أعرف شفيع شلبي، المذيع والمحاور والمخرج، والرجل الذي أمضيت عمري كلما قابلته فاجأني بإبداع فكرة جديدة تنفع في أيامنا البائسة، عشت أعرف شفيع شلبي باعتباره من يضني روحه نهارا ومساء في البحث عن مخرج مما فتن فيه، ولا أراه إلا مفكرا، أو مناقشا أو محاضرا، حول هذا الأمر وبالرغم من الشيب الذي وخط رؤوسنا والربع ساعة الباقي من أعمارنا، وإلا أن هذا الرجل لا يكل ولا يهمد!! أعرف شفيع شلبي،من قبل الميلاد تقريبا!! قابلته أول سبعينيات القرن غيرالسعيد الماضي، كانت الدنيا غير الدنيا، والناس تحمل بين جنوبهم آمالا لا تحصي وأحلاما من غير حد. كان يأتي أيامها مقهي ريش حيث كنا نقيم، نحن أجيال الكتابة الجديدة الذين كانوا يشكلون حلقة الإبداع الشاب حول المؤسس نجيب محفوظ، وكان الشاعر العظيم أمل دنقل كلما رآه داخلا المقهي وهو في زهوة وقته، وشبابه، وشهرته، وبصحبته ثلاث بنات من بنات هذا الزمن، جمالا وأناقة وثقافة، وكان في كل أشكاله يستفز أمل دنقل الذي يشخط، مشيحا في وجهي: الجدع ده من دخله القهوة احنا ناقصين!! ولم أكن أعرف يومها وأتساءل ناقصين إيه، هو احنا معانا حاجة خالص!! كان شفيع في ذلك الوقت أصغر المذيعين أبناء الحقبة الناصرية وأكثرهم وسامة، ومن أفصحهم وأشجعهم.. حمدي قنديل وأحمد سمير وصلاح زكي وحلمي البلك والجميلات زينب سويدان وهمت مصطفي وأماني ناشد وكان التليفزيون في تلك الفترة ينحاز لبعض الاتجاهات الجادة ويعبر عن القضايا التي تهم الواقع ذلك الحين، ويواجه بعض سلبيات التأثير الفادح لهزيمة يونيو 1967 بقدر من الموضوعية، ويحاول شرح أسباب ما جري والخروج من حفرة الهزيمة بإحياء بعض الآمال في النفوس!! في ذلك الوقت قدم شفيع شلبي برنامجا في إذاعة صوت العرب عن الناس فكان تعبيرا حقيقيا عن أشواقهم، ثم يأتي في وردية الليل الي التليفزيون ليقرأ النشرة، والحقيقة أن شفيع كان قارئا ممتازا شجاعا وجريئا وموضع محبة من شباب مصر في ذلك الحين. كان يذهب الي ماسبيرو علي دراجته، وكان حدثا في ذلك الوقت، كتب عنه مصطفي أمين، وعن المذيع منكوش الشعر المتحرر في دولة متزمتة خارجة من هزيمة مروعة. إلا أن شفيع شلبي كانت له اختياراته، كان يختار ثقافة التقدم ويقرأ فيها بنهم، وكان منحازا لحق الناس في حرية التعبير، وحقهم في تغيير أحوالهم وخروجهم من ثبات الماضي الي أفق قائم علي الاحتمالات، وكان من المصدقين بأن الإبداع والفن لابد أن يجدا مناخا فاعلا لأن الإبداع عموما هو حرية وفعل حرية، والنقد آخر الأمر يحدث التغيير في الأوطان. في هذا الوقت من أول السبعينيات أجري حواره التليفزيوني الأشهر مع يوسف السباعي الأشهر، ووزير إعلام وثقافة عموم مصر، حاور يوسف السباعي بشجاعة، وبإصرار علي المخالفة، وأخبره أن الكتابة الجديدة في حاجة الي تصور يبعد عن القمع والمصادرة، وفي حاجة الي مناخ غير المناخ، وجن يوسف السباعي وانفعل بدرجة مؤسفة ولم يتراجع شفيع عن موقفه. كنت رئيسا لحسابات جمعية زراعية بقرية الخصوص علي تخوم مدينة القاهرة، وكان يزورني المذيع في تلك الجمعية، وهناك اكتشفنا مقلبا مهولا للقمامة يعيش به المئات من أقباط مصر يربون الحيوانات ويفرزون المواد، وهناك تقابلنا مع عدد من المبشرات الإيطاليات، وأنجز شفيع حلقة كانت حدث الوطن، وعمل حلقات أخري عن المسطحين علي ظهر القطار، وعن أهل السكك الذين بلا مأوي. وواكب شفيع متغيرات الحياة فأنتج برنامجه التليفزيوني «صوت وصورة» وكان برنامجا صداميا، يطوف بحثا عن مادته في أنحاء محافظات مصر، وكان صداميا محرجا للمحافظين والمسئولين ورجال الأمن في السلطة الحاكمة، وأصحاب النفوذ والمصالح مؤديا عمله بنفس الهيئة والمظهر اللذين يعرفهما عنه الناس العاديون، قميص وبنطلون جينس أوتشيرت فقير مما يلبسه الرجل العادي، وشعر منفوش وكأنه أحد اخواتك المتمردين. كما عمل شفيع في السينما، واختاره عدلي بشارة بطلا في فيلمه «العوامة 70» مع أحمد زكي. كما أخرج عددا مهما من الأفلام التسجيلية. من هنا جاء اصطدامه بصفوت الشريف أحد الكارهين الكبار له والذي حرّم عليه العمل في الإعلام المصري وأقسم أنه علي جثته لو عاد شفيع الي التليفزيون، الآن تنفتح الفضائيات عن آخرها، وتنفتح الأبواب للذي يساوي، وللذي لايساوي ثروة فقير، ويتسع المجال لغير الموهوبين، الذين يفتحون أدراجهم لتلقي الملايين أجرة وشفاعة، خالية من الضريبة وكله يعمل لصالح ميديا لا نعرف من يحركها في غياب القيم التي تتبني وطنا، من أبناء الحقائق ويقظة الضمير. في هذا الوقت القائم علي الاحتمالات يمضي شفيع شلبي، المثقف والمهتم وصاحب الخبرة متنقلا من ندوة، أو مقهي أو متجها ناحية الصحراء ولا نعرف لماذا؟ لايستعين بخبرته أحد هو المحاور ومخرج الأفلام وخبرة السنوات وسط الناس والمثقفين فسبحان الله العليّ القدير. ------- بقلم: سعيد الكفراوي