قرية الدم تدخل تاريخ الاكتشافات الأثرية للمرة الثانية بخبيئة من التماسيح المحنطة فى «جبل الطارف» ماذا تكتب عن قرية ذات تاريخين.. الدم والإجرام أم الحضارة؟! دماء الأبرياء المسفوكة لصالح عادة الثأر وصراخ المترملات ووجع الفقد عند جيل من الأيتام المتأهبين للقصاص منذ الطفولة. وتجنيد الأشقياء فى زمن «مبارك» للإيقاع بعناصر جماعات الإرهاب فى زراعات القصب، وسوق السلاح السرى وتجارة المواد المخدرة. وما بين الدم والإجرام، والحضارة والتاريخ مسافة قليلة لا تتعدى الكيلو متر حيث جبل «طُريف» أو «الطارف» هضبة جبلية تمتد من الأقصرجنوباً حتى سوهاج شمالاً، يصنفها الجغرافيون أنها خزانة الآثار التى حفظت نفسها بنفسها من قسوة الطبيعة وعبث اللصوص. هى «حمرة الدّوم» اسماً وصفةً، تتخذ لنفسها موقعاً جغرافياً وعراً فى تخوم جبل الطارف ضمن سلسلة من القرى، وتبتعد كيلو مترات قليلة شرق مدينة نجع حمادى ونحو 45 كيلو متراً عن مدينة قنا شمالاً، كانت من توابع قرية «فاو» التاريخية ثم فُصلت عنها سنة 1905 لتتبع مركز نجع حمادى، وحاقت بالقرية وجارتها «أبو حزام» سمعة سيئة منذ عقود بسبب استغراقهما فى عادة الثأر وتجارة واقتناء السلاح، والقبلية، وكونهما موطناً لبعض الأشقياء قديماً. فى سنة 1945 من القرن الماضى، كان مزارع من قرية «حمرة الدّوم» ينقب فى أسفل جبل الطارف لعله يجد كنزاً وبالفعل وجد جرة من الفخار سارع بكسرها فوجد بها مخطوطات قديمة فأهملها وسلمها لأمه لتستخدمها وقوداً لإحماء الفرن البلدى، وكانت هذه مخطوطات الفلسفة الغنوسية المسيحية المحفوظة بعضها فى المتحف القبطى حالياً، وبالصدفة أيضاً كان مفتشو الآثار المصرية فى جولة روتينية على المنطقة الأثرية فى جبل الطارف فى مطلع الشهر الجارى، فعثروا على بقايا مواد تحنيط فتشككوا فى الأمر كونها قد تكون مستخرجة من الجبل، أبلغ المفتشون رؤساءهم وتتبعوا أثر مواد التحنيط حتى عثروا على خبيئة من مومياوات التماسيح المحنطة. كان التمساح يرمز للمعبود «سوبك» وعُبده الفراعنة لسببين: لإتقاء شره كحيوان مخيف ورمزيته الدينية فى محاكمة الموتى فى العالم الآخر كان حيث مكلفاً بالتهام قلوب المذنبين حسب المعتقدات المصرية القديمة، وبوصفه كائناً يعيش فى نهر النيل رمز الخير، وكان من أشهر المعبودات واكتشف له مركزان لعبادته فى الفيوم وكوم أمبو بأسوان، حيث عثر على جبانات تحوى مومياوات للتماسيح فيهما. عثر المفتشون فى اليوم الأول للحفائر على 4 مومياوات لتماسيح محنطة بلغ طول أحدها أربعة أمتار، وأصغرها 12 سم، ونقلت فى اليوم نفسه إلى المخازن المتحفية لحفظها ودراستها وتأريخها، وفى اليوم التالى على حجرتين بهما مومياوات لتماسيح محنطة أيضاً، كما اكتشف سرداب طوله 30 متراً لتزيد معه الغرف المكتشفة إلى 6 غرف أو دفنات استخدمت لدفن المعبود سوبك فضلاً عن العثور أوانٍ فخارية وأدوات تحنيط، ويبدو أن «جبل الطارف» قرر البوح بكنوزه حيث بدأت تتكشف أمام المفتشين 3 غرف جديدة بعد أن امتد السرداب فى باطن الجبل إلى طول 120 متراً، ويصل عدد غرف الدفنات إلى 9 غرف منها واحدة استخدمت كمعمل للتحنيط، ثم أوقفت الآثار الحفائر وطلبت ميزانية من الوزارة لاستئنافها بعد أن بلغ عدد التماسيح المكتشفة 21 تمساحاً محنطاً فى حالة جيدة. لم تكن منطقة «جبل الطارف» محل الاكتشافات، فى العصور القديمة بعيدة عن نهر النيل وهو ما يفسر العثور على خبيئة التماسيح المحنطة، فنهر النيل له خصوصية فى قنا، حيث يُشكل إقليماً متكاملاً جغرافياً ويطلق عليه «ثنية قنا» ويبدأ من هضبة طيبة وينتهى عند جبل الطارف شرق نجع حمادى، حيث يأخذ الاتجاه الشرقى الغربى ثم الشمالى الغربى فى نجع حمادى، وعلى مر العصور حدثت تغيرات جيوموفولجية لتغير مجرى النهر. يقول الدكتور إبراهيم الدسوقى أستاذ الجغرافيا وعميد كلية الآداب السابق بجامعة جنوب الوادى إن العثور على خبيئة للتماسيح فى منطقة جبل الطارف يحتم بالضرورة وجود بيئة مائية تعيش فيها التماسيح، مفسراً أن «سوبك» عُبد فى منطقتين مائيتين ووجدت له فيهما جبانات وهما الفيوم حيث بحيرة «موريس قارون»، وفى كوم أمبو حيث حوض كوم أمبو وهو بيئة مائية أيضاً. وعن وجود بحيرة فى منطقة الطارف يشير الدسوقى إلى أن وجود بيئة مائية قديمة فى المنطقة أمر مؤكد، مرجحاً وجود بحيرة نيلية اندمجت فى النيل بفعل التغيرات الجغرافية على مر العصور وكان ذلك منذ 4 آلاف سنة تقريباً، أو عاشت التماسيح فى مجرى نهر النيل نفسه باعتبار أن التمساح النيلى كان يعيش فيه، قبل إقامة خزان أسوان والسد العالى، ثم احتجزت التماسيح بفعل ذلك فى بحيرة ناصر. وحسب متخصصين فى المصريات فإن الفراعنة اعتنوا بإقامة جبانات للحيوانات المقدسة حسب المعتقدات المصرية القديمة، و توجد فى مصر 7 جبانات للحيوانات فى خمس محافظات وهى.. الكباش فى الفنتين جنوب مصر، وترمز للمعبودين آمون وخنوم، والتماسيح وترمز للمعبود سوبك وتوجد فى الفيوم وكوم أمبو بأسوان، وجبانة العجل المقدس الذى يرمز للمعبود «كا موت» فى أرمنت، وجبانة الغزلان للمعبودة «عنقت»، وجبانة الكلاب فى أبيدوس بسوهاج للمعبود «أنوبيس»، وجبانة القطط للمعبودة «باستت» فى تل بسطة بالشرقية، ويرجح الباحثون كون خبيئة جبل الطارف هى الجبانة الثامنة للحيوانات والثالثة للمعبود «سوبك» فى مصر. كانت منطقة «حمرة الدوم» فى العصر الفرعونى تقع إلى الشمال الشرقى من قرية «هو» عاصمة الإقليم السابع من أقاليم مصر العليا فى الحقبة الفرعونية، تقع شمال مدينة قنا حالياً، وكأى كمنطقة جبلية اختيرت لتكون مقابر للموتى فى ذلك الوقت، وحسب مصادر تاريخية فإن مقابر «حمرة الدوم» الصخرية تم نحتها فى باطن الجبل فى عصر الدولة القديمة وتحديداً فى عهد الملك «بيبى الثاني» من ملوك الأسرة السادسة الفرعونية، وهى تخص أشراف وأعيان تلك الفترة، وهى تقع على بعد كيلو متر واحد من موقع الاكتشافات الجديدة فى «جبل الطارف». ورغم وجود مقابر فرعونية لنبلاء إقليم «حوت سخمو إي» الفرعونى فى جبل الطارف إلا لم تستحوذ على اهتمام هيئة الآثار المصرية فى ذلك الوقت وتُركت المنطقة ليعبث بها لصوص الآثار والباحثين عن الكنوز، وفى العامين 1974 1975 وُفدت بعثة أمريكية تابعة لمنظمة اليونسكو برئاسة عالم المصريات «جيمس روبنسون» و «تورنى سودربرغ» أستاذ المصريات فى جامعة «أوبسالا» فى السويد وعضو الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، وعكفت تلك البعثة على دراسة المقابر وأحصت عددها بنحو 158 مقبرة فرعونية، ومنها مقبرتا النبيلين «ثاوتي» و«أيدو» المنهوبتين، ونُشر «تورنى سودربرغ» أول دراسة علمية عنها بعنوان «مقبرة المملكة القديمة فى حمرة الدوم والقصر والصياد»، ولم تترجم للغة العربية حتى وقتنا هذا. كانت يد وزارة الآثار المصرية مغلولة تجاه كنوز جبل الطارف فى السنوات التالية سواء بتأمين نتائج البعثة الأمريكية أو استكمال الدراسات عن المقابر أو حراستها، حيث كانت «حمرة الدوم» منطقة ملتهبة أمنياً وانتشرت فيه تجارة المخدرات والسلاح وتنامت الخصومات الثأرية بشكل مفزع، ولجأت الدولة إلى الحلول الأمنية دون سواها فى التعامل مع تلك القضايا. يأتى اكتشاف خبيئة المعبود «سوبك» فى قلب جبل الطارف الذى لم يبح بكل كنوزه، ليقدم فرصة جديدة لتنمية المنطقة اقتصادياً وسياحياً وإنهاء حالة العزلة للقرى الواقعة فى محيط جبل الطارف، ومن بينها «حمرة الدوم» تزامناً مع المطالب الشعبية التى تصدرها الحملة الشعبية لفتح متحف نجع حمادى الإقليمى «افتحوا متحف الأمير يوسف كمال فى نجع حمادي» لإدخال السياحة إلى مركز نجع حمادى فى محافظة قنا، بتنفيذ مشروع المتحف الإقليمى فى المجموعة المعمارية للأمير يوسف كمال المعطل تنفيذه منذ سنوات طويلة، وتخصيص قاعة لعرض مكتشفات جبل الطارف بالمتحف، وفتح منطقة المقابر الفرعونية فى جبل الطارف للزيارة ضمن خريطة سياحية وضعتها الحملة الشعبية لزيارة المواقع الأثرية المختلفة الحقب التاريخية فى شمال قنا.