كتبت - حنان أبوالضياء: الإبحار فى سينما «صبرى موسى» تحتاج إلى الغوص فيما وراء المشهد، فالأشخاص لديه يملكون قدرات خارقة، نفاذة وقادرة على طرح المسكوت عنه فى عالمنا بلغة سينمائية راقية، بها كل المفردات التى تمتع المشاهد وتجعله يفكر فى ما يريد المبدع إيصاله إليه، ويبدو هذا واضحاً فى سيناريوهات أفلامه «البوسطجى» و«الشيماء» و«قنديل أم هاشم» و«قاهر الظلام» و«رغبات ممنوعة» و«أين تخبئون الشمس» و«حادث نصف المتر».. الأشخاص لديه تقيم علاقات مختلفة مع المشاهد ولها دلالتها التى تخرج من إطار الخاص إلى العام لتغوص معك فى أبعاد فلسفية مستندة على موروث ثقافى ذى منحنى أسطورى للمكان والزمان.. فهو عاشق للمزج بين ما يطرحه من رؤى معاصرة للإنسان الذى ما زال المكان متحكماً فيه مهما عاش فى بيئات مختلفة فهو فى النهاية ابن لأرضه ومكانه. رغم أن الإنسان هو القضية الأولى والمهمة فى سينما صبرى موسى إلا أن المسكوت عنه فى عالمنا هو الإطار الذى قدم فيه موسى رؤيته ككاتب سيناريو، خاصة فى فيلم «البوسطجى» الذى تعرض فيه ليس لحالة الفقر والجهل والمرض ولكن للكيل بمكيالين لمفهوم الشرف فى الصعيد والذى يفرق بين الذكر والأنثى، فبينما الأب الذى أخطأ مع الخادمة لا يحاسب على فعلته ويأخذها أهلها لقتلها, ونفس الشىء حدث مع الابنة، إلا أن هذا الشخص لم يفكر أنه فعل مثل ابنته, وكما تدين تدان.. فيتجه إلى قتل ابنته والافتخار بذلك، وما أجمل مشهد النهاية الذى لخص فيها صبرى موسى رؤيته والتى كانت قمة فى الإحساس من خلال مشاهد قدمت لغة سينمائية ليس لها مثيل فى تكوين الشىء وضده فى آن واحد بشكل ملحمى لا تخطئه العين.. لقد بدأ السيناريو سابقاً للأحداث فى الرواية على قطار الصعيد بأغنية مثيرة للشجن، وسرعان ما نرى البوسطجى رافضاً لعالمه الجديد بعد انتقاله من المدينة، مركزاً على شخصيات لم تكن بالرواية كالعمدة، وفى الحقيقة أن صبرى موسى ابتعد عن تقديم مشاهد العلاقة الخاصة بين جميلة وخليل واكتفى بإشارة جميلة إلى أن مصيرها أصبح بين يديه، وهو طريقة تبدو غاية فى الرقى فى تناول المشاهد الحساسة وهو ما ظهر جلياً وواضحاً فى فيلمه «حادث النصف متر» الذى قدم مرتين إحداهما فى سوريا، وهو من أعمال صبرى موسى المأخوذة عن قصة وفى تلك النوعية من الأعمال ترى المبدع صبرى موسى مغرقاً فى تعمقه داخل الإنسان بكل ما فيه من تناقضات غريبة لا تبدو على السطح إلا فى مواقف نادرة ولكنها مصيرية تحدد حياته المستقبلية وتشير إلى جذوره وأفكاره المخبأة بداخله والتى قد لا يعلم هو نفسه، وفى «حادث النصف متر» أعطاك أيضاً بعداً لم يقدم من قبل لقصة حب نضجت بعد انتهائها ونموذجاً لاقتران الحب بالشك من خلال وفاء واعترافها لخطيبها بعلاقتها بشاب يستشهد فى الحرب ثم تحدث بينهما علاقة جسدية وتحمل، فى البداية يسعد بالجنين ويحدد معها موعداً للزواج، ولكن صديقه يرفضها لأنها استسلمت له قبل الزواج مما يجعلها ترفض تردده وتجهض الجنين كإعلان لإجهاض الحب، ولا يركز الفيلم على المرأة ومتعتها الجنسية كمحور أساسى لأحداث الفيلم ولكن على مشاعرها، كاشفاً دواخلها فارتفع بالتجربة من مستوى المصادفة إلى منطق الضرورة، وفى الوقع أن قصة «حادث النصف متر» لاقت هجوماً كبيراً، التى وصلت إلى حد مطالبة مجلس الأمة وقتها بوقف نشرها، خاصة أنه طرح فيها نظرة المجتمع للشرف عند الفتاة، ولكنه تناولها بحساسية عالية بعيدة عن المباشرة المستخدمة لعلاج الموضوعات المنتهية الحساسية، طارحاً مفهوم الحب والعلاقة بين الرجل والمرأة، عند الرجل الشرقى يعيش حياته الخاصة فى سلسلة من العلاقات الحميمة ولكنه يرفض فكرة مرور حبيبته بتجربة عاطفية سابقة. على الجانب الآخر نهل صبرى موسى من رواية يحيى حقى «قنديل أم هاشم» التى تتحدث هذه الرواية القصيرة عن إسماعيل الشخصية التى نشأت فى حى السيدة زينب والتى واصل تحصيلها فى أوروبا فعادت إلى مصر لتكتشف الجهل والفقر. ويعيش إسماعيل فى صراع بين التخلى عن مجتمعه بكل ما فيه من موروث وإيمان بين الخضوع له كلية، وتعتبر شخصية إسماعيل شخصية متطورة، نتعرف عليها من خلال إحساس الشخصية بالمكان والنشأة الدينية والاجتماعية وانتزعه من بيئته وسافر إلى أوروبا، فانقطع عن قيمه وهدمت نفسيته الروحية، فعاش معركة الانفصال، أما شخصية فاطمة النبوية ابنة عمه فكل ما في تصرفاتها وشكلها يدل على أنها قروية بسيطة، أما مارى زميلة إسماعيل الفتاة الألمانية المتحررة من القيود، تنظر إلى الحياة نظرة مادية وتحررها لا يصطدم بالعادات والتقاليد وكلام الناس، أثرت فى شخصية البطل إسماعيل وبدلت قيمه الشرقية الدينية والاجتماعية.. أما القنديل فمثل شكل الإيمان وتتغير حالة القنديل تبعاً لحالة إسماعيل.. وصبرى موسى أراد عند كتابته هذا الفيلم تقديم رؤية خاصة لمفهوم الإيمان بالمعتقدات المتوارثة التى قد تصل بيننا إلى حد الإيمان بالخرافة، ولكنه فى نفس الوقت أعطى رسالة محددة وهى أننا إذا أردنا التخلص من تلك الخرافات فليس علينا رفضها المباشر العنيف بسلاح العلم فإن هذا قد يؤدى هذا إلى نتيجة عكسية لأن البسطاء من الصعب إقناعهم بأخطاء ما توارثوه ويجب التدرج فى تناول تلك القضايا، ولقد كان صبرى موسى موفقاً إلى حد كبير لأن أفكاره المشبع بها ضد رفض الخرافة وفى نفس الوقت احترام كينونة الشخص المعتقد بها جعلت من شخوصه السينمائية بالفيلم أناساً من لحم ودم ساعدت كثيراً فى وصول المضمون الذى يريده بطرح النموذجين، نموذج الذين تربوا على العادات والتقاليد الخاطئة والمتراكمة وبين شخص منهم قادم من الخارج بالعلم. أما علاقات الحب المعقدة والغريبة فسنراها عند صبرى موسى فى علاقة الحب الصامت فى فيلم «رغبات ممنوعة» للمخرج أشرف فهمى بين فتاة فاتها قطار الزواج وأبيها وعمتها، إنها علاقة إنسانية غريبة تصل فيها قسوة الأب وعدم إيمانه بالحب إلى حد قتل زوج الأخت التى تصاب بالجنون وكبت الابنة.. إنه فى هذا الفيلم يعود للعزف من جديد على نظرة الشرقى لحقوق المرأة فى الحب. ومن الأفلام العراقية المهمة التى كتب لها السيناريو صبرى موسى وصنعت تاريخ السينما العراقية فيلم «الأسوار» المأخوذ عن رواية الأديب عبدالرحمن الربيعى «القمر والأسوار»، وقد حاز الفيلم على جائزة دولية كبرى هى ذهبية مهرجان دمشق السينمائى الدولى فى عام 1979 وعده النقاد من أهم الأفلام السياسية فى الوطن العربى، وقام بإخراجه وعمل المونتاچ له محمد شكرى، وبطولة الفيلم مجموعة من الفنانين أبرزهم سامى عبدالحميد وسعدية الزيدى وإبراهيم جلال، الفيلم يتناول جانباً من نضال الشعب العراقى ضد الاستعمار البريطانى وأذنابه العملاء والرجعية من خلال شخصية المواطن «محسن» الذى يواجه قوى أكثر مقدرة منه، لكن عزيمته لا تلين، لأنه مقتنع بعدالة قضيته فيودع السجن لكنه لا يتوقف عن حبه للحياة والحرية. ويواصل إطلاق سخرياته التى أزعجت السلطات الحاكمة فذبحته ليكون عبرة لغيره. لكن صديقه «عباس» يستكمل مسيرته ضد قوى الطغيان. وهناك الفيلم المغربى «أين تخبئون الشمس؟» من إخراج عبدالله المصباح، وتناول فيه قصة امرأة عاشت مجزرة فى لبنان على أيدى الإسرائيليين، رأت زوجها يذبح مما جعل المثل تهتز أمامها، تهرب من تل الزعتر وتفقد ثقتها بكل شىء وتعيش مع شباب «الهيبيز»، ثم يحدث التحول من شاب يقدم نموذج الشاب المختلف، هذا الفيلم يعتمد فى تقديم فكرته من خلال استخدام النقيضين بصورة واضحة، إننا فى سينما صبرى موسى، نرى الإنسان على حقيقته، وأعتقد أنه من أكثر المبدعين المبحرين داخل النفس البشرية. أما فيلم «قاهر الظلام» الذى تنكر منه صبرى موسى كفيلم سينمائى لأنه ترك المضمون الذى أراده صبرى موسى عندما قرر تقديم شخصية طه حسين فى فيلم، فبرؤيته كمثقف ومبدع رأى أن المدخل لتلك الشخصية يكون من خلال المجادلة التى حدثت بين الأزهر وطه حسين، ولكن يبدو أن المخرج الراحل عاطف سالم لم يتحمل الدخول فى مناقشة توابيت أدخلنا فيها أنفسنا حتى تحول الأزهر من منارة للاستنارة إلى جهة تفرض عليك قوانين، وكأنها أنزلت من السماء وأصبح الاقتراب حتى من جدل أثير ونقله سينمائياً أمراً يخاف منه. لذلك فأنا أرى أن فيلم «قاهر الظلام» لا يعد أحد أفلام صبرى موسى حتى وإن كتب عليه اسمه. وأعتقد أننا فى حاجة لإنتاج عمل حقيقى عن طه حسين الذى اشتهر بحبه للجديد ومحاربته للجهل والتقاليد والقديم، وبحث فى هوية مصر وثقافتها وأبعادها المختلفة وآمن ببعدها المتوسطى، وأن مصر أقرب للغرب أكثر من قربها للشرق، وحث على أهمية العلم فى كافة المجالات واتباع مناهجه الحديثة، وكانت آراء وأفكار وكتب طه حسين أحد أسباب النقد الدائم الذى لم يفارق الرجل الثائر على الجمود والتقاليد الفاسدة حتى وفاته.. وامتد الأمر وخرج بعيداً عن إطار النقد واللوم والرأى والرأى الآخر على صفحات المجلات والجرائد إلى أروقة المحاكم وفتاوى التكفير والزندقة، حيث أثار كتابه «فى الشعر الجاهلى» ضجة كبيرة فى الأوساط السياسية والثقافية المصرية، حين نشره عام 1926 وطالب البعض بتكفير كاتبه، وقدم آخرون دعوى قضائية ضد طه حسين وصلت حتى النيابة العامة، إلا أنه تمت تبرئته إضافة إلى المبارزات الثقافية التى دشنها هذا الكتاب بين طه حسين ومصطفى صادق الرافعى وغيره من الكُتاب بسبب الكتاب.. وأعتقد أن هذا ما كان يريد صبرى موسى تقديمه فى الفيلم. وهناك مسلسل إذاعى «السيد فى حقل السبانخ» عن رواية صبرى موسى، إعداد محمد إسماعيل، إخراج عصام العراقى، تمثيل: جلال الشرقاوى وإنعام الجريتلى وخالد الذهبى وحلمى فودة ومخلص البحيرى ورشوان سعيد وأحمد صيام وإبراهيم الشرقاوى وأحمد خليل وطارق إسماعيل وعبدالعزيز زكى وجلال الهجرسى. وتتحدث فكرته عن السيد هومو من حقل السبانخ يتوقف عن تيار الحياة اليومية فى عصر العسل بعد الحرب الإلكترونية الأولى فى القرن الرابع والعشرين، تبحث الزوجة السيدة ليال عن زوجها الذى تأخر عن موعده، فقامت بالاتصال بالإدارة تسأل عن زوجها السيد هومو الذى يعمل بحقل الاستنبات الضوئى بحقل السبانخ الموحد، فيبحث المدير المحلى للأمن عبر شاشات إلكترونية تتناسب مع القرن الرابع والعشرين ثم تتعرف عليه عبر إحدى شاشات البحث، من هنا تبدأ قصتنا. لقد أخل السيد هومو بتيار الحياة اليومية ولم يركب المركبة الهوائية لتقله إلى منزله لماذا؟.. لقد أراد جرعة من الحرية. عندها يسأل مدير الأمن السيدة ليال: هل لاحظت على زوجها شيئاً غريباً فى الفترة الأخيرة يفكر مثلاً؟.. تلك هى الصورة التى أراد الكاتب أن يرسمها عن العصر القادم تكنولوجيا تسيطر ولا يعد هناك مجال للتفكير أو المشاعر أو الجمال.. والطريف أننا سبقنا هذا العالم ونعيشه حالياً، حيث ألغيت العقول وسيطر الفكر الوحدوى المتطرف. وإذا اقتربت من روايته العالمية «فساد الأمكنة» التى تعود إلى ليلة قضاها صبرى موسى فى «جبل الدرهيب» بالصحراء الشرقية قرب حدود السودان، وبطل الرواية نفسه، آى نيكولا، مهاجر من مدينة روسية صغيرة مقدما الصراع الأزلى ما بين الطبيعة والإنسان والأهواء، ستجد نفسك أمام الروح التى استمد منها بابلو كويلو الخيميائى والتى رأينا روحها فى مسلسل «الخواجة عبدالقادر»، فهى تلك السعادة المشوبة بالاستغراق فى البحث عن الذات وإيجاد سبب للوجود، ففى رواية كويلو نحن أمام راعٍ أندلسى شاب يدعى سانتياجو يمضى للبحث عن حلمه المتمثل بكنز مدفون قرب أهرامات مصر.. والخواجة عبدالقادر خارج من إنجلترا باحثاً عن حلم الموت الذى يتحول بعد ذلك إلى حلم البحث عن الحب والتفانى فى الخالق، الأول بدأت رحلته مع إسبانيا عندما التقى الملك ملكى صادق الذى أخبره عن الكنز عبر مضيق جبل طارق ماراً بالمغرب حتى بلغ مصر، وكانت توجهه طوال الرحلة إشارات غيبية، وعبدالقادر بدأ رحلته من إنجلترا إلى السودان، ثم إلى سوهاج وكانت إشارته الشيخ عبدالقادر الذى يراه فى الحلم، كلاهما يتعرض للعديد من المشاكل والأشخاص الذين يقفون أمام تحقيق الحلم، الأول يرافق رجلاً إنجليزياً ويبحث عن أسطورته الشخصية ويشهد حروباً تدور رحاها بين القبائل إلى أن يلتقى الخيميائى عارف الأسرار العظيمة الذى يحثه على المضى نحو كنزه.. إن الأعمال الثلاثة تبحث عن جوهر الإنسان وعلاقتها بالمكان وإن كانت الأسبقية لصبرى موسى.. المبدع سابق الزمان والمكان.