انتصف الليل، وزئير الباب يعلن عن مجيئه، تنصت عينان صغيرتان مشحوذتان نحو ذلك القادم، انه الزائر المعتاد لليالٍ بعينها، تسرع العينان بالانسحاب فى خزى وتزداد الهمسات والضحكات المكتومة قبل أن تطويها احدى الغرف. هو لا يذكر عدد السنين التى شهدت تردد ذلك الرجل على أمه، لكنه منذ بدأ تمييز الوجوه جيدا وقد حفرت ملامحه فى رأسه، وربط بين غياب أبيه فى عمله لأيام وظهور الآخر. منذ تخطيه سن الحادية عشرة وشىء بداخله ينبئه بأن الامر مخزٍ، حاول أن يخفى نظرات الكره والشك تجاه أمه، حاول ألا يشعرها بمعرفته سرها لكنها عرفت، ذات يوم لمحته يختلس النظرات من وراء أحد الابواب، هددته بالضرب اذا اخبر احدا وخاصة أباه، لكنها ابدا لم ترتدع ولم يكف الآخر عن المجىء، بينما خاف هو من تهديدها وراح يختلس النظرات بحرص اكبر، وشعور بالعار يملؤه واحساس بالشفقة تجاه أبيه يغمره، واحساس اكبر بالعجز يتملك رجولته. خائنة أنا.. ربما.. لكن أحدا لا يعى ما بداخلى، بل لا يشعر بى سواه، هكذا كنت وهكذا صرت، كنت فتاة مغلوبة على أمرها، ليس من حقى ابداء الرأى فى من تقدم للزواج بى، وكيف ذلك وهو ابن عمى الذى كُتب على أن اصبح له منذ ولدت، وهو.. هو جارى وصديق ابن عمى لكن حبا ربط بين قلبينا منذ كنا صغارا وتمنينا ان يكلل بالزواج، رغم علمنا باستحالته حاولنا، وكان الرفض نصيبنا، والتعجيل بزفافى لابن عمى نتيجة محتومة، ورغم طيبة زوجى ورغم طفلى الا ان قلبى لم ينس الاخر، وظل هو الحلم المراود لملل حياتى، حتى قابلته صدفة ذات يوم وكأن سنتين لم تمرا، تواعدنا مرارا والتقينا كثيرا وكسرنا كل الحواجز بيننا، حتى صار الأمر معتادا لاثنتى عشرة سنة كاملة.. لكن.. لكن زوجى بدأ يشك بى.. بعد كل تلك السنين بدأ الشك يداعبه، فهل أترك الآخر.. مستحيل.. اذن ما الحل.. ما الحل؟ هو صديقى.. هكذا كان منذ سنوات، قبل ان يخطف حبيبتى ويحرم قلبى من حلمه الوحيد، فتحول حبه وسنوات طفولتنا وشبابنا الى رغبة تتملكنى بالانتقام منه، سأستعيدها، سأمتلكها رغما عنه، ستكون لى. وحدى اعلم انه مخدوع وغبى، ووحدى أهزأ به وانتصر لقلبى. سيكتشف الامر.. هذا ما قالته لى ..فليكن ..لن اتركها مهما حدث، حتى لو كانت حياته هى الثمن.. لن اتركها. الليلة زفاف ابنة خالتى، يفصلنا عن بلدتها مسافات زراعية شاسعة، اصرت امى على ان نقطعها مشيا حتى نتنسم هواء الليل العليل. يمسك ابى بكفى الصغير ويبتسم فى ود هامسا «عقبالك».. لا أدرى لِم شعرت بحزن بعينيه وهو ينطق حروفها، بل لِم أحسست بداخلى بأسى لا سبب له، وفجأة قررت ان اخبره بسرها.. نعم سأفعل، انه لا يستحق ان يخدع اكثر من ذلك وهو الزوج والاب الحنون.. سأخبره بعدما نعود من زفاف ابنة خالتى.. الليلة. توقفت أمى عن السير هاتفة بنا «سأربط حذائى.. توقفا». وتوقفنا.. ادار كل منا ظهره للزراعات ونظرنا تجاه أمى وهى منهمكة فى ربط الحذاء، أحسست وكأن أصابعها ترتعد ..هل كانت حقا ترتعد. انتزعتنى صرخة مكتومة، نظرت الى مصدرها فاذا أحدهم وقد ظهر من بين الزراعات يهجم على ابى من الخلف ويكيل له طعنات بالسكين، صرخت، حاولت ان القى بنفسى نحوه، لكن يدين شديدتين امسكتا بى وابعدتانى عن المشهد، التفت فاذا بها امى، قاومتها وعدت لأصرخ.. ابى ابى، كتمت انفاسى بيد غليظة وسيطرت على جسدى الضئيل، اختنقت صرخاتى واختنقت الدموع بعينى وانا ارى ابى يذبح امامى وتسحب جثته بين الزراعات. ابتلعت قهرا يسكننى وسددت نظرات حاقدة تجاهها.. وتجاهه.. خرج من بين الزرع بعدما وارى جثة ابى، نظر الى بقسوة ودماء ابى تقطر من بين اصابعه. اتجه نحوى ولطمنى بعنف وخرج صوته كالفحيح مهددا اياى بالقتل ان أخبرت أحدا بما رأيت، بينما هى تركتنى بعد ان اطمأنت لصمتى واسرعت تجاه الجثة لتتأكد من موته، خرجت بعدها ممسكة بحجابها بين يديها وقد اغرقته الدماء قائلة انها خنقته به لتؤكد موته. فى تلك الليلة لم اختلس النظرات عليهما، اغلقت باب غرفتى جيدا وابتلعتنى دموعى، لكن احساس العجز تلك المرة غادرنى.. نعم غادرنى. ثلاثة أيام مرت والبكاء لم ينقطع عن عينيها، جميعهم يصدقون حزنها ووحدى اعرف الحقيقة. احكمت قبضتى على ذلك الكيس البلاستيكى وانا أتجه بخطوات حاسمة نحو باب القسم، دلفت الى غرفة الضابط ووضعت أمامه ذلك الكيس، وحذرته من ان يلمس ما به، فان بصماتها عليه ودماء ابى تغرقه، ثم رحت اقص عليه كل شىء.