عندما تكونت الدولة العراقية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية، تشكلت دولة العراق من 3 ولايات عثمانية هي «الموصل والبصرة وبغداد». لكن ظلت ولاية الموصل مشكلتين أساسيتين داخل الدولة العراقية الجديدة، تتمثل الأولى في مطالبة تركيا بهذه الولاية على أساس أنها جزء لا يتجزأ من تركيا، والسبب الحقيقي لهذه المطالبة هو احتواء الولاية على مخزون نفطي كبير، بينما تتمثل المشكلة الثانية في احتواء الولاية على مجموع المناطق الكردية العراقية الرئيسية، وهي السليمانية وأربيل ودهوك، حيث طالب الأكراد الساكنون في هذه المناطق بكيان مستقل أسوة بالدول الجديدة التي أنشئت في هذه المنطقة. وبعد أن استقرت الدولة العراقية ظهر ما يثبت أن العراق اعترف بالوجود الكردي، ولم يمنع الأكراد من استخدام لغتهم، ومن حقهم التمسك بهويتهم القومية، في حين أن تركيا وإيران كانتا قد أنكرتا على الأكراد كل شيء يثبت هويتهم الكردية المتميزة، بل إنهم منعوا حتى من ارتداء أزيائهم القومية التقليدية، وهكذا يمكن القول إنه لم يجر في العراق أي تمييز بين العرب والأكراد، بل إن الموالين للنظام الملكي العراقي من الأكراد وصلوا إلى أعلى المراتب الرسمية، في حين أن الأكراد المعارضين لهذا النظام تمتعوا بمراكز قيادية في الأحزاب العراقية المعارضة للملكية. وبعد سقوط الملكية في العراق وإقامة الجمهورية في يوليو 1958 فتحت للأكراد آفاقا جديدة من الحرية والتسامح، وبدأ القادة الأكراد يتحركون ويعملون بحرية غير مسبوقة وسمح للمهاجرين منهم بالعودة إلى العراق، وعلى رأسهم الملا مصطفى البرزاني، كما بدأوا بإصدار الصحف والمجلات والمنشورات والقيام بمهرجانات ثقافية وسياسية حتى قبل إجازة حزبهم، وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة البرزاني من قبل رئيس الوزراء آنذاك اللواء عبد الكريم قاسم عام 1960. بل وحظي الكرد بحكم ذاتي خلال السنوات الأخيرة من حكم البعث، وتمكنوا من تقنين هذا الوضع دستوريا في دستور البلاد الجديد عقب 2003، بعدما رفضوا في استفتاء عام 2005 إعلان الاستقلال واختاروا البقاء ضمن الدولة العراقية. لكن ظهور تنظيم داعش الإرهابي منذ أكثر من 3 سنوات أسهم فى تعزيز وضع الأكراد نتيجة ضعف الدولة المركزية فى العراق بعد الدور الذي لعبوه في مواجهة هذا التنظيم الإرهابي، وزاد من جرأتهم لتحقيق حلمهم القديم في دولة مستقلة. تعرف قيادات أكراد العراق أن الانفصال الكامل مستحيل في الظرف الراهن، وأن عليهم أن يكتفوا بتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية جديدة مستفيدين من المناخ العام في المنطقة، ومن تراجع تنظيم داعش. لكن يبدو أن كرد العراق، بالاستفتاء على استقلال الإقليم والذي جرى في 25 سبتمبر الماضي، يتصرفون ضمن مخطط دولي واضح لتقسيم المنطقة وضرب الثقل السياسي والاقتصادي لواحدة من أهم الدول العربية، وهي العراق. وبرغم ظهور نتيجة الاستفتاء بالموافقة على استقلال الإقليم، إلا أن تحقيق حلم إنشاء دولة كردية مستقلة طبيعية يبدو ضربا من ضروب المستحيل أشبه بالجنين الذي يولد ميتا، ذلك لأنها تنشأ في مستنقع من الرفض الدولي والإقليمي الحاد، ووسط تهديدات من الحكومة المركزية في بغداد، ومن الجيران ومن غيرهم، باستثناء إسرائيل التي تدعم بقوة تلك الدولة المفترضة. بموجب الوضع الجيوسياسي الحالي، فإن أي دولة مستقلة لكردستان ستكون مختنقة بالمعنى الحرفي بأيدي جيرانها، لأنها إذا أرادت أن تصدّر نفطها وتستورد، وتصدّر المنتجات التجارية والزراعية، وتضمن حرية تنقّل مواطنيها، وتكون على صلة مباشرة مع العالم الخارجي؛ فلا بد لها من أن تراعي بعض متطلبات وربما شروط دول الجوار لنجاح أجندتها الوطنية. خاصة إذا علمنا بأن تركيا مثلا هي التي تتحكم في كافة مفاصل الحياة الاقتصادية والأمنية والتجارية والسياسية للإقليم دون منازع. كما أن الكيان الجديد سيواجه تحديات كبيرة، فأبرز امتحان ستواجهه الدولة المتوقعة - بعد امتحان فك الارتباط مع العراق ونيل الاعتراف الدولي- هو سبل التعايش مع جوار إقليمي رافض لقيام دولة في كردستان. الدولة الناشئة ستجد نفسها في عزلة، مطوقة بالكامل من الأعداء العرب والفرس والأتراك، إلا إذا استثنينا متنفس الحدود السورية كمنطقة رخوة بسبب الحرب الدائرة حاليا، رغم أن أمر سيطرة أكراد سوريا عليها لم يحسم بعد. كما ستجد الدولة المفترضة نفسها إزاء صراعات داخلية لا مفر منها مع أقليات قومية ستكون جزءا من الدولة الجديدة، وهم العرب والتركمان والسوريون. فالأكراد أدخلوا عددا من المناطق المتنازع عليها مع العراق ضمن الاستفتاء المنظم. ومن المصادفة أن هذا التوتر القومي سيتركز أساسا بالمناطق الغنية بالنفط، وهذا ما سيضفي على الصراع طابعا اقتصاديا. ولا شك أن الأقليات القومية تلك ستجد عونا من دول الجوار؛ فتركيا ستجد الفرصة للتدخل بحجة دعم التركمان، وكذلك سيفعل العراق بالنسبة للأقلية العربية. ومن المتوقع أن تكون مجالات الاختلاط القومي تلك، الغنية بالنفط، جزءا من صراع مقبل بين الدولة الجديدة والعراقوتركيا وإيران؛ فبالنسبة للعراق هناك مشكلة موروثة عن فترة تطبيق الحكم الذاتي في الإقليم، حيث لم يقع ترسيم الحدود بين الإقليم والعراق الفيدرالي، كما لم يُحسم أمر عدد من المناطق التي ظلت موضع خلاف بين الجانبين، مثل كركوك ومناطق من محافظة ديالى ونينوى. ومن ناحية أخرى فإن تركيا، التي تعتبر المنفذ الوحيد لمرور أنابيب النفط الكردي نحو الخارج، تتمسك بحقها في حماية الأقلية التركمانية التي تستقر بعدد من محافظات كردستان وشمال العراق، في محافظاتكركوك ونينوى وأربيل وديالى، وخصوصا في مدن كركوك وتلعفر وأمرليوط وزخورماتو وكفري والتون كوبري وداقوق. ويرتبط التركمان مع تركيا بعلاقات ثقافية ولغوية وثيقة، بحكم انحدارهم من قبائل الغز من الأوغوز الأتراك. يؤكد المراقبون أن خطورة قيام هذه الدولة التي تفتقد كثيرا من عوامل الحياة، أنها تعطي لإسرائيل اختراقا فاعلا للدول الأربع التي تناصبها العداء بتفاوت، وهي العراق وإيران وتركياوسوريا. كما أن قيام دولة كردية في شمال العراق هو بالنسبة لإسرائيل عبارة عن مقدمة لقيام دولة كردية أكبر في المنطقة ترتبط معها بشراكة استراتيجية تقلص من عزلتها، وتزيد من هامش المناورة أمامها في التأثير على المشهد الإقليمي.