«أبوعلم» وزير العدل الوفدى أول من أصدر قانون استقلال القضاء أسس جريدة صوت الأمة المتنفس الجريء للضباط الأحرار قبل يوليو 1952 نال تقدير الملوك والرؤساء ومنحه الملك عبدالعزيز حزام الكعبة جنازته استفتاء شعبى على أن حزب الوفد هو ضمير الأمة فى يوم الأحد 13 أبريل 1947، ولدى استئناف الإذاعة المصرية لبث إرسالها ظهرًا كما كان معمولًا به آنذاك فوجئ الناس بالصوت الإذاعى الحزين يقول: أيها المواطنون.. إليكم ما يلى: فقدت مصر اليوم ابنًا من أبر أبنائها ورجلًا عظيمًا من أعظم رجالاتها، ذلكم هو المغفور له فقيد الوطن محمد صبرى باشا أبوعلم والإذاعة المصرية وهى تذيع هذا النبأ تقدم خالص عزائها لأفراد الشعب المصرى ولأسرة الفقيد الكريم.. ثم أغلق الإرسال حدادًا حتى الثانية والنصف حيث إذاعة نشرة الأخبار، فتعيد إذاعة النبأ مرة أخرى. ويروى المعاصرون أنه بمجرد إذاعة النبأ، قد اندفع الرجال من مكاتبهم ومحلاتهم وقد وضع الواحد يده اليسرى فوق طربوشه حتى يتمكن وهو يجرى من لطم خده الأيمن، متجهين ناحية ميدان الخديو إسماعيل (التحرير حاليا) بينما فتحت النساء البلكونات وهن باكيات.. وبدأت قطارات السكك الحديدية فى الوجهين البحرى والقبلى تمتلئ بالموطنين للحضور إلى القاهرة للمشاركة فى تشييع جنازة الفقيد الكبير. وكان الدكتور طه حسين قد توجه صباح اليوم إلى منزل الفقيد للاطمئنان على صحته لكنه فوجئ بصوت حزين داخل البيت يقول إن صبرى باشا قد مات، فسقط فنجان القهوة من يد الدكتور طه حسين على الأرض من هول ما سمع، أما النحاس باشا فقد خانته أعصابه وانخرط فى بكاء مرير، وأمر بأن تخرج جريدة صوت الأمة التى هو صاحب امتيازها إلى الظهور بالغد لتنشر النبأ على الأمة، حيث كان المتبع وقتها ألا تصدر الصحف فى العطلات الرسمية، وقد كان الغد هو عيد شم النسيم. وفى المساء قال الراديو: كان لوفاة المغفور له محمد صبرى باشا أبوعلم أثره السيئ فى نفوس أبناء الشعب المصرى، ولقد فقدت مصر منذ مطلع هذا القرن عددًا من الزعماء الوطنيين وهم مصطفى كامل باشا فمحمد فريد بك فسعد زغلول باشا فعبدالخالق ثروت باشا فعدلى يكن باشا فمحمد محمود باشا فيوسف الجندى فأحمد ماهر باشا فصبرى أبوعلم باشا. وفى صباح اليوم التالى وكما يقول المؤرخ لمعى المطيعى: كانت الجماهير الحزينة المكتظة فى ميدان الخديو إسماعيل قد هبت لوداع سكرتير عام الوفد، كانت والأسى يجتاح النفوس تطلب من المناضل الوطنى الراحل أن يبلغ الظلم لسعد زغلول». وعندما سارت الجنازة فى مشهد مهيب قطع المشيعون الصمت الحزين بهتافات تقول: إلى جنة الخلد يا بطل الوطن.. رفعت العلم يا صبرى أبوعلم.. وبلغ الظلم لسعد يا صبرى.. وما هى إلا لحظات حتى جاء البوليس وألقى القبض على من أسموه بمثيرى الشغب، وجدير بالذكر أن رئيس الحكومة وقتها كان النقراشى باشا رفيق الكفاح مع الفقيد أيام كان يذهبان سويا إلى مسجد وصيف لتلقي الدروس الوطنية عن سعد باشا. وأجمعت الصحف يومها أن جنازة صبرى أبوعلم كانت أصدق استفتاء شعبى يؤكد أن حزب الوفد المصرى هو وجدان الأمة الصادق وقلبها الحيوى النابض. وكان نعش الفقيد قد خرج من بيت النحاس باشا إلى جامع الكخيا، كما فتح النحاس باشا بيته أربعين يومًا لاستقبال المعزين من كل أنحاء البلاد. وقال عدو الوفد اللدود إسماعيل صدقى باشا لولده يحيى وقد وضع لفافة حول عنقه وأخذ يبكى: لمَ تبك يا بنى ووالدك كان من أعظم الرجال فى مصر. وأبرق الشاعر على محمود طه إلى مؤتمر الشعر بدمشق معتذرًا عن الحضور فيقول: «لا أستطيع أن أترك مصر وهى فى هذا المأتم الكبير بفقدان صبرى أبوعلم باشا وقد انقلب عيد شم النسيم فى مصر من يوم فرح وسرور إلى يوم حزن ودموع». وفى اليوم الرابع لرحيله جاءت الجماهير المحتشدة إلى بيت النحاس باشا لتجديد العزاء فيخرج إليهم ويقدم الشكر لشعب مصر الوفى الذى خرج بأكمله لوداع ساعده الأيمن وفقيد الوطن الكبير فيقول: كان صديقًا وفيًا ورجلًا أبيًا وعلى المساومين فى حقوق الوطن جبارًا عصيًا. ويكرر صدقى باشا لولده يحيى فى مناسبة أخرى: كان والدك هو بهجة الحياة النيابية فى مصر. وتظهر الصحف ما أسمته «عناق الأعداء» عندما أخذ النحاس باشا ومكرم باشا يحتضان بعضهما بعضًا وهما يبكيان، رغم الخصومة السياسية الشديدة بينهما، ويقول مكرم قولته الشهيرة معزيًا ومواسيًا: إذا كان صبرى قد مات فإن حب مكرم للنحاس باشا أبدًا لا يموت! وتجمع الصحف فى ذكراه السنوية بقولها: سوف يبقى صبرى أبوعلم علمًا خفاقًا يرفرف فى سماء مصر على الدوام، ولكل الأجيال. ويخطب خليفته فؤاد سراج الدين فيحث شباب الوفد بأن يجعلوا من سيرة الفقيد نهجًا لسيرهم وقدوة لخطاهم. وكان عين الأعيان وعميد الأسرة الشيخ عبدالمجيد بك أبوعلم الذى ربطته بالمحامى الشاب صبرى أبوعلم علاقة حميمة وعاطفة أبوية فإذا مرض عاوده فى مرضه فيقول له: «أنا يا صبرى لمّا باشوفك باخف»، قد اعتاد ان يحثه إبان تأسيس «حزب السبعة ونص» قائلًا: «إوعى يا صبرى تسيب مصطفى النحاس ولو خلف، لأن مصطفى النحاس لا نظير له فى مصر فى الوطنية والطهارة والخوف من الله». وفى هذا الصدد يقول شيخ الصحفيين مصطفى أمين: «لقد انفض الجميع من حول مصطفى النحاس من فتح الله بركات إلى أحمد ماهر والنقراشى وإبراهيم عبدالهادى.. حتى مكرم عبيد، ثم نجيب الهلالى، عدا صبرى أبوعلم فإنه الوحيد الذى بقى بجوار النحاس إلى آخر يوم فى حياته». بل إن النحاس هو الذى ذهب، ليجلس إلى جواره بفراش الموت باكيًا! ويردد الكثير من معاصريه فيقول: ليس كافيًا أن نقول إن مصر كلها قد اهتزت بالوفاة المفاجئة الباكرة لصبرى أبوعلم، بل الأصح لو يقال إن الدنيا كلها قد اهتزت ساعة إذاعة هذا النبأ الأليم! ويتشح ربيع 1947 فى مصر بشارة من الأسى لغياب البطل عن الساحة الوطنية. ويقوم رئيس الوزراء الجديد نجيب الهلالى باشا وفاء منه لصديقه القديم بأن تحتفل الدولة رسميًا بالذكرى الخامسة لرحيله.. وكان ذلك هو آخر احتفال رسمى بذكرى الفقيد.. حيث تجىء يوليه 52، ويجرى الاحتفال بعد شهر بذكرى مرور ربع قرن على رحيل الزعيم الأب سعد زغلول، لكن لوحظ أن الاحتفال جاء على غير العادة بلا حماس وطنى.. ويتسرب المواطنون من السرادق واحدًا بعد الآخر.. وكان ذلك فى تقديرى هو بداية الخلل فى الكيان القومى والذى مارسه الشعب والسلطة معًا..! ويحدث أن يعقد قران نجل المرحوم صبرى أبوعلم على ابنة الصاغ صلاح سالم ويكون البكباشى جمال عبدالناصر رئيس الوزراء آنذاك هو شاهد عقد القران، بل يقف (منخار) البكباشي جمال و(منظار) الصاغ صلاح يخطبان فى الشوارع والميادين صباحًا ليقولا: أولئك الباشوات والاقطاعيون الذين خدعوكم فى الماضى.. أوليس صبرى أبوعلم من الباشوات ويملك منشية صبرى أبوعلم الذى قدرها 650 فدانًا.. وهل جاء يتصور مواطن فى القطر المصرى ان الخدعة الحقيقية فى مصر جاءت منذ تلك الفترة.. وهل خطر على بال مصرى واحد خبر تلك الفضيحة التى جرت مساء البارحة فى السر والخفاء بين الجدران الأربعة، ومن من الطرفين الذى خدع هذا الشعب فيما لو عرف بأن أسرة الصاغ الراقص (والذى سرق القصور الملكية من بعد حسب رواية الصادق الشريف اللواء محمد نجيب) هى التى سعت إلى ذلك وبشهادة كبيرهم! - وفى الوقت الذى يكتب الكاتب الناصرى الأول محمد حسنين هيكل ليكرم صبرى أبوعلم فى رقدته بكل مناسبة، لكن المؤرخ الوفدى الراحل جمال بدوى يجيب عن ذلك فيقول: عندما يمر شباب اليوم فى شارع صبرى أبوعلم بوسط القاهرة ربما لا يعلمون كثيرًا عن صاحب هذا الشارع لأن هؤلاء عاشوا للأسف وسط نظام كانت من مهامه الأساسية غسيل عقل الأمة ومسح ذاكرتها.. لكن جاء الوقت لكى يعرفوا من هم هؤلاء القادة وفى مقدمتهم: صبرى أبوعلم، سكرتير عام الوفد.. وكان المؤرخ الأمين سبق القول: ليس هناك خلاف بأن الأغلبية الكاسحة التى حصل عليها الوفد بانتخابات يناير 1950 إنما ترجع إلى الجهود المكثفة التى بذلها صبرى أبوعلم من موقعه قبل رحيله فى أبريل 1947. - وأخجل أن أذكر بأنه تواجد فى الفترة الأخيرة من المواطنين م يسمع عن اسم سعد زغلول لكنه لا يعرف تحديدًا من هو سعد زغلول!؟، وذلك شيء محزن لأنه إذا كان «غاندي» هو رمز الهند و«جناح» هو رمز باكستان و«ديجول» هو رمز فرنسا، فإن «سعد» هو رمز مصر، بلا جدال! - وبالأمس كان الناس يسألوننا: هل أنتم من عيلة صبرى باشا أبوعلم واليوم راح الناس يسألوننا: هل أنتم من عيلة المذيعة هالة أبوعلم؟ فمن المسئول عن هذا التدهور القومى الذى أصاب الشخصية المصرية بما تشير إليه لعبة «السلم والثعبان» بدخولها مرآة السياسة الوطنية ولوحة الشرف بالوجدان المصري.. وحتي جريدة الأهرام في بابها المشهور «حدث في مثل هذا اليوم» لا تأتي بذكرى يوم الفقيد بما يشير إلى ذكراه!؟ - كانت حياة صبرى أبوعلم أشبه بومضة بارقة، ربما عاش حياة عريضة لكنها كثيفة بالأحداث إلى أن امتدت إليه يد المنون فجأة ليرحل عنا شبابًا فى الرابعة والخمسين وبضعة أيام.. وفى هذا يقول الأستاذ سعد عبدالنور نجل فخرى بك عبدالنور: كان صبرى أبوعلم أشبه بطير يبنى عشه الجميل، وما أن فرغ من بناء عشه، وشرع يحلق عاليًا ليبدع لنا فإذ بهم يقولون إن صبرى باشا قد مات! - كان قد كسب شعبية هائلة، ونال تقدير رؤساء ووزراء الدول، وعندما علم الملك عبدالعزيز آل سعود بأن أمير الحج هذا العام هو صبرى أبوعلم حرص على استقباله فى المطار وإعطائه حزام الكعبة وهو تقليد متبع لملوك ورؤساء الدول، لكن الملك عبدالعزيز قد استثنى صبرى أبوعلم تقديرًا لشخصه. - كان خطيبًا ذا عيان، وأديبًا ذا بيان، ومتكلمًا بالحق ذا عنان، كما ترك بحوثًا قانونية وتشريعية ذات بصمة للآن. - واليوم بعد سبعين عامًا من رحيله نقدمه للشباب كمفخرة للوفد المصرى فى عهد مصر المحروسة فنقول: هذا الشامخ قصير القامة الذى نشأ بأرض مصر ونهل من معاهدها واعتلى منابرها وارتفع صوته تحت قبابها قد انتخب بالإجماع سكرتيرًا عامًا للوفد، وانتخب بالإجماع زعيمًا للمعارضة، وانتخب بالإجماع راعيًا لجناح الطليعة الوفدية المتطلعة لتحقيق آمال العدالة الاجتماعية، وانتخب بالأغلبية الساحقة نقيبًا للمحامين، والذى جاء وزيرًا للعدل عدة مرات ليصدر قانون استقلال القضاء حتى ان نقابة المحامين أطلقت عليه: فخر المحاماة صبرى أبوعلم.. لأنه كان وزير العدل المحامى وليس وزير العدل القاضى الذى أصدر هذا القانون المهيب، كما كان المؤسس لجريدة «صوت الأمة» المتنفس الجريء للضباط الأحرار قبل يوليو 52، وهو فوق ذلك الساعد الأيمن لزعيم الأمة مصطفى النحاس.. فلماذا تحول شخص بهذا القدر من شخصية حيوية جماهيرية إلى شخصية أرشيفية؟ وهل يعد ذلك أثرًا عن نظام سلطة يوليو الذى زعم ان مصر ولدت يوم 23 يوليو وحسب، أولئك الاثنا عشر ملكًا ورثة عرش فاروق الملك البريء المسموم فى روما.. وبلا سبب!