغاء أو تعديل بعض القوانين التي تتماس مع هذه التعديلات الدستورية. ويقيناً فإن التعديل المزمع إجراؤه حالياً والذي يحول الحياة السياسية في مصر إلي نظام برلماني أكثر منه نظام رئاسي وهو أمر يتطلب بالضرورة تدعيم الحياة الحزبية وطرح آليات جديدة لإنشائها وضمان حريتها وبقائها. هذه هي الأولوية الأولي والتي تعد في رأيي بمثابة القاطرة السياسية التي يمكننا أن ننطلق خلفها بكل ما يدعم ويوفر حياة سياسية وديمقراطية في مصر.. وهي مرحلة سوف يتزايد معها التخلص من الكثيرين من رموز الفساد السياسي ومحاولة الدفع بكوادر من جيل الوسط تحسباً لأجيال الشباب التي حتماً ستلحق بهم خلال مدة لا تتجاوز السنوات العشر. الأولوية الثانية: ضرورة إعادة هيكلة الاقتصاد المصري مع الأخذ في الحسبان عدة نقاط مفصلية ومنها: 1 إن الثروات الحقيقية والتنمية المستدامة سوف تنبع من أسفل الهرم ففي حين يعيش بلا مبالغة ما يقرب من 80 مليون إنسان من الفقراء في قاع الهرم هناك مليون مصري من الأغنياء الذين فشلوا في إدارة ثروات البلاد وصنعوا الانهيار وسقطوا من علي قمة الهرم. 2 إنه قد تم تدمير معظم مكونات القاطرة الاقتصادية التقليدية المصرية والتي تمثلت في القلاع الصناعية الثقيلة مثل مصانع الحديد والصلب والأسمنت والألمونيوم والسكر والنسيج وكذا القضاء علي أهم قدرات الاقتصاد الزراعي المصري ولاسيما القطن طويل التيلة فضلاً عن عدم إعادة استثمار عائد أموال التخلص من هذه الروافد الاقتصادية مرة أخري واستعملت في المصاريف الاستهلاكية وسداد عجز الموازنة. 3 إن ثورة الشباب الجميل قد حركت الكثير من فئات المجتمع عن غير وعي بالضغط علي الحكومة بشكل يومي وهو أمر كبد الدولة خسارات تقدر بحوالي 300 مليون دولار يومياً موزعة علي الأنشطة الاقتصادية المختلفة السياحة الإنتاج البنوك والبورصة وغيرها. 4 إن مصر عاشت خلال السنوات العشر الأخيرة في مرحلة تخطت ما كان يعرف بفساد الإدارة إلي مرحلة أخطر وهي إدارة الفساد وهو أمر مكلف اقتصادياً علي الصعيدين الداخلي والخارجي ويطال بالخسارة كل المجالات الحيوية في البلد. 5 ضرورة تفعيل وتنقية الأجهزة الرقابية التي أنشئت في الأصل لخدمة الحياة الاقتصادية في مصر والتي منها جهاز المحاسبات والرقابة الإدارية والنيابة الإدارية والأموال العامة وغيرها. الأولوية الثالثة: الأمن القومي المصري وضرورة إعادة هيكلة منظومته سواء علي مستوي المؤسسة الأمنية أو جهاز الشرطة بجناحيها الأمن العام والأمن السياسي وإحداث التوازن المطلوب بينهما وأيضاً علي مستوي جهاز المخابرات العامة والانتباه إلي الاستمرار في تقوية المقدرات الحالية للقوات المسلحة وعدم إطالة أمد المرحلة الانتقالية لئلا تنشغل عن الخطر الذي يحدق بالدولة من الخارج والاهتمام بملفات الأمن القومي المهمة ولاسيما: ملف المياه ودول حوض النيل ملف المد الشيعي الإيراني ملف الفتنة الطائفية وضرورة إنهاء مسببات الاحتقان لدي الأشقاء في الوطن وسيادة مبدأ المواطنة والمساواة حياله. أيضاً ضرورة الانتباه إلي أن هناك أدوات وآليات جديدة تسهم بشكل فاعل في إعادة هيكلة منظومة الأمن القومي لا تعتمد علي القوة العسكرية أو القهرية ولكن باستخدام القوة الناعمة والأكثر تأثيراً وهي مخرجات التقدم الرقمي أو التكنولوجي ولاسيما الإنترنت والفيس بوك. والانتباه إلي أن هناك أجيالاً كثيرة قد تجمدت في أماكنها ولم تنل حظها في القيادة وبعضها تم القضاء عليه بسبب السقف الخرساني الذي أعطي فرصة لجيل ما بأن يتمسك بكراسيه حتي تخطي عمره السبعين وحتي الثمانين وهو أمر غاية في الخطورة ليس في ضياع فرص الأجيال اللاحقة ولكن تسبب في إصابة الأجيال الشابة بالإحباط وفقدان الأمل والتحول بسلوكه العادي إلي السلوك الإجرامي سواء كان إجراماً سياسياً أو جنائياً. الأولوية الرابعة: ملف الفساد والفاسدين، فرغم أهمية هذا الملف إلا أننا يجب أن نتعامل معه بحرفية وحساسية عالية أقرب للإدارة منه للعلاج لكي لا يستغرقنا ويأخذنا معه إلي الهاوية، فالفساد السياسي والإداري والاقتصادي والاجتماعي والديني مستشري كما شبكة العنكبوت ويحتاج لآلية خاصة ومحددة ومنفصلة تماماً عن باقي آليات إدارة الوطن في المرحلة المقبلة. الأولوية الخامسة: وهي في اعتقادي الأهم ولها الأسبقية لأنها ترتبط بأخلاقيات شعب عريق يحتاج من جديد للتركيز علي إحياء منظومته الأخلاقية والقيمية التي تحولت بسماته الرائعة التي تكونت بشكل تراكمي عبر آلاف السنين إلي منحدر سحيق، وهي أولوية مركبة تحتاج إلي إعادة هندسة منظومة الأسرة المصرية وإحداث ثورة في منظومة التعليم ومنظومة الإعلام الوطني وكل مصادر ثقافة الجيل التي تكون سلوكه. الأولوية السادسة: ضرورة إيجاد وتبني مشروع قومي جديد يلتف حوله الوطن بكل طوائفه وعناصره وشرائحه ويمتص الطاقات البشرية الهائلة والضائعة لشبابه ولاسيما مشروع د. فاروق الباز »ممر التنمية«. هذه بعض أولويات الوطن الذي منحه الجيل الجديد من الشباب شباباً وعمراً أجمل وأطول نضعها أمام القادم من القادة سواء كان بعودة مبارك أو تولي غيره، فالقادم حتماً مصري يتمتع بالوطنية وعلينا أن ننفتح بعقولنا لكي نتماشي مع الاتهامات ثورة 25 يناير. [email protected]