أضاع ممتلكاته وأمواله.. وتركنا نواجه أعباء الحياة .. وماما "شادية " وقفت بجواري أمى قالت لى قبل رحيلها: «سامح أبوك يا بنى» تركت عملى فى الخليج وعدت إلى القاهرة.. لأرعاه بعد وفاة شقيقه التوأم «من حكمدارية بوليس العاصمة إلى أحمد إبراهيم.. القاطن بدير النحاس.. لا تشرب الدواء الذى أرسلت ابنك فى طلبه.. الدواء فيه سم قاتل، عند سماعك هذه النشرة، بلغ الحكمدارية»! 63 عاماً تقريباً مرت على هذا النداء الشهير، الذى جاء فى فيلم «حياة أو موت» للراحل كمال الشيخ الذى أخرجه عام 1954.. وما زال هذا النداء علامة بارزة ومسجلة باسم هذا العمل السينمائى المميز، وما زال أيضاً الدور الذى قدمه الفنان عماد حمدى نقطة تحول - على الأقل جماهيرياً - فى مشواره الفنى، فبرغم أنه كان قد قدم ما يقرب من 37 عملاً سينمائياً قبله، إلا أنه - فيما يبدو - لأسباب لها علاقة بالموت نفسه والصراع معه، ظلت الجماهير بكل عواطفها وحواسها، ومشاعرها، ودقات قلبها، تتابع لحظة بلحظة، والمشهد وراء المشهد، خطوات ابنته - ضحى أمير - فى الفيلم وهى تسير فى شوارع القاهرة، حاملة له رسالة الموت فى زجاجة، متمنين ألا تصل الرسالة إلى بابه، وقد كان.. فلم تصل، ولم يشرب الدواء الذى كان «سماً»! لتتنفس الجماهير الصعداء، بعدما انتصرت الحياة على الموت، ولقد اعتبر كل من شاهد - أو يشاهد - هذا العمل نفسه مسئولاً عن حياة «أحمد إبراهيم»، وأن إنقاذ حياته، هو إنقاذ لحياته هو، بل وإنقاذ لحياة البشرية كافة، وبالفعل نجحت حكمدارية بوليس العاصمة - سميت بعد ذلك مديرية أمن القاهرة - فى إنقاذ حياة عماد حمدى - الفنان وليس الإنسان - على الشاشة من أن يموت بجرعة دواء خاطئة، لكن فى نفس الوقت فشل هو نفسه - الإنسان وليس الفنان - فى إنقاذ نفسه من الموت وحيداً، وكفيفاً ومريضاً، وفقيراً لا يملك من دنياه سوى 20 جنيهاً في حسابه بالبنك فقط لا غير. *** فى منتصف الستينيات وعلى مقهى فى شارع الكورنيش بالإسكندرية، جلس النجم الراحل يحيى شاهين يحتسى فنجان قهوة وأمامه صديقه نجم الشاشة الأول لسنوات طويلة بدأت من الخمسينيات وهو النجم عماد حمدى يتبادلان أطراف الحديث، وفجأة قال يحيى شاهين: يا صديقى أراك تصرف أموالك بلا ضابط أو رابط، يرد: يا يحيى: دنيا وبنعشها، هذا صحيح هكذا يكمل يحيى شاهين كلامه، لكن عليك أن تفكر فى ما هو قادم، النجاح لا يدوم، والصحة لا تدوم، والمال لا يدوم، والشهرة لا تستمر، ثم أكمل كلامه قائلاً: «يا عماد.. القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود.. لا تضيع أموالك هكذا هباء.. اعمل حساب لبكره يا أخي!» كانت هذه النصيحة الصادقة من صديقه الصادق معه لكنه - للأسف - لم يستمع له، فكان يمتلك عقارات، وأرصدة فى البنوك، واسطبل للخيل به 37 حصاناً عربياً أصيلاً وأفلاماً أنتجها وزوجة أولى اسمها فتحية شريف طلقها بعدما تزوج من الفنانة شادية التى أيضاً طلقها بعد زواج دام ثلاث سنوات وولد وحيد اسمه «نادر» من زوجته الأولى، ثم بعد ذلك زواجه من الفنانة نادية الجندى التى أنجب منها ابنه الثانى هشام، ثم أيضاً وقع الطلاق الثالث فى حياته، ليعيش بعد ذلك سنواته الأخيرة، بلا زوجات ولا عقارات، ولا أموال تحميه من تقلبات الزمن كما نصحه من قبل يحيى شاهين.. ولم يبق له فى النهاية إلا ابنه «نادر» الذى ترك عمله فى الخليج وعاد ليجلس بجواره حتى دخل غرفته قبل رحيله بأيام وطلب ألا يدخل عليه أحد، ولا يكلمه أحد، فهو يريد أن يرحل فى هدوء.. وبعد ساعات من عزلته الاختيارية مات. *** ولكنه قبل أن يموت بأسابيع، وبعد عودة ابنه نادر من الخليج - كان يعمل مصوراً صحفياً فى إحدى الصحف هناك - جلس إليه وقال له: هل أنت غاضب منى يا نادر؟ الابن لم يرد! هل أنت حزين بسببى يا ابني؟ لم يرد! أعرف أننى ظلمت والدتك الله يرحمها، وأعرف أننى ظلمتك منذ أن كنت طفلاً صغيراً، وأعرف أننى لم أعمل حساباً من غدر الزمن، وأعرف أننى لم أترك لك مالاً يقويك ويحميك ويجعلك تعيش كما يليق بابن «عماد حمدى» في أن يعيش؟ أعرف أننى لم أهتم بك وأنت طفل صغير، وتركت ذلك كله على والدتك؟ أعرف كل ذلك.. لكننى اليوم فى طريقى لمغادرة الحياة.. فى طريقى إلى الله.. الذى أرجو أن يغفر لى.. ويسامحنى.. فهل أنت ستغفر لى.. وتسامحنى أيضاً.. ثم بكى عماد حمدى.. وابنه يرتمى فى حضنه ويقول له، ودموعه تنهمر.. «مسامحك يا بابا» فلقد أوصتنى أمى قبل وفاتها قائلة: «يا نادر.. أوصيك أن تسامح أباك» فاستمر بكاؤه طويلاً حتى أرهقت الدموع عينيه التى هرب النور منهما، فلم يعد مبصراً فى نهاية العمر، ثم قال: متشكر يا ابني! *** فى سلسلة حوارات «أبى.. الذى لا يعرفه أحد» تواصلت مع ابن الفنان عماد حمدى، اسمه نادر، عمره 67 عاماً كان يعمل زميلاً مصوراً صحفياً فى وكالة أنباء الشرق الأوسط، واتفقنا على المكان والزمان، فى الموعد المحدد بيننا التقينا، قلت له فى البداية لماذا طلب منك أبوك أن تسامحه؟ ثم أكملت قائلاً: هل كان يشعر بذنب ما فعله تجاهك؟ رد قائلاً: فى البداية دعنى أقول لك إن أبى عاش حياته - كما يقولون - بالطول والعرض، أنفق كل أمواله على نفسه وزيجاته، وسفرياته، ولم يدخر لى مليماً واحداً، وربما يكون هذا هو السبب الذى جعله فى نهاية رحلته مع الحياة يشعر بهذا الخطأ، الذى لم يكن فى حقى أنا فقط بل كان فى حق نفسه هو فى الأساس.. وفى حق أمى رحمها الله، لقد تزوجت أبى فى عام 1948 وكانت فنانة شابة ربما معروفة عنه فى الوسط الفنى الصغير وقتها، كان دخلها 200 جنيه في الشهر فى الوقت الذي كان هو يتقاضي 25 جنيهاً، وعندما تزوجها طلب منها ألا تكمل مشوارها فى الفن.. ومن حبها له استجابت لرغبته، وبعد 6 سنوات زواج تقريباً، كانت السينما فتحت له أبواب مجدها، فتحول من موظف فى ستوديو مصر يحسب ميزانية تصوير الأفلام إلى نجم تتصدر صوره أفيشات هذه الأفلام. قلت: ومن هنا حدث التغيير فى حياته فترك والدتك، ليتزوج من الفنانة الشابة وقتها شادية؟ رد: ربما.. لكن ما أريد قوله فى هذه النقطة، إنه عاش سنوات طويلة للفن ولنفسه، فلم يكن يعرف أنا فى أى عام دراسي؟ ولا أين أدرس؟ ولا ماذا أفعل؟ لقد ترك كل هذه المسئولية على والدتى، التى قررت بعدما تركها - أن تعمل موظفة فى وزارة السياحة حتى تستطيع أن تعيش وتلبى احتياجات طفلها من تعليم وغيره من متطلبات الحياة، ونجحت والدتى وأدخلتنى مدرسة كلية النصر بالمعادى حتى حصلت على الثانوية العامة، ثم التحقت بالمعهد العالى للسينما، وبعد تخرجى سعت هى أيضاً حتى أعمل، واستطاعت - بعد عدة محاولات - أن تلحقنى بالعمل بوكالة أنباء الشرق الأوسط كمصور صحفى يتقاضى جنيهات قليلة فى السبعينيات، زادت بعض الشىء بعد ذلك، ثم انتهت الرحلة بالمعاش الذى أتقاضاه اليوم من نقابة الصحفيين والذى لا يتجاوز 1100 جنيه كل شهر، قلت له: وأين كان أبوك وأنت تخوض غمار هذه الرحلة مع والدتك فى مواجهة متطلبات الحياة؟ قال بعدما انتهى من فنجان قهوته: كان عايش لفنه وحياته، وسفرياته، فأبى كان يعشق السفر، فلم يترك بلداً لم يزره، وساعده فى ذلك شقيقه - التوأم عصام - الذى كان يعمل دبلوماسياً كملحق تجارى بالخارج، فكان ينتظره من بلد إلى آخر، ليقضيا سوياً أياماً بل أسابيع سائحين فى بلاد الله، وكان عمى هو توأم روحه بالفعل، يرتاح معه، ويفرح معه، ويجد نفسه بجواره، وعمى توفى قبل أبى بشهور قليلة، ثم رحلت أمى قبل أبى بشهور قليلة، وبرحيلهما فقد أبى رغبته فى الحياة ودخل فى حالة نفسية سيئة أدت إلى رغبته فى الانعزال عن الناس فى أيامه الأخيرة. *** اسمه: محمد عماد الدين عبد الحميد حمدى، ولد يوم 5 نوفمبر عام 1909 فى محافظة سوهاج، حيث كان يعمل هناك أبوه وله من الأخوات تسعة، توفى فى 28 يناير 1984 تزوج من فتحية شريف، والفنانة شادية، والفنانة نادية الجندى، له من الأبناء: نادر وهشام، عمل موظفاً فى مستشفى «أبو الريش» بالقاهرة، ثم التقى صديقاً له اسمه محمد رجائى خلال تصوير فيلم «وداد» باستوديو مصر عام 1936 فطلب منه فرصة للعمل داخل الاستوديو، وبالفعل أسند له وظيفة رئيس حسابات بالاستوديو استمر فى وظيفته حتى تمت ترقيته إلى مدير للإنتاج، وجاءت فرصته للظهور على شاشة السينما، عندما طلبت وزارة الصحة إنتاج أفلام تسجيلية عن البلهارسيا، فاختاره المخرج جمال مدكور للمشاركة فى هذه الأعمال، ونجح فيها، ليحصل على أولى بطولته فى فيلم «السوق السوداء» عام 1945 وعمره وقتها 37 عاماً، بعدها ينطلق إلى عام الأضواء والنجومية حتى لقب ب«فتى الشاشة الأول»، قام ببطولة ما يقرب من 250 فيلماً، أبرزها «أم العروسة» و«ثرثرة فوق النيل» وسيدة القطار، والكرنك، ولا أنام، وأبى فوق الشجرة، والخطايا، وسواق الأتوبيس». عدت للابن وقلت له: أين ذهبت أمواله وعقاراته، وما كان لديه فى البنوك؟ قال وهو يضحك: أبى لم يكن يعمل أى حساب للغد كان يعيش بمنطق «اصرف ما فى الجيب.. يأتيك ما فى الغيب» المشكلة الحقيقية هنا، هو أنك بعدما تنفق ما لديك فى انتظار ما سوف يأتى، تكتشف أنه لن يأتى. على سبيل المثال كان لديه «اسطبل» خيل يقدر الآن بالملايين بخلاف الأفلام التى أنتجها والشقق التى كانت لديه كل ذلك ذهب مع الريح، ومات كما تعلم وما يمتلكه فى البنوك 20 جنيهاً، قلت معتذراً قبل سؤالى.. وكيف إذن كان ينفق عليك؟ قال: أبى لم ينفق علىَّ بالصورة التى تتخيلها.. وليس هذا عن بخل منه، ولا جحود، لكن كانت الحياة والنجومية والفن مسيطرة على حياته، قلت مبتسماً: الفن فقط الذى كان مسيطراً عليه؟ رد الابتسامة بابتسامة أخرى، وهو يقول: طبعاً.. والأشياء الأخرى التى تشير إليها في سؤالك.. نعم لقد استفاد كل من عرف عماد حمدى واقترب منه، وحققوا من ورائه الخير الكثير، ثم فى نهاية الرحلة عاد إلى أمى بعدما أصبح لا يملك مالاً أو صحة، وهذه حقيقة يعلمها الجميع، قلت: وهل كنت فى حاجة إلى مال أبيك؟ قال وكأنه يندهش من سؤالى: ومن منا ليس فى حاجة لمال أبيه؟ نعم.. يكفينى اسم عماد حمدى.. بهذا وسام وشرف لى كابن له.. ولكن اليوم الصعب أو «الأسود» الذى حذره منه صديقه يحيى شاهين عندما لاحظ إسرافه وإنفاقه الشديد على نفسه ومن حوله لم يؤثر عليه فقط، لكن هذا اليوم الأسود حل علىَّ أنا شخصياً، ووقتها كنت فى أشد الحاجة لمال وثروة أبى.. ثم شرد بذهنه قليلاً وكأنه يسترجع ذكريات مؤلمة له مرت عليه ثم قال: بعدما تحملت والدتى نفقات تربيتى وتعليمى ودخلت فى مرحلة الزواج وساهمت هى أيضاً فى تجهيز شقتى وزواجى وساعدتنى بعدما رزقنى الله بطفلين من زوجتى الأولى.. بعد هذه المرحلة مرضت زوجتى.. وفى المستشفى ماتت بخطأ طبى، وتركت لى طفلين ولد وابنة، فتحملت قسوة الصدمة، وبدأت أربى فى طفلى حتى كبرا بعض الشىء، ثم تزوجت بزوجة أخرى حتى تساعدنى فى تربية أولادى.. وبالفعل حدث الزواج وزقنى الله منها بطفلتين جدد.. وفى ظل ما نحن الخمسة متعلقين بها، ترعانا ونرعاها، تساعدنا ونساعدها، تساندنا ونساندها، وإذ بمرض السرطان يهاجمها، تقاوم هى بالصبر، ونقاوم نحن بالدعاء والعلاج.. ورغم الصبر والدعاء والعلاج، إلا أن قدر الله نفذ.. وماتت هى الأخرى، ومن قبلها كانت قد ماتت أمى وأبى طبعاً وزوجتى الأولى، فأصبحت وحيداً - أتقاضى مرتباً محدوداً من عملى - ومعى 4 أولاد يحتاجون مأكلاً وشراباً وعلاجاً وتعليماً ومتطلبات الحياة العادية، قلت له: ألم يقف منهم ابن أمام صورة جده معاتباً له من باب العشم الإنساني؟ رد وأنا ألمح فى عينيه دمعة حائرة - كثيراً ما كانوا يفعلون ذلك.. فكنت أرد عليهم قائلاً: «يكفيك أن جدك عماد حمدى» هذا الاسم يساوى مال الدنيا، ثم سكت بعض الشىء، وقال: رغم حزنى أحياناً من كل الذى مر بى، إلا أننى عندما أقف أمام نفسى وأنظر لحياتى أجدنى أقول «الحمد لله» على كل شىء، فى عام 1990 أصيب قلبى بالتعب وتطلب العلاج تغيير 4 شرايين، وكل الأطباء يومها قالوا يجب إجراء عملية، ويجب أن تجرى فى لندن، وعلى يد د. مجدى يعقوب، وقتها لم أكن أمتلك ما يتيح لى السفر وإجراء العملية، قلت: وكيف تصرفت وقتها: قال: ضاقت بى الدنيا، ويومها تذكرت أننى ابن عماد حمدى نجم السينما ذائع الصيت، وفتى السينما الأول لسنوات طويلة.. والبرنس فى الحياة العادية، فكيف لى وأنا ابنه لا أجد ما يكفى لعلاجى، لكن ربنا كريم.. ذات يوم وأنا فى دوامة المرض، والبحث عن وسيلة أو طريقة للعلاج، إذ بصديق لى يجرى اتصالاً برئاسة الجمهورية، ويبلغهم أننى محتاج إجراء عملية بالخارج، فأمر الرئيس الأسبق مبارك - وهذه شهادة يجب قولها - إعطاء التعليمات إلى رئيس الوزراء وقتها د. عاطف صدقى بسفرى للعلاج على نفقة الدولة، ودخلت بالفعل إلى المستشفى ويومها قال لى د. مجدى يعقوب، كنت داخل للعمليات بلا قلب، والحمد لله خرجت بقلب سليم، قلت له: ومن وقف بجوارك فى هذه الأزمة؟ قال: الحقيقة لا أنسى «ماما شادية» - يقصد السيدة الفنانة شادية - لم تتركنى فى أى أزمة ألمت بى، قلت له: هل تراها اليوم وتتواصل معها؟ قال: للأسف لم أتواصل معها منذ 17 عاماً، بعد اختيارها العزلة والاعتزال الاختيارى، قلت له: وماذا عن الزوجة الثالثة لأبيك السيدة الفنانة نادية الجندي؟ قال: ليس بيننا أى تواصل، وعلى فترات يكون التواصل مع أخى هشام ابنها، قلت له دعنى نعود قليلاً إلى مرحلة البدايات وأسألك عن عدم تفاعل أبيك معك فى الصغر؟ قال وهو يضحك.. السينما كانت تستحوذ على كل اهتمامه، وحياته الخاصة، وسفرياته خارج مصر والتى لف فيها العالم، وكان عندما يعود نلتقى ويعرض علىَّ اللقطات التى يصورها حيث كان يعشق التصوير، قلت له: لماذا لم تكمل مرحلة عملك فى الخليج؟ رد: وأترك أبى لمن؟ فى عام 1982 سافرت لدولة الإمارات للعمل فى صحيفة الخليج، وكان راتبى ممتازاً، وكانت أمى خرجت للمعاش، وتركت زوجتى وأولادى، قلت مقاطعاً: وأين كان يعيش أبوك؟ قال: بعدما انفض من حوله العالم، وغابت الأضواء، ووهنت الصحة، وضعف البصر، ولم يعد لديه مال أو أعمال، عاد إلى أمى مرة ثانية وعاش معها ومع زوجتى فى الشقة، وذات صباح وجدت رسالة لى بأن أباك اتصل بك ويريدك أن تعود إلى مصر، قلت له: لماذا؟ قال: حتى أكون بجواره وبالفعل اتصلت به فقال أريدك أن تعود يا نادر.. عمك مات وأنا ليس لى أحد فى الدنيا غيرك، وقالت لى أمى: عد من أجل أبيك.. وبالفعل عدت وعشت بجواره حتى رحيله. *** قلت له وأنا استعد لتركه بعدما شعرت بحالة من «الوجع» يحاول التغلب عليها وفى نفس الوقت يحاول أن ينسى ما ألم به من أحزان وأمراض ومتاعب طيلة مشوار حياته.. كيف تعيش يومك؟ قال: حتى هذا الوقت أعمل، من أجل تعليم أولادى.. وأعيش - طبعاً - بلا زوجة بعد رحيل الزوجة الثانية، ويظل معاش النقابة والوكالة لى سنداً فى مواجهة الحياة.. لكننى فى ظل كل ذلك أحاول فلسفة الحياة حتى لا أموت حزناً وكمداً، وأقول بينى وبين نفسى إن لم يكن أبى ترك لى مالاً، فعلى الأقل ترك لى اسمه، وترك لى حب الناس الذى يحتوينى ويقوينى على قسوة الزمن. وأعيش بطريقة أمى فى الحياة، وهى أن أكون متصالحاً، ومتسامحاً مع الحياة، وأرضى بما قسمه الله لى فيها. *** قلت له: وهل سامحت أباك كما أوصتك والدتك؟ رد وعلى وجهه حالة رضا وتفاؤل وسعادة رغم كل شىء، ثم قال: ومن أنا حتى أسامحه.. هو فى البداية عماد حمدى.. الإنسان.. والفنان.. وفى النهاية.. أبى.. فهل يملك أى ابن صكوك العفو والغفران لأبيه؟ لملمت أوراقى وتركته عائداً من حيث أتيت وبين وبين نفسى أقول: مات فتى الشاشة الأول عماد حمدى.. مات برنس الوسط الفنى فى هدوء وفى عزلة وفى فقر وفى وحدة، وهو راضٍ تماماً عن مشوار حياته، حتى وإن اختلفنا معه.. الحياة اختيار.