ظهرت دراسات وكتابات كثيرة عن تاريخ جماعة «الإخوان المسلمين» وأفكارها، لكنّ هناك نقصاً فادحاً في دراسة رؤية الجماعة للتاريخ، خصوصاً تاريخ مصر المعاصر، وذلك على رغم أهمية هذا الموضوع، والذي يكشف عن رؤية سطحية وانتقائية، توظف التاريخ وفق مصالح «الإخوان» ومتطلبات الصراع على السلطة الذي شغل الجماعة أكثر بكثير من إصلاح الفرد والمجتمع. توظيف التاريخ لمصلحة السياسة هو منهج عمل وأسلوب حياة لدى الجماعة، بدليل أن «الإخوان» وظّفوا الإسلام نفسه لمصلحة السياسة المتغيرة والمتقلبة. من هنا يرى البعض أن «الإخوان» ليست لديهم رؤية حقيقة لتجديد الإسلام، على رغم كثرة الحديث عن هذا الموضوع، وبالمثل ليست لديهم رؤية للتاريخ. فالجماعة على رغم حضورها السياسي الممتد لأكثر من 80 عاماً لم تهتم بالأمور الفقهية أو الفكرية، وبالتالي لم تهتم ببناء رؤية للتاريخ، أو رؤية لإقامة الدولة الإسلامية واستعادة الخلافة. لقد غلّب «الإخوان» الجوانب التنظيمية والسياسية على الجوانب الفكرية، وتمسكوا بأفكار ووصايا حسن البنا مؤسس الجماعة (1949 - 1906)، والتي تجاوزتها الأحداث، وأصبحت غير قادرة على استيعاب متغيرات العصر، علاوة على التطور التنظيمي للجماعة. لكن قناعتي أن براغماتية «الإخوان» وجمود أفكارهم لم يمنعاهم من تبني رؤية للعالم ولتاريخ مصر المعاصر. صحيح أنها رؤية انتقائية بسيطة ومتحيزة مثل أي قراءة تتبناها حركة سياسية، لكنها تظل رؤية لها منطلقات وأهداف ودور في تبرير وجود ومشروعية الجماعة لدى أعضائها، وقد خضعت هذه الرؤية الأيديولوجية للتاريخ للعديد من التحويرات والتعديلات، فمثلاً كان حسن البنا معجباً بما قام به هتلر في الثلاثينات من القرن الماضي في ألمانيا، وتحدث في دراسة له بعنوان «حركات النهضة والتغيير» عن عدد من تجارب النجاح، منها الدولة العباسية والدولة الأيوبية والدولة السعودية وهتلر، حيث كتب: «من كان يصدق أن ذلك العاهل الألماني هتلر يصل إلى ما وصل إليه من قوة النفوذ ونجاح الغاية». يسكت «إخوان» اليوم عن إعجاب حسن البنا و «إخوان» الثلاثينات بهتلر وموسوليني، بل وإعجابه بالدولة العباسية والأيوبية، ويقدمون رؤية للتاريخ وفق ما يرونه نافعاً أو مفيداً للجماعة. في هذا الإطار قرر مرشد «الإخوان» السابق مصطفى مشهور (صاحب مقولة «طظ في مصر») تشكيل لجنة رسمية من بين أعضاء الجماعة -بعضهم من أساتذة التاريخ- لكتابة تاريخ «الإخوان»، وقد نشرت اللجنة كتاباً بعنوان «أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين» نشر تحت اسم حركي للأستاذ جمعة أمين عبدالعزيز. ويتضمن الكتاب رؤية «الإخوان» لتاريخ مصر المعاصر، وجاء في مقدمته وبقلم مصطفى مشهور: «لقد أذن الله لهذه الجماعة أن تحمل راية الإسلام بعد أن عمل اليهود –وهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا– على إسقاط الخلافة، ثم عملوا على زعزعة العقيدة في نفوس أهلها، ثم جاء الاستعمار فقسم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات، وصارت أمة الإسلام –بعد أن كانت الأمة الواحدة القوية العزيزة– أمماً متعددة ضعيفة، بينها من الخلاف أكثر مما بينها من الوفاق، وهكذا فقد المسلمون الراعي الذي يرعاهم، والوحدة التي تدعمهم وتقويهم...». ويلاحظ أن مؤامرة اليهود والاستعمار التي يبدأ بها مشهور كتاب «رؤية الجماعة للتاريخ المعاصر» حاضرة بقوة داخل الكتاب، جنباً إلى جنب مع مؤامرة التبشير المسيحي، والصراع بين الوافد الغربي الضار والموروث الحضاري الإسلامي، والذي قام حسن البنا بتجديده من خلال مشروع جماعة «الإخوان». وبغض النظر عن الأخطاء والتحيزات في كتاب «أوراق من تاريخ الإخوان» أو غيره من مؤلفاتهم، فإنها تقدم رؤية مكتوبة لتاريخ مصر المعاصر، تختلف كثيراً عن السرديات الشفهية التي يتداولها «الإخوان» في ما بينهم، أو تصدر عن قيادات «الإخوان» للأنصار أو المتعاطفين، حيث تتوسع هذه السرديات في المبالغات والأكاذيب من دون رقيب، وبعيداً من النقاش العام، خصوصاً في مواضيع تتعلق بفكرة المؤامرة، والصدام مع عبدالناصر والمظلومية، ودور الجماعة في حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار، وفي حرب فلسطين، وفي تجديد الفكر الإسلاموي وإصلاح المجتمع، وتحفل تسجيلات الشيخ كشك وغيره من الدعاة بكثير من تلك السرديات، وجاء صدام «الإخوان» مع الجيش والمجتمع في 30 حزيران (يونيو) 2013 ليعزز هذه السرديات ويمدها بزاد جديد. والغريب أن شطط بعض السرديات الشفهية نشر في كتب مؤلفين من «الإخوان» أو قريبين منهم أمثال زينب الغزالي، وجابر رزق، وعلي جريشة، وأحمد رائف، ومحمد جلال كشك، كما نشرت على نطاق أوسع في صحفهم وعلى المواقع الإلكترونية التابعة للجماعة. أعتقد أن رؤية «الإخوان» للتاريخ، سواء كانت مكتوبة أو شفهية، تنطلق من عدد من الثوابت التي تشترك فيها مع أغلب الجماعات الإسلاموية وأهمها: أولاً: استعادة الإسلام الصحيح والخلافة الإسلامية كما كانت عليه في عصر الخلفاء الراشدين، فالتاريخ مقسم إلى ثلاث مراحل هي: ما قبل ظهور الإسلام، ثم مرحلة ظهور الإسلام في عصر النبوة والخلفاء الراشدين، والمرحلة الثالثة والأخيرة هي ما بعد الإسلام، والتي شهدت منذ قرون قطيعة مع الإسلام الصحيح، وبالتالي فإن جماعة «الإخوان» التي تدعي تجسيد الإسلام مكلفة باستعادة صورته النقية، وإقامة دولة الخلافة. ثانياً: عدم الاهتمام بالوطنية المصرية كرابطة قومية وتفضيل الانتماء الى الأمة الإسلامية ودولة الخلافة التي عليهم إقامتها من جديد. ووفق مؤسس الجماعة حسن البنا فإن الغاية القريبة ل «الإخوان» هي إصلاح الفرد، وبناء الأسرة المسلمة، وإرشاد المجتمع، أما الغاية البعيدة فتشمل إصلاح الحكومة، وإعادة الخلافة، وتحقيق السيادة، وأستاذية العالم. ثالثاً: رفض ما استقرت عليه الرؤية الوطنية لتطور تاريخ مصر منذ الحملة الفرنسية عليها عام 1798 والتي كشفت عن أهمية تحقيق النهضة، وهو ما تجسد عملياً في محاولة محمد علي باشا بناء مصر الحديثة، حيث يرفض «الإخوان» أغلب ما استقر عليه المؤرخون الوطنيون -على ما بينهم من خلافات- ويطرحون رؤية مغايرة تقلل من أهمية دور محمد علي، ومكتسبات الحركة الوطنية وثورة 1919. وتطعن رؤية «الإخوان» للتاريخ في صدقية وجدوى المرحلة شبه الليبرالية في مصر (1923 - 1952)، ويصورون تلك المرحلة على أنها شهدت انهياراً أخلاقياً ودينياً وسياسياً واقتصادياً، ولا يذكرون شيئاً من إيجابياتها، وتكفي هنا الإشارة إلى ما جاء في كتاب «أوراق من تاريخ الإخوان» عن تيار التحلل الأخلاقي والعقائدي، وسفور المرأة، وانتشار الفساد والإباحية، التي عمت مصر مع محاولات العلمنة وانتشار حركات التبشير، علاوة على أن الاحتلال البريطاني احتوى كل الأحزاب المصرية ما عدا الحزب الوطني «إن الأحزاب لم تنطلق من الفكر الموروث للشعب، -أي الفكر الإسلامي- بل الليبرالية الغربية، فكر المستعمر...». رابعاً: مركزية دور حسن البنا وجماعة «الإخوان» في محاولة إصلاح التردي الشامل الذي عاشته مصر في المرحلة شبة الليبرالية، حيث تبالغ الرؤية «الإخوانية» لتاريخ مصر في تصوير عبقرية مؤسس الجماعة ومواهبه الفكرية والتنظيمية ومناقبه الشخصية، حيث وصفه على سبيل المثال محمد عبدالحميد أحمد، أحد قيادات «الإخوان»، بأنه «عنصر خلود» عجيب بين مقومات المادة ومعالم الفناء، كان «شحنة إلهية» فذة سرت في أعصابها أقباس النبوة، وأنوار الدعوة، وروح محمد (صلي الله عليه وسلم)، وأعتقد أن مثل هذه المبالغات أضفت على حسن البنا نوعاً من القدسية لدى أنصاره، منعتهم من مراجعة أفكاره أو تجديد منهجه وأسلوبه في الدعوة والعمل السياسي، ما أدى إلى جمود فكر الجماعة وفشلها في تجديد خطابها. خامساً: العداء الشديد لثورة تموز (يوليو) 1952، والتي أدت من وجهة نظر «الاخوان» إلى حكم الجيش، أو ما يطلقون عليه «العسكر»، وقد امتد هذا العداء عبر صدامات دموية بين الطرفين بسبب الصراع على السلطة، وليس بسبب عداء الدولة في مصر للإسلام كما يدعي «الإخوان». والثابت أنهم تعاونوا مع الضباط الأحرار ثم اختلفوا معهم، ودخلوا في صدامات مع عبدالناصر، وعلى رغم التحالف والتعاون الموقت مع السادات فإنهم سرعان ما انقلبوا عليه، وهكذا استمر العداء والصدام مع مبارك وصولاً الى الرئيس السيسي، وفي هذا السياق يبالغ «الإخوان» في نقد الطبعات المختلفة من دولة يوليو 1952، ولا يعترفون بأي إنجاز لها، فعبدالناصر شيوعي متخفّ، وتديّن السادات مصطنع، وكل رؤساء مصر هم مجرد أدوات في يد التحالف اليهودي الاستعماري المسيحي! سادساً: التسليم المطلق لفكرة المؤامرة حيث تعرض الإسلام والعالم الإسلامي لمؤامرات اليهود والاستعمار المسيحي، ما أدى الى زوال الخلافة وتمزيق الأمة الإسلامية، واستعمار الدول العربية والإسلامية، واحتلال فلسطين. وتؤمن الرؤية التاريخية «الإخوانية» بأن التاريخ ما هو إلا مؤامرة كبرى، يبدو فيها العرب والمسلمون دائماً في موقع المفعول به، والعاجز عن المقاومة لأنهم بعيدون عن الإسلام الصحيح، وفي هذا الصدد أستشهد بعمر التلمساني المرشد السابق ل «الإخوان» الذي كتب في مجلة «الدعوة» عام 1980 «وضح كل ما قلناه من أن الولاياتالمتحدة والغرب من جهة، والاتحاد السوفياتي من جهة ثانية، والصهيونية من جهة ثالثة، لن يهدأ لهم بال، ولن تنتهي لهم تخطيطات ومؤامرات حتى يروا العالم الإسلامي مشتعلاً ناراً، تأتي على كل أخضر ويابس، ليأمنوا على صليبيتهم وإلحادهم وصهيونيتهم، بالقضاء على المسلمين، الذين يقفون سدوداً مانعة –ولو في ضعف– ضد زحفهم الرهيب على المسلمين في كل بقاع الأرض». أتصور أن رؤية «الإخوان» ومعظم جماعات الإسلام السياسي لن تخرج عما كتبه التلمساني، لكن مع تغيير بسيط هو استبدال روسيا بالاتحاد السوفياتي. هذه باختصار ملامح رؤية «الإخوان» لتاريخ مصر المعاصر، والثوابت التي تنطلق منها، وهي رؤية متحيزة للغاية، تحتفي بكل ما يصب في مصلحة الجماعة، وتبالغ في الإساءة إلى الخصوم السياسيين، فالمرحلة الليبرالية في تاريخ مصر انتهت إلى الفشل والإخفاق، وهزيمة 1948، ولم تكن المرحلة الناصرية أقل تدهوراً وسوءاً منها، فقد انتهت إلى نكبة 1976. والمدهش أن رؤية «الإخوان» لتاريخ مصر المعاصر لا تناقش أعمال العنف والإرهاب التي تورطت فيها الجماعة منذ أربعينات القرن الماضي، كما لا تناقش انتقادات القوى السياسية أو الباحثين لمنهج «الإخوان» ومسيرتهم التاريخية الطويلة، والتي لم تسفر عن أي إصلاح حقيقي أفاد المجتمعات العربية. نقلا عن صحيفة الحياة