من أقصى الشمال إلى الجنوب، وما زالت مخالفات البناء تتزايد، حتى صارت شوارع مصر مستباحة دون سند ملكية، أو قواعد تنظيم للبناء والتشييد، لحساب مافيا بيزنس العقارات المخالفة، إلى أن وصلت قيمة الاستثمار العقاري «غير المرخص» فى مصر، إلى ما يزيد على 350 مليار جنيه، فلا يوجد شارع أو حي على طول محافظات المحروسة، إلا ويسيطر عليه أباطرة العشوائيات، ومخالفات جسيمة ترتكب فى وضح النهار، لنشاهد آلاف المباني المخالفة للارتفاعات، وقواعد التنظيم، وأخرى أنشئت على أملاك الدولة أو بوضع اليد، وثالثة بنيت بدون ترخيص أو إشراف هندسي، وقرارات إزالة لا تنفذ وكلها لا تخلو من دفع المعلوم «الإجباري» بل إن الكثير من المبانى المخالفة فى طريقها للتسوية مع الأجهزة التنفيذية بالدولة، وكل ذلك يتم بحماية قوانين الإسكان العقيمة وعلم المسئولين! والكارثة الأعظم أن مشروع قانون البناء الموحد رقم 119 لسنة 2008 - المعد من وزارة الإسكان - والمطروح للنقاش فى البرلمان الآن، يمتلئ بالعديد من الثغرات القانونية، ويحتاج إلى إعادة مناقشة مرة أخرى - حسبما أكد خبراء الإسكان - محذرين من العواقب الوخيمة التى يمكن أن تواجه المجتمع والدولة من تفشي الفساد وانتشار عشوائيات البناء وغياب القوانين والرقابة على أملاك الدولة. ليبقى السؤال: أين دور الأجهزة الرقابية والمحليات فى الحد من تفشى الفساد وعشوائيات البناء المخالف؟ «الوفد» رصدت البناء المخالف والمبانى القديمة فى مناطق عديدة بمحافظتى القاهرةوالجيزة، والتقينا أصحاب هذه المبانى للتعرف على مشاكلهم ومطالبهم وآراء المواطنين المتضررين منهم. السكان ضحايا المخالفات يقول محمد عثمان «محاسب»، أحد سكان العقارات بمنطقة الهرم: إن الشاب المصرى يعيش ظروفاً أشد قسوة، فالحياة غالية وإيجارات السكن تزداد باستمرار، حتى وصلت ل 1200 جنيه شهريًا فى منطقة الهرم، ونظرًا لعدم وجود مسكن آخر للإيواء فيه، اضطررت للجوء إلى الاقتراض بمبلغ 50 ألف جنيه، لدفعها مقدمة شقة تمليك للزوجية بمنطقة جسر السويس، وتحمل أعباء ارتفاع الأقساط الشهرية التى تبلغ 1000 جنيه، وبالتأكيد هو أمر مبالغ فيه وتعجيزى للشباب، ما يحول حلم الزواج لكابوس مستمر، وعبر عن استيائه من عدم إمكانية الشباب للتأكد من الوضع القانونى للمبانى قبل السكن بسبب «العوز والاحتياج»، بالإضافة إلى عدم ملاءمة الراتب البسيط الذى لا يتجاوز ال 1700 جنيه شهريًا لمتطلبات الحياة المتزايدة، والأكثر حزنًا وألمًا أننى علمت بعد اكتمال التعاقد على الوحدة السكنية بأن العقار مخالف، وصاحب البناء غير مقنن أوضاعه، ويتعامل بنظام «الممارسة» ولكن فى معركة البحث عن شقة العمر ننسى لماذا نعيش.. وماذا نفعل؟ فين الحكومة؟ «أود الزواج ولا أمتلك المال.. كل شيء فى ارتفاع.. إلا أحلامنا فى انخفاض».. هكذا قال محمد صفوت، شاب تجاوز الثلاثين من عمره، من سكان منطقة الشرابية. ويروى «محمد» قصته مع حلم الشقة، قائلاً: كل أصحاب العقارات يبحثون عن الشباب القادرين على شراء الوحدات السكنية مرتفعة الثمن، وهذا هو أكبر تحد يواجه الشاب محدود الدخل، الذى لا يمكنه دفع مبلغ 50 و100 ألف مقدمة شقة سكنية، فأنا أعمل مندوب مبيعات منذ 6 أعوام، وراتبى ليس ثابتاً، ويعتمد على نسبة معينة من المبيعات التى يحققها المندوب، وفى كل الأحوال فإنه لا يتعدى 750 جنيه شهريًا، ولا يمكننى تحمل أعباء مالية إضافية، بل كنت أنتظر من الثورة حياة آمنة ومستقرة، وبالتالى توفير متطلبات الشباب البسيطة وإشباع احتياجاتهم فى توفير مسكن مستوفى اشتراطات البناء، لأن صاحب العقار أو المقاول لا تقع عليهم أى مسئولية فى حالة انهيار العقار، لعدم وجود أوراق تثبت مسئولية أى طرف. حلم شقة العمر أشرف مصطفى، الذى لم يتجاوز سن الأربعين من عمره، ولديه طفلان، من سكان الشرابية، يروى قصته قائلاً: آلاف المبانى السكنية أقيمت فى شارع غرب السكة الحديد بعد الثورة مباشرة، وتباع الشقة الوحدة بمبلغ 250 ألف جنيه، وتصل أقساطها إلى 850 جنيهًا كل شهر، وأعلم أنها مبانى مخالفة «لكن ما باليد حيلة» فأنا أعمل سائقًا فى إحدى الشركات الصغيرة، وأعول أسرة مكونة من 3 أفراد وكنت آمل مثل باقى الشباب بتوفير شقة ضمن المليون وحدة سكنية، غرفتين وصالة فقط، بأقساط مريحة لا تتعدى 300 جنيه، والتى يبدو أنها لن تأتى أبداً. إيجار السكن «نار» وفاء محمد سعيد، سيدة تجاوزت ال60 من عمرها، أم لشابين وبنت، تقول: قوانين الإسكان لا تتفق مع إمكانيات الشباب وتكثر من آلامهم، والحكومة لا تهتم ولا تستجيب لمطالب أبنائنا الذين يتعدون سن الثلاثين، وتصيبهم بحالة من الإحباط والشعور بالعجز واليأس القاتل، بعد ضياع أحلامهم وأمنياتهم فى فرصة عمل ومسكن مناسب، وهو ما يجعلهم يفكرون فى حلول سريعة لإنقاذ ما تبقى من سنوات عمرهم الضائعة. ثم صمتت لحظة، وتساءلت: هل يعقل أن تصبح الشقة التمليك ب 350 ألف جنيه فى منطقة فيصل، هنشترى منين، فأنا ربة منزل وزوجى فارق الحياة فى 2003 تاركاً لى 3 أبناء فى سن الزواج، وأتقاضى معاشاً لا يزيد على 1400 جنيه فى الشهر، وهو لا يعيننى على مشقة الحياة، أو توفير مسكن آخر، بل أدبر أمورى بهذا المال القليل شهريًا. عشوائيات البناء بالقاهرة وخلال جولتنا بمنطقة الشرابية، لاحظنا تفاقم مشكلة عشوائيات البناء المخالف تجاوز المساكن القديمة الآيلة للسقوط وانتشار الشقوق فى جدران منازل السكان، وهذا ظهر جلياً فى شارع الكافورى، حيث وجدنا أبراجًا شاهقة التى تبدأ من 7 طوابق إلى 12 طابقًا، وتجاورها مساكن قديمة عفى عليها الزمن تمتد إلى 4 طوابق.. ونفس الصورة السيئة تتكرر فى شارع كنيسة العذراء، نجد الأبراج السكنية الجديدة تصل إلى 12 طابقاً. وكذلك الحال فى شارع المغالق نجد مساكن بحد أقصى طابقين التهمت حرم الطريق بالمخالفة للقانون وتفتقد لمواصفات السلامة الإنشائية، وتمتد إليها المرافق والخدمات وتكتظ بالسكان. وكذلك الآلاف من المبانى تقع بجوار الأقسام الشرطية وبالقرب من الأحياء والإدارة المحلية، دون أن تتخذ الإجراءات اللازمة حيال تلك التجاوزات، حيث رصدنا العديد من العقارات المخالفة للارتفاعات المكونة من 10 و11 و12 طابقاً، والأكثر دهشة أن تلك المخالفات فى واجهة رئاسة حى مدينة نصر، وذلك فى شارع محمود شلتوت متفرع من شارع الطيران بمدينة نصر. وفى شارع الصبيان التابع لحى باب الشعرية، نجد مبانى مخالفة للارتفاعات تمتد إلى 6 و7 طوابق تجاورها مساكن قديمة لا يزيد ارتفاعها على 4 طوابق. والمشهد السيئ ذاته فى شارع ال20 بفيصل، الهرم، وجدنا إزالات لطابقين ثم تركتها الأجهزة المحلية على حالها. التحايل على القانون كشف محمد محمود، مقاول بمنطقة فيصل، أسلوب العمل فى بناء المبانى بدون تراخيص وطرق التحايل على القانون، حيث قال: إن صاحب الأرض يقوم بالاتفاق مع المقاول على البناء دون الانتظار حتى الحصول على ترخيص بالبناء، ونقوم ببناء الوحدات السكنية، وصاحب العقار يبيع المتر بحوالى 1800 جنيه. ويضيف: 14 يوماً فقط نكون بنينا طابقاً واحداً، لنصل إلى الطوابق العليا التى ترتفع لأكثر من 12 طابقاً وقد تحتاج إلى شهور، ونسلمها لصاحب العقار بعد ذلك، وعندما يأتى الحى يجد بناء العقار قد انتهى، فيقوم بعمل مخالفة دون قرارات إزالة، ويتراضى الموظفون بجزء من مبلغ بيع الشقق، والدنيا بتمشى. بطء إجراءات وتعقيدات معاناة حامد سعودى، الرجل الخمسينى، ليست الوحيدة فى قرية كرداسة التابعة لمحافظة الجيزة، الذى يصطدم بما أسماه «الروتين العقيم» قائلاً: توجهت إلى مركز مدينة كرداسة والإدارة الهندسية بحى الجيزة، من أجل استخراج ترخيص بالبناء، لكننى واجهت العديد من الصعوبات مثل باقى أصحاب العقارات من بطء الإجراءات وتعقيدات استخراج التراخيص وهو ما دفعنا لفعل أى شىء مخالف، لذا أناشد الحكومة بضرورة تخفيض وتيسير الإجراءات والرسوم اللازمة لإصدار التراخيص كى يتمكن كل صاحب عقار من استصدار رخصة بناء فى وقت أقل مما كان يستلزم فى الفترة الماضية، خاصة أن ترخيص البناء يصدر على عدة أسس، منها تحديد الغرض من استخدام المبنى ما إذا كان إدارياً أو تجارياً أو سكنياً، والتأكد من استخدامه فى تلك الأغراض كلها، حتى لا نضطر لمخالفة القانون مرة أخرى. وأوضح أن أجر المهندس المسئول عن متابعة التراخيص ورصد المخالفات يتراوح ما بين 5 و15 ألف جنيه للطابق المخالف. وبجوار «حامد» كان يقف أيضاً رشاد الجندى، البالغ من العمر 61 عاماً، من أجل المطالبة بإسراع الإجراءات حتى إن كانت غير قانونية «حسبما قال»، وها هو الآن بعد معاناة شديدة لا يزال يأمل فى تحسين الخدمات، وتسهيل الحصول على رخصة البناء، مؤكداً أن معاناة أصحاب العقارات مع تفشى الفساد وملل الروتين وطول الإجراءات فى المحليات ومراكز المدن والأحياء كانت وما زالت كما هى، فى الوقت الذى يمكن إنهاء الإجراءات بواسطة موظف واحد فقط وفى وقت أقل من ذلك بكثير، لذا يطالب بإعادة النظر فى اختيار العاملين بالجهات المختصة التى تقدم خدمات جماهيرية، تيسيراً على أصحاب العقارات، الذين يعانون الآن أشد المعاناة. محمد سيد على، صاحب إحدى العقارات المخالفة للارتفاعات بقرية قليوب، قال: تقدمت بطلب إلى مجلس مدينة قليوب التابعة لمحافظة القليوبية، وذلك فى أكتوبر 2016 لاستخراج تراخيص تعلية بطابقين، لعقار مكون من 6 طوابق، الذى تم التصالح بشأنه فى عام 2003 فى حين رفض المسئولون بالإدارة الهندسية استلام الطلب، وقالوا لى: يوجد لدينا قرار من المحافظ السابق محمد عبدالظاهر بمنع التعلية للمبانى المخالفة، وعدم قبول أى طلب فى هذا الشأن، مؤكداً أنه تم إرسال ثلاث طلبات للمجلس، لكنها لم ترد على تلك الخطابات حتى الآن، رغم أن باقى عقارات المنطقة تقوم بالتعلية بلا رادع. ويتساءل: ماذا أفعل.. هل أخالف القانون مرة أخرى؟.. فهناك كثيرون بحاجة إلى تقنين أوضاعهم!