بقلم : الاستاذ عماد الحامولي ذلك الليل الغريب الذى يغرس حبائله فى بطن الظلمة ليضلل الآت....ويجعل مابين صدرى والبراح مسافات ثقيلة... انتظر انفلات العصافير لينكشف الفم الموثوق بين أسنان فرحانة ببياض الأمل وانشغال البسطاء بنظرية المؤامرة . لى أخت طيبة القلب جدا, طالما انهرها لذلك, تذكرك بجدتك التى كانت تقف بجوار جدك حتى يفرغ من طعامه حاملة له ابريق الماء والفوطه لتكمل صوره نجيب محفوظ فى الثلاثية, كانت لها قلب من ذهب, لاتقبل منى توبيخا لأبنها حين تأتى لتشكوه لى فتغضب وتذهب ولا أرها أسابيع, وحين أنصح زوجها بجدية البحث عن عمل آخر كى يستطيع تجهيز بناته الثلاثة اللائى دخلن مرحلة البلوغ تخاصمنى اسابيع, ودائما ماينتهى حوارنا بعبارتى المشهوره لها "ملعون أم الطيبة", حبها لأولادها وزوجها فاق كل حب, طيبتها لذيذه ومضحكة, غريبة هى تلك المرأة فى زمن عز فيه المعانى وطفت فيه المادة والقهر فوق كل الأحاسيس. تناثرت هموم الناس بين رؤوس الصغار المتحمسين المهمشين المحبطين الباحثين عن هوية الوطن, تتطاير بينهم الكلمات خافتة خافتة فعالية فزاعقة...تتراشق الهمم والهموم فيمتزجان بعرق الأولاد المجهدين المتعبين من حرقة الشمس و طول الوقوف فى فسحة الميدان مرارا كلما طفا بهم موسم غضب. تلك الليلة التى دق فيها باب البيت بعنف ايقظ كل من بالبيت, كانت أختى تكاد تحمل بنتها الوسطى التى قد تكون تلك الليلة هى ليلة ولادتها, فتحت أمى الباب لأختى وبنتها, أخبرتها أن بنتها جاءها طلق الولاده ولا تملك مليما وزوجها فى عمله لا يأتى الا كل اسبوعين, الوقت متأخر, ولا يوجد بقريتنا طبيب ولا سيارة تنقلنا للمدينة, بنت أختى تصرخ, تزداد صرخاتها, تتألم, تبكى, تختلط كل لغات الوجع لديها لتجعل الواقفين أكثر تخبطا, تصرخ أختى لأمى تستنجد بها, بنتى حتموت, تتوسل لأمى انقذينى, احتضنتها أمى المريضة وتحت ضغوط الأمومة والطيبة الموروثة قالت لها: لا تخافى , اذهبي لتجهزى الماء وحاجات الولادة, واسألوا الله التوفيق لى, سأقوم أنا بتوليدها. تدوس الجمال والبغال الأولاد المتعبين المنهكين فى حرارة الزحام وعنفوان الشهادة, تتطاير رصاصات وقطع من الطوب والأجسلم الصلبة فوق الرؤوس وبين الأجساد, يقع بعض الأولاد مبللين بسائل أحمر يملأ وجوههم وصدورهم, تتصاعد أدخنة وزجاجات وغبار وصرخات وزئير, تعالت همهمات البسطاء فى بيوتهم وحقولهم ومصانعهم, تتعالى, تتعالى, حتى تصبح كصوت الأنفجار, تتجمع كل الأصوات من كل ربوع البلاد لتصب فى الميدان لتشد من عزم الأولاد فيقفوا ثانية ويصمموا على اسقاط الطاغية, تعلو الأصوات, تسرع الحركات, تشتد نبرة الغضب, يتشابك أبناء الوطن باختلاف زيهم, يزداد التمسك بالحرية, فهى الآن على بعد خطوات منهم. تتعالى صرخات أمى وأختى بين رجلي بنتها تحفزها وتقويها بكلماتها التى يشوبها السب أحيانا واللطف احيانا أخرى, وبنت أختى يعلو أداؤها مره ويخفت الأخرى, تتخبط الكلمات والأوامر وعلامات الأستفهام, تبدو علامات التعب عليها, يقل عزمها, كل مايبرز منها كرة من اللحم لم تستدر بعد, لا يتحرك فيها سوى خفقان قلبها يدق بصوت عال مثل موتور السيارة الذى هلك, تضربها أمى كى تواصل الحياة, لكنها كانت لاتستجب النداء, تعلو أصوات أمى لها وتصرخ والرعب يملؤها, ويدا بنت أختى تبرد شيئا فشيئا, وتسكن حركتها شيئا فشيئا, ويعلو صوت أختى بالصراخ, والبكاء, ,امى تسند رأسها بالحائط وترفع يديها من بنت أختى معلنة فشل مهمتها, ليمتلئ البيت بسيدات متحفزات متشحات بالسواد. تتوالى لقطات الغضب, تتزاحم كادرات المصورين لدماء الشهداء وأفواه الرفض للكيان, تتراقص نهايات القصة المحتومة أمامهم, تتزايد أطروحات الفاسدين لتمديد فترة الظلم ساعات أخرى, لكن أرادة الأولاد فاقت كل الذخيرة المخزونة لقمعهم, وفى اللحظة القاهرة, زالت الغمة, وانقشع ليل الفاسدين, وسقط قناع الملعونين, وسقطت معهم كل أدواتهم, وذيع بيان التنحى, ليحتفل الوطن بولادته. عاد الزوج من عمله فقابله الجيران كعادة أهل الخير بخبر قتل حماته لزوجته التى يذوب فيها عشقا, ارتبك الزوج وفقد رشده فساقه أحد مهدئي النفوس الى قسم الشرطة ليبلغ فى حادث قتل أمرأه عجوز لأبنتها.. ارتفعت أصوات المزامير والدفوف, شدى الميدان بأهله شعرا وغناء ورقصا وزخما, حضر كل من فى القرى والنجوع للميدان, تبادل الجميع تهنئة العودة والصحوة والحياة, نقلت قنوات التلفزة أشكالا أخرى مختلفة ,اشخاصا يشتركون فى نفس النبرة حتى اختلط من مع, ومن ضد, فأصبح الجميع بنفس الزى, الكل أصبح حسن النية, حمل الأهل ذويهم على أعناقهم لألحاقهم بالجنة التى دفعوا ثمنا لها أظن أنى من الجبن حتى أدفعه, كنت غيورا منهم حين كان الوطن يبكيهم ويقدسهم, تمنيت أن أتبدل ويكون لى قلبا آخر وعمر آخر وأرادة الأولاد, أحسدكم, أغار منكم, أعشقكم. كنا بالداخل, وصوت هرج ومرج يقترب من بيتنا, ويقفز طفل الى قلب البيت زاعقا: الحكومة جاية عندكم, لحظات واقتحم رجال غير الرجال الذين نعرفهم, أخذوا أمى من بيننا, وذهبوا, أستأجرت سيارة أجرة وأسرعت خلف أمى, عابرا طرقا مزدحمة بالمدينة, وأفواها مفتوحة وألسنة تتحرك, ولوحات محمولة مختلف محتواها: الدستور أولا-البرلمان أولا-العلمانيون كفار-لا لأضطهاد الأقباط-الأغلبيه الصامتة.....................قرأت كثيرا وسمعت كثيرا, الشئ الوحيد الذى لم أسمعه هوصوت آداة تنبيه السيارة التى أستقلها حيث كان السائق يضغط عليه بعنف ويضحك ضحكا هيستيريا.