عندما كنت أتحدث إليهم، كنت بحاجة دائما لمن يذكرنى أننى مازلت داخل مصر، ولم أغادرها، فما كانوا يقولونه يخلق لكل من يسمعه شعورا بأنه غادر البلاد إلى مكان أكثر رحمة، وأقل غلاء! كنت أسألهم عن أسعار الخضراوات والفاكهة التى يزرعونها فى حقولهم، فيجيبنى الفلاحون بأرقام تجبرك - لا شعوريا - على أن تظل على الدوام فاتحا فمك وعينيك ذهولا، من هول ما تسمعه! سبب الذهول أن الأسعار التى سمعتها فى الحقول، للخضراوات والفاكهة، من الجرجير والبطاطس حتى الفراولة والعنب، ومن القصب والبلح، وحتى الليمون والخس. تقل عن ثلث الأسعار المطروحة بها فى كل الأسواق. تواصلت مع فلاحين من محافظاتالقليوبية، والبحيرة، وبنى سويف، وأسوان، وكان سؤالى واحدا يدور حول أسعار الخضراوات والفاكهة، التى يبيعون بها ما تخرجه أرضهم من منتجات زراعية، وجاءت إجاباتهم، لتكشف أن أسعار الخضراوات والحبوب والفاكهة على رأس الحقل لا يتخيلها الكثيرون.. فالطماطم فى حقول الصعيد، يتمنى زارعوها أن يبيعوا الكيلو جرام ب250 قرشا، فى حين أن فلاحي الوجه البحرى يعرضونها على رأس حقولهم ب3 جنيهات للكيلو جرام.. الغريب أن كيلو الطماطم يباع فى الأسواق ب10 جنيهات، وهو ما يزيد على 3 أمثال سعره فى الحقل! أما البامية فأسعارها على رأس الحقل ب4 و5 جنيهات، والباذنجان ب3 جنيهات، والكوسة ب2 جنيه للكيلو، والقلقاس ب3.5 جنيه والملوخية ب3 جنيهات، ومثلها الخيار، أما الفلفل فسعر الكيلو جرام يتراوح بين 3 و4 جنيهات. والبصل الكيلو ب4 جنيهات، والثوم ب3.5 جنيه، والسبانخ ب 2.5 جنيه، والفول ب4 جنيهات، والفاصوليا الخضراء ب3 جنيهات، وواحدة القرنبيط بما بين 2و3 جنيهات، حسب حجمها, ومثلها واحدة الكرنب، والبطاطس ب 275 قرشا، وورق العنب ب 6 جنيهات والخسة الواحدة بما يتراوح بين 20 و30 قرشا، والربطة الواحدة من الجرجير سعرها بين 10 و15 قرشا، وربطة الشبت بين 15 و25 قرشا، ومثلها البقدونس. نفس الحال فى الفاكهة، حيث الأسعار فى الحقول، أقل بكثير من سعرها فى الأسواق، فكيلو جرام الجوافة على رأس الحقل يتراوح بين 3 و4 جنيهات. والبرتقال تم بيعه بأسعار تراوحت بين 2.5 و3 جنيهات للكيلو، والفراولة ب3 جنيهات و4 جنيهات للكيلو جرام، والخوخ ب4 جنيهات، والتفاح ما بين 5 و8 جنيهات للكيلو، والموز بما بين 3 إلى 5 جنيهات. أما الليمون فتم بيعه على رأس الحقول ما بين 4 و8 جنيهات للكيلو.. وتبقى الحبوب حكايتها حكاية، ولكل صنف منها حكايته الخاصة. بهاء صلاح، فلاح من القليوبية، يروى حكايته مع الأرز فيقول: «فى موسم حصد الأرز الأخير، وتحديدا فى أكتوبر الماضى حددت الدولة سعر الطن ب2400 جنيه، صرخ الفلاحون وطالبوا بزيادة السعر، ولكن الحكومة أصرت على رأيها ورفضت أى زيادة، وعندها تحرك التجار، وعرضوا على الفلاحين شراء الطن ب3 آلاف جنيه، وأغرى الفارق بين سعر الحكومة وسعر التجار، كثيرا من الفلاحين فباعوا ما عندهم من أرز للتجار، وبقى عدد قليل من الفلاحين يرفضون البيع، انتظارا لرفع السعر! وصدق حدسهم، فرفع التجار السعر إلى 3200 جنيه للطن، ثم رفعوه مرة ثانية إلى 3400 جنيه للطن، فباع الفلاحون كل ما لديهم من أرز ب3400 جنيه وتصوروا أنهم فازوا فوزرا عظيما! وهكذا جمع التجار فى مخازنهم كل أرز الفلاحين، صاروا وحدهم مصدر بيع الأرز للمواطنين، والمفاجأة أنهم باعوا الطن ب5 آلاف جنيه، وبعد أيام رفعوا السعر إلى 7 آلاف جنيه، ثم رفعوه مرة ثالثة إلى 9 آلاف جنيه للطن. وبعضهم رفع سعر الطن إلى 10 آلاف جنيه. وهكذا ربح التجار فى أيام وأسابيع، ما يعادل 3 أمثال، ما حصل عليه الفلاح بعد زراعة 6 شهور، ذاق فيها التعب ألوانا، منذ تجهيز الأرض لزراعة الأرز، وحتى الحصاد، مرورا برى الأرز كل 3 أيام، مقابل 15 جنيها للساعة الواحدة، وشراء أسمدة بحوالى 1000 جنيه لتسميد الفدان الواحد، والعمل يوميا من الصباح حتى المساء فى تنظيف الحقل من الحشائش، ثم استئجار عمال زراعين للحصاد، مقابل 100 جنيه لكل منهم يوميا وأخيرا استئجار ماكينة تفصل حب الأرز عن القش، وبعد هذا كله باعوا أرزهم للتجار فربحوا فى أيام 3 أمثال ما حصل عليه الفلاحون فى 6 أشهر! القمح أيضا كانت له حكاية أشبه بحكاية الأرز، تكررت بنفس السيناريو.. فالحكومة حددت سعر شراء إردب القمح (يعادل 150 كيلو جراما) بمبلغ 560 جنيها، وهو ما يعنى أن سعر الطن سيعادل 3700 جنيه، والغريب أن ذات الحكومة تستورد من الخارج قمحا أقل جودة من قمح فلاحى مصر، ورغم ذلك تشتريه بما يعادل 4200 جنيه للطن. وأمام هذا الحال يقول محمد الإمام، فلاح من بنى سويف، سيفضل الفلاحون طحن ما ينتجونه من قمح واستخدامه علفا لماشيتهم خاصة أنهم يشترون لتغذية مواشيهم طن الردة بحوالى 4000 جنيه، وهو مبلغ يزيد كثيرا علي سعر توريد القمح للحكومة! البلح حكاية ثالثة.. يرويها حسن عبد الحليم، فلاح من أسوان، فيقول: إن التجار اشتروا البلح من الفلاحين فى الموسم الأخير مقابل أسعار تتراوح بين 3 جنيهات و15 جنيها للكيلو جرام، والآن يعرضونه للبيع بأسعار تتراوح بين 37 و80 جنيها للكيلو جرام! حكاية رابعة بطلها هذه المرة العنب.. الحكاية عاشها فريد واصل نقيب الفلاحين، ويقول: «دللت علي محصول العنب الذى أنتجته، وكنت أحلم بمن يشتريه منى مقابل 2 جنيه للكيلو جرام، وبعته بسعر أقل من ذلك، ثم كانت دهشتى الكبرى، عندما وجدت أن أدنى سعر لكيلو العنب فى الأسواق هو 6 جنيهات! للبطاطس حكاية خامسة، البطاطس التى تصل أسعارها فى الأسواق إلى 6 جنيهات يدلل عليها طارق محمد، فلاح من البدرشين، مؤكدا أنه على استعداد لبيع الكيلو جرام منها ب 250 قرشا.. ويقول: «أكون أسعد الناس لو وجدت من يشترى منى كل ما تنتجه أرضى من بطاطس بسعر 250 قرشا». سألت نقيب الفلاحين فريد واصل عن السر فى الفارق الكبير بين الأسعار التى يبيع بها الفلاحون ما ينتجونه من خضراوات وفاكهة وحبوب، وبين أسعار ذات المحاصيل فى الأسواق المصرية فقال مبتسما: السر هو أن المسئولين يعيشون فوق السحاب! وأضاف: الحكومة تخالف الدستور فى تعاملها مع الفلاحين، حيث تنص المادة 29 من الدستور على أن تلتزم الدولة بشراء المحاصيل من الفلاحين، بأسعار مناسبة، وبما يكفل تحقيق هامش ربح مناسب للفلاح، ولكن الذى يحدث هو أن الحكومة تترك الفلاح، فلا يجد سوى التجار ليبيعوا لهم ما ينتجونه من محاصيل، بأسعار يفرضها عليه التجار، وبعدها يتحكم هؤلاء التجار فى أسعار كل شىء فيرفعونها كما يحلو لهم. وأكد «واصل» أن كل حكومات العالم تدعم فلاحيها، ما عدا الحكومة المصرية، التى تركت الفلاح، مكشوف الظهر، فبعد أن كانت الجمعيات الزراعية، توفر لكل فلاحى مصر فى الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، أفضل التقاوى وتوفر لهم مرشدين زراعيين يقدمون لهم النصيحة، ويرشدونهم لأفضل الطرق لمواجهة الآفات، ويقدمون لهم الأسمدة بأسعار معقولة، ويوفرون لهم أعلافا مناسبة لماشيتهم، وفى نهاية كل محصول تشترى من الفلاحين ما يزرعونه من قطن أو حبوب. ولكن الأحوال تغيرت منذ عدة عقود، وتركت الحكومة الفلاحين، ولم تعد تقدم لهم شيئا حتى الأسمدة أجبروهم على شرائها من السوق السوداء بأسعار وصلت إلى 3 آلاف جنيه للطن، وكان طبيعيا أن تتدهور أحوال الفلاحين، وأن يظهر من يستغلهم بشراء محاصيلهم بثمن بخس ثم بيعه بأضعاف مضاعفة. وأكد نقيب الفلاحين أن فلاحى مصر، هم أول حجر فى بناء النهضة.. وقال: «لا تتمكن مصر من النهضة، ولن تتقدم فى مصر بدون الاهتمام بالفلاح، لأنه المنتج الوحيد لغذاء المصريين جميعا». وأضاف: فى مصر 6 ملايين و400 ألف حائز لأراض زراعية منهم 4 ملايين و300 ألف يحوزون مساحات فدان فأقل، ومليون و300 ألف يحوزون ما بين فدان و100 فدان ومليون يحوزون أكثر من 100 فدان، وهؤلاء الحائزون قادرون على توفير غذاء مصر بقليل من الرعاية والاهتمام والتنظيم والدعم من الحكومة. ويتحدى محمد حسن عبيدى، أمين عام نقابة الفلاحين والمنتجين الزراعيين أن تنخفض أسعار كل السلع الزراعية لأكثر من النصف لو تولت الحكومة شراء المحاصيل الزراعية من الفلاح وباعتها عبر المجمعات الاستهلاكية.. ويقول: «الفلاحون يبيعون كل الخضراوات والفاكهة والحبوب بأسعار تبلغ 30% فقط من الأسعار التى يتم عرضها فى الأسواق، وبعد أن يشتريها التجار، يرفعون الأسعار بنسب تتراوح بين 500% و1000%، والفارق بين السعرين يدخل جيوب التجار، الذين لم يزرعوا ولم يقلعوا، وكل ما فعلوه هو أنهم خزنوا ما يشترونه من الفلاحين فى مخازنهم، ثم تحكموا فى الأسعار». وأضاف أمين عام المنتجين الزراعيين: «لم يعد الفلاح يربح من زراعته بشكل دائم. فربحه يبقى دوما على فيض الكريم، فأحيانا يصل ربح فدان الطماطم حوالى 6 آلاف جنيه، وأحيانا تموت الزرعة كلها فيخسر فيها الفلاح أكثر من 10 آلاف جنيه دفعها فى تجهيز الأرض وشراء التقاوى، والأسمدة والمبيدات ورعاية المحصول». ويواصل: أكثر الزراعات ربحًا للفلاح هى القصب والقمح، والخضراوات، والفاكهة، وربح الفدان يتراوح بين 4 إلى 6 آلاف جنيه للقمح والقصب، وحوالى 8 آلاف جنيه للخضراوات وحوالى 10 آلاف جنيه للفاكهة، ولكن كل تلك الأرباح بيد الله، ففى أحيان غير قليلة لا يربح الفلاح مليما من زراعته، بسبب موجة حر أو موجة برد، أو رياح أو حشرات تبيد زراعته كله فيخسر فيها كل شىء.