غاص بجسده بين ذلك التجويف الذي احتواه بالكاد، حاول أن يعدل من جلسته فلم يمنحه ضيق المقعد تلك الرفاهية، فجأة أدرك أن أيادي أربعا تحيط به وتكبل حركته، إذن فالأمر ليس مقصورا على ضيق المقعد. جال بنظره في تلك الوجوه المتجهمة التي ترمقه بنظرات خاوية يحمل بعضها شراسة لا مبرر لها، وفي حركة لا إرادية ربما اعتاد عليها راح يصرخ بأعلى صوته محاولا التملص من قبضاتهم فكان نصيبه ضربات قاسية سكنت صدره ووجهه ليستسلم تحت وطأتها لأيديهم وهي تحمله حملا فتمده فوق فراش جلدي كاد يذهب ما فيه من تمزقات بلونه وخامته. أجفل في ألم عاجز وهو يرى أسلاكا عدة تخرج من ذلك الجهاز تنتهي أطرافها بلواصق معينة راحوا يثبتونها في يديه وقدميه ورأسه و.... تحجرت عيناه وهم يضغطون أحد الأزرار، فإذا بجحيم يغزو خلايا جسده وكأنه فأر يتلوى في قدر مملوء بماء مغلي، تلك المرة كان صراخه موتا آخر. مقهورا يجرونه جرا ادخلوه غرفة واسعة تمتلئ بعينين تنظران إليه وإليهم في فزع، القوا بجسده فوق الفراش كأنما يلقون بخرقة بالية ما عاد لها نفع لديهم ، رفع عينين اثقلهما الذل والحسرة، تذكر ما ألم به منذ عام مضى من إحباط تسلل الى قلبه عندما فشل في الاحتفاظ بعمله وفشل اكثر في إيجاد عمل غيره بينما راحت أحلامه في تكوين أسرة تتراجع حتى انسحقت تحت أنياب واقع مرير جرفه نحو بئر الاكتئاب، بل أشد أنواعه، حاول أن يلملم سنواته الثلاثين عله يتماسك فانسابت فوق وجنتيه دموع الانكسار. انتفض من نومه فزعا، جلس فوق فراشه وهو ينظر حوله، ليتأكد ان ما رأى كان مجرد حلم، دفن رأسه بين كفيه وراح يردد في انهيار: - لن أذهب إلى المستشفى مرة أخرى ..لن أذهب . ثم رفع رأسه ونظر نحو جسد هزيل يفترش سريرا مقابلا له وسدد اليه نظرة حقد مستطردا: - لن اتركك تعيديني إلى المستشفى ثانية، لن اسمح لك ان تجعليني اذوق ما ذقته من عذاب. قالها وأسرع نحو ذلك الفراش المقابل، رفع الغطاء عن الجسد بعنف فإذا بامرأة في الخامسة والسبعين من عمرها وقد غطت في نوم عميق. مد يده يهزها في قسوة صارخا: - افيقي.. افيقي. شهقت العجوز في فزع وجلست وهي تنتفض هاتفة: - ماذا بك يا ابني؟ هل حدث لك مكروه؟ لم تنهره لهفتها عليه ونبرة الحنان في صوتها، فعاد يصرخ فيها: - جائع.. انهضي وجهزي لي الطعام. حاولت ان تقاوم ثقل النوم بجفنيها، وقالت وهي تتثاءب: - لكن الوقت متأخر يا ابني وانا متعبة ولا استطيع النهوض.. فلتأكل أي شيء و... قاطعها صوت أذان الفجر ينطلق لتكف عن الكلام وتكتفى بترديد الأذان في تمتمة خاشعة. زاغت عيناه في نظرة نحو الأعلى، وكأنه وجد ضالته في الصوت المنبعث من المسجد، ثم اقترب من أمه العجوز وأمسك بجسدها يهزه بين يديه هاتفا: - الصلاة.. هيا لتصلي.. الفجر .. الفجر. خار وهنها أكثر بين يديه وأشارت إليه هامسة: - دعني فإني مريضة وقلبي يكاد يتوقف من هزاتك. وكأن عبارتها كانت اذنا له بالتمادي، فزاد من هزها وهو يصرخ بقوة بينما هي تتألم في وهن متشبثة بالفراش حتى لا تسقطها يداه أرضا. تماهت أمام ناظريه مشاهد جلسات التعذيب التي يطلقون عليها العلاج بالكهرباء، ينتفض جسده مصعوقا فيزيد من هزه لجسدها.. يصرخ.. وتتألم. يزداد الجحيم بجسده فيطرح جسدها ارضا وينهال عليها صفعا.. ويصرخ.. وتصرخ في ذهول. تشهق في ضعف وتردد منتحبة: - اتضرب امك.. اتضرب أمك؟! افاق على كلماتها، نظر إلي يديه في غير تصديق ثم... ثم انهار باكيا عند قدميها.. قبلها بدموعه متوسلا ان تغفر مرضه. مسحت على رأسه في حنان، وكأم نسيت ما فعل . - هيا لتصلي إذن. ربما خشيت ان ترفض وتتعلل بعجزها عن النهوض فتستفزه، زحفت على يديها وقدميها حتى توضأت وهو يراقبها صامتا. افترشت الأرض وجلست تصلي. وقف بجانبها مطرقا، سجدت .. فعادت تلك المشاهد لتتزاحم في رأسه.. المستشفى.. الصعق.. العمل.. الفشل.. يا مجنون يا مجنون ..... «لااااااا» صرخ بها. «سأقتلك» وبكل ما يملك من قسوة وقوة وعنف انهال على رأسها الساجدة ركلا وضربا.. صرخت باسمه لم يسمعها، سقطت على ظهرها فكال لها الركلات في كل موضع، غاصت قدمه في موضع قلبها فجحظت عيناها وهما لا تزالان تنظران إليه في إشفاق وتوسل. و.. وتجمدت نظرتها وقد فارقتها الحياة. سكن الجسد عن الحركة وتوقف هو عن الضرب . لوهلة تسمر في مكانه... لماذا سكن الجسد..لماذا تحجرت عيناها هكذا؟ ماذا بك يا امي ...مريضة ..هل اطلب لك الطبيب؟ وانكفأ على جسدها يتحسس وجهها في دهشة، ثم صرخ وقد أدرك ما فعل، احتضنها بين ذراعيه منتحبا: - أمي..لا تموتي. . انا احبك ..سأذهب للمستشفى مثلما تريدين ولكن افيقي ..أرجوك افيقي. ازداد صراخه ..هذه المرة لم يفزعه تذكره لإحساس الصعق وعذاب الاكتئاب والإحباط ،فهذه المرة كان لبرودة الجسد الخامل بين يديه عذاب أشد في نفسه.