أسبوع حاسم تمر به الثورة المصرية وهي تحتفل (أو لا تحتفل!) بمرور عامها الأول، رغم أن المناسبة تتوافق مع إنجاز كبير، حيث يعقد أول برلمان منتخب بعد الثورة جلسته الافتتاحية، قبل يومين من "العيد" الأول للثورة، في الوقت الذي تمر فيه محاكمة الرئيس السابق مبارك ونجليه ووزير داخليته في منعطفها الأخير. ومع هذا تأتي ذكري مرور العام الأول على الثورة التي أطلقت أعظم الآمال في مصر والعالم العربي، والموقف ملبد بالغيوم وقابل للانفجار في أي لحظة.. والبعض يريد أن يحتفل بما تحقق، بينما بعض قوى الثورة ترفض ذلك، وتدعو لكي تكون المناسبة موعداً لإطلاق الموجة الثانية للثورة، لتحقيق ما لم يتم تحقيقه من أهدافها، بينما الغالبية العظمى من الشعب تعاني من المشاكل التي تركها النظام السابق وراءه، ومن أخطاء إدارة الفترة الانتقالية، واستمرار انهيار جهاز الأمن الذي بدأ مع انهيار نظام مبارك واستمر طويلاً، وإن بدأت الآن بوادر التحسن فيه مع حكومة الجنزوري، التي تحاول أيضاً التعامل مع التراجع الاقتصادي الذي فاقم الأوضاع كثيراً، بالنسبة لفئات عريضة من المواطنين تحس أنها لم تجنِ شيئاً من الثورة حتى الآن. الأوضاع تبدو شديدة التعقيد.. فالشباب الذي كان طليعة القوى التي فجرت الثورة، يجد نفسه بعيداً أو مستبعداً. والبرلمان الذي يفترض أن يكون برلمان الثورة، ذهب ثلثا مقاعده للإخوان المسلمين وللجماعات السلفية التي كانت ضد الثورة في بدايتها! والمجلس العسكري الذي حمى الثورة وشارك في نجاحها وتسلم الحكم بتأييد شعبي غير مسبوق، يجد نفسه موضع هجوم من كل الأطراف.. بسبب أخطائه وعدم خبرته بالسياسة، أو بسبب رغبة بعض الأطراف في ألا يخرج الجيش من هذه الفترة وهو في موقع قوة! والوفاق الذي بدأت به الثورة، يدخل الآن إلى صراع شديد الحساسية، بين شرعية البرلمان الوليد، وشرعية ميادين الثورة، وشرعية المجلس العسكري الذي أعلن جدولاً لتسليم السلطة قبل بداية يوليو القادم، ومع ذلك يجد أمامه مطالبات بالتعجيل في الموعد، وسيناريوهات عديدة مفتوحة لذلك لم يتم التوافق عليها، ومحاولات للضغوط آخرها إعلان محمد البرادعي انسحابه من الترشح للرئاسة، التي سيبدأ سباقها منتصف ابريل القادم. اختلاط الأوراق في الساحة السياسية بدأ مبكراً، وبينما كان المتوقع أن يتدعم التقارب بين المجلس العسكري من ناحية وبين شباب الثورة والقوى المدنية من جانب آخر، تعددت الصدامات بسبب فجوة الأجيال بين المجلس والشباب، وبسبب أخطاء إدارة المرحلة الانتقالية والانتهاكات التي وقعت، وبسبب افتقاد العسكر للخبرة السياسية، وافتقاد الشباب للقيادة الموحدة، وافتقاد الجميع لرؤية محددة وخريطة طريق. وبسبب ضعف القوى والأحزاب المدنية القديمة والجديدة وتشتتها. وبسبب أن الشباب لم يجدوا من يأخذ بأيديهم من ميادين التحرير إلى دهاليز السياسة ومراكز التأثير.. وهكذا انتهى الأمر بشباب الثورة في صدام مع المجلس العسكري، بينما القوى والجماعات والأحزاب الإسلامية تعمل في الأحياء الشعبية، وتستغل التغاضي عن التجريم القانوني لاستغلال الدين في العمل السياسي، لتتحول الانتخابات التشريعية في النهاية إلى ما يشبه الانتخابات في الجمعيات الخيرية.. في ظل غياب أي برامج اجتماعية أو اقتصادية، والتركيز فقط على العامل الديني. وربما زادت السياسة الأميركية من ارتباك المجلس العسكري، فبعد أن حست واشنطن موقفها من النظام السابق وتخلت عنه، بدأت فترة قصيرة من العلاقات الطيبة مع المجلس العسكري، وانهالت الإشادات الأميركية على موقفه الذي ساهم في حقن الدماء وحسم مصير النظام السابق بسرعة ودون تكلفة كبيرة، وتوالت الوعود بمساعدات اقتصادية كبيرة. وكانت الحسابات كلها تصب في اتجاه أن واشنطن ستدعم الاتجاهات الليبرالية، سواء بين الشباب الجدد الذين تقدموا صفوف الثورة، أو بين الأحزاب الموجودة أو التي يمكن أن تنشأ في ظروف الثورة. وحتى عندما بدأ الحديث عن "استيعاب" التيارات الإسلامية في النظام الجديد، فقد كان محكوماً بأن الأمر سوف يستغرق زمناً، وأن طريق الإسلاميين (الإخوان المسلمين أساساً) إلى واشنطن، لابد أن يمر عبر الليبراليين، وهو ما انعكس في هذه الفترة الأولى بعد الثورة، في حرص "الإخوان" على التحالف مع الوفد ودفعه للواجهه، والتأكيد على أنهم لا يريدون الاستئثار بالسلطة، ولن يرشحوا إلا ل30% من مقاعد البرلمان، وهو ما يعني أنهم لا يتوقعون أكثر من 20% من عدد النواب، في شراكة متساوية مع الليبراليين وعلى رأسهم الوفد. لكن الأمر اختلف بعد ذلك مع انقلاب السياسة الأميركية والاتصالات السرية والعلنية، والتصريحات الرسمية التي أكدت أن واشنطن "سيرضيها" فوز "الإخوان" في الانتخابات، وستتعامل معهم دون أي تحفظات! ومثل ذلك انعطافة مهمة في السياسة الأميركية، ليس في مصر فقط بل في العالم العربي كله، تعلن أن التوتر الذي ساد في علاقات واشنطن مع الجماعات الإسلامية في الربع الأخير قد انتهى، وأن الدفء قد عاد كما كان في مرحلة سابقة، حين كان التيار القومي هو العدو الأساسي للسياسة الأميركية في المنطقة! وفي الوقت الذي كانت فيه العلاقة تنمو بين واشنطن والإخوان، كانت التوترات تتصاعد بين الإدارة الأميركية والمجلس العسكري، ولم يكن إغلاق فروع المراكز الحقوقية التابعة للحزبين الجمهوري والديمقراطي الأميركيين في مصر مؤخرا، إلا وجهاً من هذا التردي في العلاقات، الذي شمل ضغوطاً اقتصادية وتحركات إسرائيلية امتدت من سيناء إلى منابع النيل. وكان واضحاً في الفترة الأخيرة توالي وصول المبعوثين الأميركيين للقاهرة، وأن الهدف الأساسي هو استكشاف آفاق التعاون مع التيارات الإسلامية وإعلان الترحيب بالعمل معها، بعد الحصول على الضمانات اللازمة، وأهمها عدم المساس بالمعاهدة مع إسرائيل، واستمرار التوجهات الاقتصادية التي كانت سائدة، ومنها اتفاقيات "الكويز" التي أعلن المسؤولون في الإخوان استمرار التعامل بها في الفترة القادمة. لكن المريب هو أنه في الوقت الذي حافظ فيه المجلس العسكري على علاقات تعاون مع الاتجاهات الإسلامية حتى الآن، تبدو واشنطن غير راضية عن ذلك، ونجد حتى كارتر يقول مع نهاية زيارته الأخيرة لمصر، إنه غير واثق من أن الجيش سيفي بتعهداته ويترك الحكم في نهاية يونيو. وتتوالى الرسائل الأميركية للإخوان والسلفيين، خوفاً من تفاهم يبقي للجيش، بعد المرحلة الانتقالية، وضعاً متميزاً داخل معادلة القوى في مصر! ورغم كل المتاعب التي تواجهها، تبدو قيادة الجيش مستعدة لقبول التحولات الداخلية، ولكنها ترفض استغلال الموقف للضغط عليها من أجل تقديم تنازلات ترى أنها تمس الأمن القومي. وفي آخر خطاب للمشير طنطاوي بعد مناورة ضخمة قبل أيام، أكد أن السلام هو الخيار الاستراتيجي لمصر، ولكنه أضاف: ومع ذلك فنحن نخطط لمواجهة الأسوأ! كل ذلك يلقي بظلاله على وضع معقد للغاية، ويجعل مرور عام على الثورة مناسبة مفتوحة على كل الأسئلة وكل الاحتمالات. القوى الإسلامية تريد الحفاظ على الأوضاع والمكاسب الهائلة التي حققتها. والقوى الليبرالية تحاول رص صفوفها المبعثرة. وأقسام من شباب الثورة يجدون أنفسهم خارج المعادلة، ويوجهون غضبهم نحو العسكر، داعين لرحيل المجلس العسكري واستكمال الثورة أو القيام بجولة جديدة منها. والجيش يشعر بالمخاطر ويعاني الضغوط والمرارة من تضحيات قدمها، وتضيع بالإدارة السيئة للفترة الانتقالية من كل السلطات الحاكمة. والتركة الثقيلة التي تركها النظام السابق وراءه تحتاج لسنوات من أجل التعامل معها. والتطلعات التي انطلقت مع الثورة لم يتحقق منها إلا القليل. كانت المشكلة ومازالت أن الثورة قامت وانتصرت ولكنها لم تحكم، ليبقى الوضع مفتوحاً على كل الاحتمالات. نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية