نزلت عبارتها عليه كالصاعقة، حتى إنه لم يستطع استيعاب ما تقول، فقد أجفل قليلاً، وهزَّ كتفيه غير مصدق وغمغم في استنكار: - ماذا تقصدين.. وما الذي يعنيه كلامك هذا؟ مطت شفتيها في أسف وأشاحت بوجهها عنه لتخفى دمعة كادت تفاجئ وجنتها، وحاولت أن تتمالك نفسها وهى تقول في بطء وتنزع خاتماً عن إصبع يدها اليمنى: - «وائل».. حاول أن تنسانى.. فإن بابا يصر على فسخ خطبتنا. - لماذا.. ماذا فعلت له؟ صرخ بها حتى إنها انتفضت في فزع وأردفت وهي تحاول تهدئته: - لم تفعل شيئاً.. وهذا ما أغضبه.. فقد مر عام على خطبتنا، ولم تنجز شيئاً من ترتيبات الزواج، وهو ما جعل أبي يراك غير جاد. ترقرقت دمعة حارة في عينه لم يحاول منعها فانسابت على وجنته بينما جاهد هو ليخرج صوته فخرج مبحوحاً مرتعداً كجسده: - لكننى أحبك يا «مريم» وأنتِ تعلمين ما أفعله من أجلك.. لكن ماذا أفعل أمام ظروفي المادية الصعبة. قاطعته قائلة وهى تدس خاتمها فى كفه: - «وائل» أرجوك.. لقد حاولت كثيراً الدفاع عنك، وأنت تعرف جيداً أن عائلتي لم تكن لتوافق عليك لولا إصرارى.. لكنك لم تساعدني ولم تترك لي فرصة أخرى للدفاع عنك. قالتها واستدارت لتنصرف، فأمسك بذراعها بقسوة تألمت على أثرها، وصاح وقد تملكه غضب عاصف: - «مريم».. لن أتركك مهما فعلتم.. فأنتِ ملكى.. وسوف أفعل أي شيء للحصول عليكِ.. أفهمتِ؟ خلصت ذراعها من قبضته بصعوبة وهتفت: - لا تكن غبياً، وبدلاً من أن تهددني حاول أن تصنع لنفسك مستقبلاً يجعلك جديراً ذات يوم بفتاة تستحقها. زادت ثورته وتحول صوته لصراخ هادر: - لن أترككِ.. ولو ذهبتِ لغيري سأقتله وأقتلك... سأقتل.... انصرفت في حدة عارمة مخلفةً وراءها بركاناً يعتمل في كيانه. * * * - مستحيل. قالها في انهيار، وراح يضرب الحائط بكلتا قبضتيه حتى إنه لم يشعر بتلك الدماء التي سالت من كفيه وهو يصرخ: - تزوجت ..لماذاااا... توقف فجأة عن لكم الحائط ثم انهار جسده حتى افترش الأرض، ودفن وجهه بين كفيه، وقال من بين نحيبه: - لماذا قتلتيني ...كيف استطعت أن تكونى ملكاً لغيري... ولم يكد ينطق حروف عبارته الأخيرة حتى غلفه الصمت وربما الصدمة، ورفع وجهاً أغرقه القهر، وعيناً أغرقها التحدي وأردف متمتماً: - لن أتركك لغيري ..لن أتركك. نهض كالمأخوذ وتناول مطواة من أحد الأدراج، فتح نصلها ونظر إليه نظرة جنون وهو يردد: - لن أتركك. * * * وقف خلف أحد الأعمدة التى تزين مدخل ذلك المتجر الشهير، تحسست أصابعه مطواته التى تسكن جيبه بينما تحجرت عيناه على باب المتجر و... ولم تلبث عيناه أن اتسعتا في نهم عندما أبصر «مريم» تخرج من الباب، وأسرع يخرج المطواة ويفتح نصلها، وكالمجنون أسرع يعدو نحو «مريم» شاهراً مطواته وهو يصرخ : - سأشوه وجهك حتى لا يرى ذلك الخنزير جمالك. وهجم على وجهها بالمطواة... صرخت في رعب.. لكنَّ صوته والمطواة في يده كانت كفيلة بلفت الأنظار إليه، فأسرع أحدهم يقف بينه وبينها ويمسك بيده بعنف ليقطع طريق المطواة نحو وجه «مريم» الذي امتقع في فزع وهي ترى المطواة على بعد سنتيمترات قليلة منها و.... حاول أن يقاوم ذلك الممسك بيده وظل يهتف كمن يهذى: - لن أتركك تتمتعين مع غيري. - اتصلوا بالشرطة. صاح بها الممسك بيده، فتمالكت «مريم» نفسها وأشارت إليه بحزم قائلة: - لا داعي ...فإننى بخير أما هو فسوف ينصرف الآن. * * * - إذن فهذا هو بيتكما يا «مريم». همس بها في مرارة ساخرة، وهو يختلس النظرات من مكان خفي إلى إحدى الشقق الواقعة بالطابق الثاني بإحدى العمارات، ثم نظر نظرة خاطفة إلى ساعة يده وعاد يرقب حارس العمارة الذي بدا أنه يقاوم النوم وهو يجلس فوق أريكته في مدخل العمارة ، فتافف «وائل» وهو يقول لنفسه: - إنها الرابعة فجراً ... ألن تدخل إلى شقتك لتنام أيها الرجل؟! وكأنه قد سمع عبارته، فقد نهض الحارس متثاقلاً، واتجه إلى الداخل حتى اختفى عن عيني «وائل» فأسرع الأخير يتقدم نحو العمارة في حذر لا يخلو من اندفاع ، وقد تسمرت عيناه على شرفة شقة «مريم» . ثبت تلك الزجاجة حول خصره، وأخذ يتسلق مواسير الغاز التى كادت تنكسر على نحافتها تحت ثقله، حتى إذا وصل الى الشرفة قفز داخلها وعالج بابها بآلة حادة فاستجاب لمحاولته وانفتح أمامه. دلف إلى الشقة التى لفها الظلام الدامس، لكن ضوءاً خافتاً منبعثاً من كشاف بيده أظهر أنه يقف في حجرة الاستقبال، فسار على أطراف أصابعه حتى وصل إلى إحدى الغرف وقد أغلق بابها، تسمر أمامها وقلبه يخبره أنها حجرة النوم.. إذن فأنت الآن تنامين هنا يا حبيبتي. ارتعد جسده وهو يجاهد ليتمالك نفسه.. أخرج تلك الزجاجة حول خصره.. وبأصابع مرتعشة أخرج ولاعة، أشعلها و... وقربها من فوهة الزجاجة التى امتلأت بالبنزين و.. وارتعدت شفتاه في ارتباك.. أبعد الولاعة عن الزجاجة قبل أن تشتعل واستدار ليغادر المكان و.. لكنه عدل عن قراره وعاد ليشعل فوهة الزجاجة وقد انتابته رعشة محمومة. ألقى بالزجاجة المشتعلة نحو باب الغرفة ومعها ألقى شريطاً لذكرياته مع «مريم» تمثل أمام عينيه في لحظة واحدة. - سأقتلكما معاً.. مثلما قتلتما قلبي. أفاق من شروده وقد أمسكت النيران بالباب حتى كادت تذيبه، وامتدت نحو الستائر وراحت تلتهم بعض الأثاث والسجاد. تراجع مذهولاً وقد انتابه ندم مفاجئ، وصرخ: - «مريم»...لا تموتى ..لاااا. لكن الصمت والنيران من حوله كانا جواب هتافه، فازداد هياجه، وظل يدور حول نفسه حتى إنه لم يلحظ أن النيران قد أحاطته من كل جانب فيما يشبه الدائرة، فانتابته ثورة هائجة وظل يضرب الهواء بذراعيه بجنون، لكن جسده لم يتحمل ثورته و... وسقط.. واصطدم رأسه بحافة منضدة حديدية بعنف وأظلمت الدنيا امام عينيه.. وراحت النيران تزحف نحو جسده و.. وتلتهمه عن آخره. * * * أحاط رجال الشرطة بتلك الجثة المتفحمة، وأشار إليها الضابط سائلاً حارس العمارة في حزم: - أمتأكد أنت أنك لا تعرف هذا الرجل.. انظر إلى ما تبقى من ملامح وجهه جيداً فقد تتذكر. هز الحارس رأسه نافياً وأجاب: - انا لم أره من قبل يا سيدى. اومأ الضابط برأسه متفهماً ونظر إلى زميله قائلاً: - من الواضح أنه لص تسلل من الشرفة لسرقة الشقة خاصة وأن اصحابها قد سافروا بالأمس وليسوا متواجدين بها .. ثم استطرد متسائلاً فى حيرة: - لكن إذا كان غرضه السرقة فما الذى دفعه لإشعال الشقة باستخدام زجاجة المولوتوف تلك.. يبدو أننا لا بد أن ننتظر وصول صاحب الشقة وزوجته، فقد تكون الإجابة لديهما.