"غبار الكثير من الغبار أما من نهاية لهذا". كذا قالت (رانيا) في عصبية مبالغ بها، فألقى عليها زوجها نظرة حائرة من فوق الجريدة، وهو يقول: - لا يوجد غبار هنا علي الإطلاق يا (رانيا) لقد قمتي بإزالته من هنا منذ خمس دقائق فقط؟! - حقًا ؟!! قالتها بدهشة، بخجل، بعصبية مفرطة.. فوضع زوجها الجريدة جانبًا ووقف أمامها وهو يسألها بلهجة مشفقة: - ماذا بكِ يا ملاكي؟ وكأن به قد قذف سحب من بخار الماء المُثقل داخل عينيها فإنطلقتا تهطلان دموعًا غزيرة وهى تسقط فوق أحد المقاعد وتغمغم بكلمات غير مترابطة: - لا أدري.. لم أعد أحتمل.. سأجن... هناك شيء ما.. إنه شيء شرير قاسي. جلس فوق ركبتيه أمامها وهو يمسح فوق شعرها برقة وقال: - اهدئي، ودعيني أفهم ليس هناك داعِ لكل هذا إنه مجرد حلم. ردت بنبرة استنكار حادة: - مجرد حلم ؟!، كل هذا وتقول لي إنه مجرد حلم، حلم يزورني كل ليلة عشرات المرات، ما أن أغمض عيني حتى يبدأ.. كانت قد بدأت في نوبة هستيرية جديدة وهى تكمل: - استيقظ فزعة، وعندما تغمض عيني ثانية يعاودني الحلم من جديد، أمتنع عن النوم فيشرد ذهني لأراه في يقظتي كأنني أحلم، وتقول لي مجرد حلم؟!.. كانت قد وصلت لذروة الانهيار، فأخذت تدق فوق المنضدة التي أمامها بعنف وهي تصرخ: "إنه يطاردني يطاردني،لا أدري لما، لا أدري كيف أنتظره كما يطلب مني، ولا ماذا أفعل ولا من هو، إنه..". أسرع يضم رأسها إلى صدره وهو يقول بصوت حاول أن يكون هادئًا: "اهدئي يا رانيا، كل شيء سيزول اهدئي أرجوكِ. أنطلق في هذا الوقت صوت بكاء طفلهما الصغير، فكادت رانيا أن تذهب إليه إلا أن زوجها قد سبقها وهو يقول: "أبقي أنتِ سأدخل أنا لأراه". وتركها لتهدأ وذهب ليرى الصغير. جلست بجوار فراش الصغير تتأمله وتمسح فوق شعره الناعم القصير وهي تهدهد الفراش وتراقبه وهو يعبث ببعض لُعب الأطفال الصغيرة التي أمامه ومن حين لأخر يلمس يدها ويبتسم ابتسامة طفولية مائعة، يحاول بها إن يجذب انتباه والدته، فينجح في ذلك وتبتسم له أو تداعبه حتى بدأ ينشغل مرة أخرى بألعابه، وأخذت هي تهز المهد بآلية وقد بدأ ذهنها في الشرود. لم يعد هناك مهد، لم يعد هناك طفل، حتى الحجرة لم تعد هناك فقط الفراغ الذي يملأ كل شيء وبرغم ذلك عندما نظرت لأعلى رأت السماء والسحب وكأنها وقت الغسق، ولونها الذي يتدرج بين درجات الأرجواني الذي يمتزج مع الأزرق وكأن هناك من خضب السحب بالدماء وعندما هبطت بنظرها إلى الأرض عادت لا ترى غير الفراغ ومن وسط الفراغ رأته مسربل في الضباب، و لا شيء منه يظهر، فقط تعرف إنه هناك إنها تراه دون أن تراه. تسمع الصوت العميق الذي يأتي من كل مكان، من اللامكان، يأتي كآنات طويلة يأتي كصرخات فزعة يأتي كتهديد و وعيد: "انتظريه..انتظريه إنه آت في الليل.. الزائر آت فاستقبليه.. الزائر آت.. الزائر آت.. الزائر آت.. الزائر آت.. الزائر آت.. الزائر آت.. الزائر آت.. الزائر آت.. الزائر آت.. الزائر آت.. الزائر آت.. الزائر آت.". تصرخ وتحاول أن تغلق أذنيها لكي لا تسمع لكن الصوت يتضاعف والظل الذي تراه ولا تراه يقترب: الزائر آت الزائر آت الزائر آت الزائر آت الزائر آت - "كفىىىىىىىىىىىىىىىى". تدوي صرختها وهى تستعيد ما حولها من موجودات، وتري الصغير هو يبكي بحرقة وقد أفزعه صراخها، وقد أندفع زوجها إلى الغرفة بفزع ليجدها تبكي بجنون وقد أخذتها موجة من الهياج وأخذت تلقي بكل ما تجده أمامها وهي تصرخ: - من أنت؟؟، من الزائر؟؟ من أنت أخبرني؟؟. أسرع زوجها إلى دورة المياه وهو يردد بفزع علي خلفية صرخات زوجته وبكاء صغيره. -"الحقنة المهدئة أين الحقنة المهدئة؟". وهي ما تزال تردد: "تعالى أيها الزائر أظهر لي، قل لي من أنت، ماذا تريد؟ ماذا تريد؟، أتركني أبتعد عني، أبتعد ع". كانت الصرخات الأخيرة من نصيب الزوج وهو يقاتل ليحقنها بالمادة المهدئة التي وصفها لها الطبيب، وقد أخذت تردد بخفوت: "أبتعد عني..من أنت؟.. أبتعد عني".. حتى راحت في ثبات عميق وتنفس زوجها الصعداء و أخذ يُهدأ من فزع الصغير ويهدهده حتى غلبهم النوم معًا. فراغ في الأرض، سُحبٌ مخضبة بالدماء في السماء، وجه تراه ولا تراه وإن ساد الصمت المكان، تتلفت حولها فزعة، فللمرة الأولي يتغير الحُلم، ولكن يبدأ الصوت من بعيد، هادئ ثم يعلو... فيعلو أكثر.. فأكثر، صوت بكاء، صوت نحيب، إنه صوتها هي، صوت بكائها، تحاول أن تصرخ، أن تسأل أن تتكلم فلا يخرج منها سوي نشيج حاد وبكاء يمزق قلبها، ومع صوت البكاء بدأ الصوت ثانية لكنه حزين هذه المرة صوت حزين هادئ يقول لها: - "لقد أتى..لقد أتى".. تنظر للأمام لترى الظل الذي لم تعد تراه يبتعد.. تدقق النظر، ترى ما يحمله، تشهق بعنف، تصرخ: "لااااااااااااا إنتظرررررررررررررررر لااااااااااااااااا أتركه لي لاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا". تفتح عينيها وهي لا تزال تبكي بجنون، وتنظر لزوجها النائم ولطفلها الصغير الذي بين يده وقد سكنت حركته تمامًا.. فقد رحل الطفل.. رحل مع زائر الليل. دعاء حسين الشبيني التعليق: قصة جميلة، الكابوس الذي ينبئ بما سيحدث، فانتازيا واقعية تماماً. مكتوبة بلغة دقيقة. لكن بها بعض التفصيلات الزائدة وبعض الأخطاء الإملائية واللغوية. لكنها تمتلك طاقة حقيقية في الكتابة الإبداعية. د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة