تربح من بيع ديون مصر.. زرع رجال الأعمال في الحكومة..تأهب لحكم مصر كشركة عائلية مساهمة. يشبه جمال مبارك كرة النار التي تدحرجت إلي الحزب الحاكم المتجمد فأشعلت درجة حرارته وحولته إلي أنهار من التيارات المتصارعة يجري كل منها في اتجاه بعيد عن الآخر ولكن سياسات الحزب التي كانت تعاني من الجمود هي التي صنعت ممرات لتلك الكرة وسمحت لها عن قصد بأن تمر حتي حدث الانقلاب داخله وتفتت أوصاله. جمال أحدث منذ بداية ظهوره شرخا عميقا في الحياة السياسية المصرية، فشل في علاجه طوال السنوات الثماني الماضية، وارتبطت بداياته بالحديث عن مشروع توريث الحكم وأثار صعوده المفاجئ وانتشاره المتدرج تحفظات بعض رجال الحزب الوطني من الحرس القديم الذين سعوا للقضاء عليه وإنهاء مشروعه السياسي قبل أن يبدأ حيث كانت النظرة إليه باعتباره محاولة لخلق أمر واقع لخلافة والده بالقوة خاصة بعد محاولات تهميش أباطرة الحزب. لكن جمال نجح في التخلص من بعض معارضيه بالاستبعاد أحيانا والتهميش أحيانا أخري وقام بتثبيت امبراطوريته داخل الحزب علي أرضية جديدة وما ادعي أنه فكر جديد وبدأ في ترديد شعارات من نوعية الانطلاق نحو المستقبل والفكر الجديد جعلته يمسك بخيوط اللعبة. فتح جمال الباب أمام تيار جديد للدخول إلي عالم السياسة هم رجال الأعمال الذين فرضهم بالقوة داخل تشكيلات الحزب بدعوي أهمية تجديد مفاصله بما يواكب العصر وسحب البساط تدريجيا من الحرس القديم حتي صار جمال ورجاله الجدد المسيطرين علي الحزب والمتحكمين في سياسات مصر كلها. لكن جمال الذي نادي بالتحديث وأعد أجندة إصلاحية للمستقبل شعر بالخوف سريعا من خطورة ما يفعله وحاول أن يجري بسرعة إلي الوراء وعاد إلي سياسات الماضي ليحتمي بها بعد أن شعر أن الإصلاح زلزل طموحاته وهدد بقاء الحزب الوطني، وأن الديمقراطية التي ظل ينادي بها سوف تطيح به إلي خارج القصر الرئاسي حتي إن النتيجة التي حاول جمال مبارك أن يثبت عكسها أنه هو نفسه نسخة جديدة من كمال الشاذلي وصفوت الشريف وقادة الحرس القديم. فقد سعي جمال مبارك الطامح في الوراثة أن يغير فريق اللاعبين في الملعب السياسي الوطني ولكنه أبقي علي الأرضية السياسية المليئة بالحفر والمطبات والتي كان يلعب عليها سابقوه من قادة الحرس القديم كما هي فظهرت محاولاته مشوهة وزادت الطين بلة، فأفرزت قيادات سخروا نفس السياسات القمعية التي كان يتبعها الحزب في الماضي لخدمة مصالحهم الشخصية. في خانة البطاقة الشخصية يحمل اسم جمال الدين محمد حسني سيد مبارك وظيفته التي كان يعمل بها في السابق موظفاً في بنك أوف أمريكا في لندن لكن لا أحد يعرف له وظيفة حاليا فهو أمين مساعد الحزب الوطني ونجل الرئيس وكونه ابن الرئيس يمنحه جواز مرور الي أي منطقة مهما كانت شائكة وتمنحه تذكرة دخول الي قلب أي مسئول في البلد حتي قبل ان يصبح امين عام الحزب الوطني. درس جمال في المرحلة الابتدائية بمدرسة مسز وودلي الابتدائية بمصر الجديدة بالقاهرة ثم انتقل إلي مدرسة سان جورج الإعدادية والثانوية وحصل علي شهادة الثانوية الإنجليزية في العام 1980 ثم تخرج من الجامعة الأمريكية بالقاهرة في مجال الأعمال وحصل علي ماجستير في إدارة الأعمال. الخلفية السياسية المنعدمة لنجل الرئيس دفعته للدخول إلي معترك السياسة من باب البيزنس فبدأ حياته العملية في فرع بنك "أوف أمريكا" بالقاهرة وظل فيه لفترة خمس سنوات قبل أن ينتقل إلي فرع لندن حيث تخصص لفترة ست سنوات في الاستثمار البنكي حتي وصل إلي منصب مدير الفرع. طموح جمال المالي أخذ يتصاعد بسرعة فائقة ، وبدأ في حفر الحروف الأولي من اسمه في قائمة المليونيرات عندما أسس شركة "ميد إنفنستمنت" التي بدأت برأسمال متواضع وخلال سنوات محدودة تجاوزت أعمالها ورأسمالها مئات الملايين من الدولارات حيث كان أول أنشطتها بيع ديون مصر في الأسواق العالمية وعبر هذه الشركة عرف الوريث كيف تأتي الثروة. لكن ابن الرئيس اختار أن يعود إلي مصر مره أخري وتهافتت عليه العروض من البنوك ليكون عضوا في مجلس الإدارة وبالفعل وافق علي المشاركة في عضوية أكثر من بنك استثماري لكونه ابن الرئيس، ماأتاح له أن يستفيد ماديا من بينها البنك العربي الأمريكي والبنك العربي الإفريقي، حيث سجل جمال اسمه باقتدار في قائمة الأغنياء وأصبح أكثر دراية بقواعد السوق في بلد تحول إلي نظام اقتصاد السوق ونفض غبار الاقتصاد الشمولي. ولم يترك رجال الأعمال جمال مبارك بعد أن وجدوا فيه صيدا ثمينا لبناء ثروات سريعة فكونوا تحالفا نفعيا بحيث يساعدهم الوريث في بناء الثروات علي أن يكونوا هم مخزونه الاستراتيجي في معركته الخفية لتحقيق مزيد من الصعود السياسي. وواكب هذا التحالف صدور العديد من القرارات الاقتصادية الخطيرة ساهم جمال فيها بشكل كبير كان أبرزها قرار رفع الوصاية عن الجنيه أمام الدولار في أكتوبر 2003. وهو أحد أكبر الأخطاء التي تسببت في أضرار جسيمة للاقتصاد المصري في السنوات العشر الأخيرة. شعر جمال أن لديه أسلحة يستطيع أن يخوض بها معركة فرض الذات بفضل المخزون الاستراتيجي من رجال الأعمال وشعر أن المناخ يسمح بأن ينزل إلي الملعب السياسي وأنه يستطيع شن هجمات متتالية لفرض نفسه وبالفعل بدأ صعوده السياسي يظهر بوضوح منذ المؤتمر العام الأول للحزب الوطني في سبتمبر 2002 والذي طرح شعار "فكر جديد" تعبيرا عن التوجهات "الإصلاحية"التي يقودها والتي رسمها له بطانته من رجال الأعمال وعلي رأسهم احمد عز المخطط الرئيسي للتوريث. ولم يجد جمال طريقا لفرض بطانته داخل الحزب سوي بتأسيس ما أطلق عليه "لجنة السياسات" لتضم في عضويتها نحو 300 شخصية من مختلف القطاعات وبدأ من خلال تلك اللجنة حرب الخلاص من الحرس القديم التي أحدثت حالة من الفوران السياسي داخل الحزب، تلقي جمال ضربات موجعة في بداية الحرب إلا أنه قام بعمل تغييرات سريعة في لجنة السياسات، واستعان ببعض الوجوه التي تلاقي ترحيبا وهوما ساعده علي الانتصار علي الحرس القديم بالضربة القاضية خاصة أن بعض قيادات الحرس القديم كانت من الوجوه المكروهة والفاسدة لدي الرأي العام. ووسط نشوة الانتصار سعت بطانة جمال إلي تهيئة المسرح السياسي لاستقباله بشكل جيد والإعداد لبروز سيناريو التوريث للعلن..ولكن بعض فلول من الحرس القديم شكلوا مطبات لمنع تنفيذ ذلك وقادوا حربا خفية من خلال سيناريو جديد يعتمد علي إظهار الرئيس مبارك نفسه بشكل مغاير لكسب بعض التعاطف الشعبي. جمال الذي حاول أن يبدو مسوقا لما أسماه سياسة إصلاحية داخل الحزب، عاد مسرعا إلي الخلف واحتمي بسياسات الماضي واتبع نفس أفكار الحرس القديم وحاول ان يجمد المناخ السياسي مرة اخري واجبر رجاله علي الدخول في حرب خفية مع قوي المعارضة لإسقاطهم وإخراجهم من المشهد تماما..بل ان جمال الذي جمد لجنة السياسات ايضا ارتمي في احضان والده بعد ان شعر ان الابتعاد عنه بمثابة تنازل عن طموحه السياسي ووفاة مشروع التوريث ففرض عقبات أمام أي تطور ديمقراطي يمكن أن يحدث بل وكان له دور كبير في التعديلات الدستورية الأخيرة التي كرست مبدأ التزوير بوقاحة منقطعة النظير. لكن انصار جمال لم يستسلموا وحاولوا إعادة تسويقه باكثر من شكل وانفقوا الملايين لإعادة تمرير مشروع التوريث ولكن نجل الرئيس كان يهدم كل ذلك دون قصد بفشله الذريع في إقناع المصريين بقبوله أو علي الأقل كسب التعاطف الشعبي نحو أفكاره.. أبسط دليل علي ذلك هو الحملات الهزيلة التي تكونت لدعمه والتي عكست جانبا مهما عن طبيعة أنصار التوريث من عينة مجدي الكردي الذي كون ائتلافا شعبيا لدعم ترشيح ابن الرئيس للرئاسة ، ولم يجمع سوي بضعة أشخاص فقط خاصة مع ظهور حملات دعم البرادعي. حتي أحمد عز الذي فشلت ملايينه في تسويق جمال مبارك راح يتحايل لتطوير الدعوة لجمال بأوصاف من الصعب تصديقها عندما وصفه في أحد مؤتمرات الحزب الوطني بأنه "مفجر ثورة التغيير والإصلاح" وهو ما زاد من سخرية الحملات وحول مشروع جمال إلي "كذبة أبريل". فجمال مبارك تحدث كثيرا ولم يفعل إلا قليلا والمثال الحي علي ذلك مشروع الألف قرية الذي صدع به بطانته رؤوسنا فشل في استكماله حتي الآن، ولم يقم بتطوير سوي 200 قرية فقط علي مدار السنوات الماضية ورغم أن جمال نفسه كان يعلق آمالا علي هذا المشروع ليقربة من الناس إلا أنه كالعادة فشل رغم تسخير الحكومة إمكانياتها لصالح المشروع. سألت المفكر اليساري أحمد بهاء الدين شعبان عن الكيفية التي أفسد بها جمال السياسة في مصر..فأجاب: أمين السياسات يريد الاستبداد بالسلطة فالاستقرار في رأي جمال مبارك يعني حالة من الجمود والشيخوخة التي تصل إلي حد الموت فهو مازال عاجزا عن التواؤم مع المتطلبات التي تفرضها الحياة السياسية ويعيش خارج سياق الزمن فحينما يتحدث جمال عن التغيير كون المقصود مزيدا من التجويع وما يطرحه من رؤي يجب وضعها في صناديق القمامة لأنه عفي عليها الزمن. المنسق السابق لحركة كفاية عبد الحليم قنديل أجاب عن السؤال نفسه بشكل مختلف بتأكيده أن جمال مبارك انتحل صفات سياسية عديدة ليست من حقه وتستوجب المحاكمة غير منصوص عليها في الدستور فهو يترأس اجتماعات الوزراء والمحافظين ويعد مشروعات قوانين ويتخذ قرارات سياسية وإدارية لا يحق طبقا للقانون اتخاذها إلا من رئيس الجمهورية. وقامت حركة كفاية بملاحقة جمال مبارك قضائيا لفضح قيامه بأدوار سياسية من دون سند دستوري وطالبت الحركة ابن الرئيس بتقديم إقرار ذمة مالية للكشف عن حقيقة مصادر ثروته التي قالت أقل تقديرات: إنها تبلغ نحو 750 مليون دولار. وبرؤية حمدي حسن المتحدث باسم كتلة الإخوان في البرلمان السابق فإن جمال مبارك هو امتداد للحالة السياسية الحالية ،والتي تؤدي إلي عقم ديمقراطي فما يحدث منه هو أحدث طرق التحايل علي الشعب لتقديم السياسات القديمة التي كان يروجها بعض القدامي وبسببها أصبحت الحياة السياسية تعاني من تدهور شديد في الرؤي وفساد في المناخ العام.