في مقال له بجريدة «المصري اليوم» - السبت 17 ديسمبر- تحت عنوان «في عيده المئوي .. نجيب محفوظ والمسيحيون» قدم الدكتور رفعت السعيد شهادة مهمة بشأن خصائص الكتابة الأدبية لمحفوظ والتي يحتل الرمز فيها مساحة كبيرة، يمكن أن تمثل في رأينا إضافة جديدة في مسار الجدل بشأن رواية «أولاد حارتنا». وأشار السعيد إلى مقال آخر له كتبه في «الأهالي» بمناسبة تكاثر حوادث الاعتداء على الكنائس تساءل فيه: «أليس المجانين منهم مسلمون ومنهم مسيحيون، فماذا لو اعتدي مجنون مسيحي على مسجد وأعمل سكينه في المصلين؟ وهاجت الدنيا وانقلبت على رأسي وتلقيت هجمات شديدة العنف». يضيف السعيد «ضحك يومها نجيب بك وقال : حظك وحش لأنك لا تكتب الرواية.. ففي رواياتي أكثر من ذلك بكثير لكن لا أحد يتحرك .. ربما لأنهم لا يفهمون .. وربما لأن الغضب ينصب على شخص المتحدث في الرواية.. ناسين أنني الذي كتبت». لعل ذلك يشير إلى العديد من المعاني المسكوت عنها في روايات محفوظ على نحو يفرض التساؤل حول حدود هذا الأمر في «أولاد حارتنا»؟ وقبل الاستطراد أشير إلى أنني من أشد المعجبين بالرواية.. قرأتها عدة مرات .. من بينها مرة قبل إجازة طباعتها في مصر، ومرتين بعدها. وفي تقديري أنه لا يضاهيها في أكثر أبعادها الإنسانية شمولا سوى «ملحمة جلجامش» التي تجسد أحد أحلام البشرية الأزلى نحو الخلود، فالرواية – أولاد حارتنا - تجسد ، من وجهة نظري، كذلك مسعي البشرية الأزلي نحو السعادة، بغض النظر عن الجهة التي يمكن الوصول إليها من خلال هذه السعادة .. طريق الإيمان أو الدين أم طريق العلم. ورغم ذلك فإن موقف المدافعين عن الرواية ، يثير الدهشة في ضوء التزام أغلبهم «التُقية» في تناولهم لها فيما يبدو خشية الحديث الصريح عن مضمونها الحقيقي، والذي يبني الكثير من المعترضين على الرواية موقفهم. موضع الإشكال هنا هو إنكار المدافعين عن الرواية ، لما يمكن القول إنه «المعلوم من الرواية بالضرورة»، بغض النظر عن الهدف من هذا الإنكار.. نبيلا أم لم يكن كذلك. لا نناقش هنا حرية الإبداع من عدمها، ما نناقشه قراءة الرواية بشكل يناقض ما تراه القراءة المنطقية لها. ويتحدد الخلاف بشكل عام، على نحو ما هو معروف لمن تابعوا الجدل حول هذه القضية، في الانقسام بشأنها إلى فريقين الأول يرى أنها تمثل خروجاً على الدين وإساءة لأنبياء الله، وفريق آخر ينفي هذه القراءة جملة وتفصيلا. وهنا نؤكد على أنه يمكن الخروج من القراءة الطبيعية للرواية، دون أن يحمل ذلك أي اتهامات تنال من عقيدة صاحبها، بأن شخصية الجبلاوي ترمز إلى الله وأن أدهم هو آدم وجبل هو موسى ورفاعة هو المسيح وقاسم هو النبي محمد (ص). غير أننا في معرض محاولة فض الاشتباك الحاصل حول الرواية التي يرى الراحل «رجاء النقاش» بحق أنها تمثل الأزمة الكبرى في تاريخ الثقافة العربية في القرن العشرين ، نشير إلى أنه يجب قراءتها على مستويات ثلاث: الأول مستوى التوصيف والثاني مستوى تلقي القارئ والثالث مقصد الراوي أو الأديب. وخلافنا مع المدافعين عن الرواية يدور حول المستويين الأول والثالث. فعلى صعيد التوصيف، تعرض الرواية لمسيرة البشرية من خلال قصة الخلق وقصص الأنبياء وصولا إلى فكرة فلسفية بشأن مصير الإنسان في بحثه عن السعادة والعدالة. وقد نجح محفوظ بفعل عبقريته الأدبية في تقديمها في قالب مزج فيه الخيال بالقصص الديني بشكل لا يمكن معه ضبطه «متلبساً» وإن كان صعباً عليه تجنب ضبطه في وضع يثير الشبهات. ومن هنا يبدو غريباً أن يقول النقاش، وهو أحد أكثر المدافعين عن الرواية بشكل بدا معه من «دراويش» محفوظ، أنها قراءة غير أدبية تحاول استنطاق كلمات الرواية وسطورها ما ليس فيها. كما يبدو غريبا كذلك إشارة النقاش إلى خطورة التعامل مع الرواية على هذا النحو الديني رغم أنها قائمة على الخيال. مصدر الغرابة، أن القراءة المتأنية تؤكد أن الخيال ليس وحده هو المصدر الوحيد ل «أولاد حارتنا»، وأنها إنما تقوم على ثلاثة مصادر أساسية هي خبرة الكاتب الحياتية وخياله كأديب، والأهم هو القصص الديني. بل إن المؤلف ذاته محفوظ لا ينفي البعد الديني لها رغم تحفظه عن الاستفاضة بشأن تحديد طبيعة شخصياتها بالشكل الذي فهمه بها الكثيرون. على المستوى الثاني الخاص بتلقي الرواية من قبل القارئ فإنها في رأينا ينبغي أن تقرأ على مستوى يتجاوز بكثير المعنى المباشر لسطورها وكلماتها، وهو ما نتفق فيه مع ما ذهب إليه أغلب من يدافعون عن الرواية. غير أن ذلك لا ينفي إمكانية تعدد القراءات ونوعيات التلقي لها بالشكل الذي قد يذهب فيه الكثيرون بشأنها مذاهب شتى، ولا حرج في ذلك، فالبعض قد يتلقاها على أنها تمثل نيلاً من الدين، فيما سيرى فيها آخرون رؤية تتجاوز هذا المستوى من التفكير، وهذا أمر طبيعي، ولنا المثل فيما أشار إليه النقاش نفسه بشأن موقف الأديب العالمي تولستوي من شكسبير وقراءة أعماله الأدبية قراءة دينية وصلت إلى حد لعنه. فإذا كانت هذه قراءة لتولستوي وهو من هو في مجال الأدب، فكيف بالقارئ العادي الذي يقرأ الرواية على سبيل المتعة.