«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في حياة محفوظ وأعماله
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 12 - 2011

بقلم‏:‏ ليلي فريد : ترك الراحل الكبير نجيب محفوظ ثروة أدبية وفكرية‏,‏ تربو علي الخمس وثلاثين رواية‏,‏ والثلاثمائة قصة قصيرة‏,‏ إضافة للعديد من المقالات‏,‏ وخمس مسرحيات من فصل واحد‏,‏ وسيناريوهات عدد من الأفلام‏.‏ ومن المهم أن نعرف موقع الشخصية المسيحية في وسط هذا الكم من الأعمال. ومن الصعب الفصل الكامل بين المسيحيين الذين أظهرهم محفوظ كشخصيات روائية, والمسيحيين الذين التقاهم في حياته, لأن أغلب شخوصه الفنية من وحي أناس حقيقيين عرفهم خلال مشواره. وأول ملاحظه أن النماذج المسيحية في أعماله قليلة, والسبب في ذلك- في تصوري- أنه لم يكتب إلا عما عرفه واختبره جيدا, فأعماله محورها الحارة والأحياء الشعبية, والطبقة الوسطي من موظفين وتجار وطلبة, لم يكتب مثلا عن الريف والصعيد أو الفلاحين وعمال التراحيل; لأنها ببساطة أماكن لم يعش فيها, وأناس لم يخالطهم.
وظروف حياته شكلت حدود علاقاته ومعارفه, إذ ولد في حي الجمالية لأسرة غير متعصبة, وبرغم أن الثقافة الوحيدة في بيته كانت ذات طابع ديني, إلا أن أباه لم يتردد في تسميته باسم الطبيب القبطي نجيب باشا محفوظ الذي أنقذ الأم والمولود من الولادة المتعسرة, والأم برغم أميتها كانت مولعة بزيارة الآثار الفرعونية والقبطية والإسلامية. وكثيرا ما أخذته في يدها وهو صغير وجالت به حجرة الموميات بالمتحف المصري, والمساجد وأضرحة الأولياء, والكنائس والأديرة. وبرغم أن معلوماتها عن كل هذه الأشياء كانت مغلفة بالأساطير, إلا أن الطفل نجيب محفوظ تشرب منها التسامح والمحبة للجميع, فكان يسمعها تقول عن الحسين ومار جرجس أن كليهما بركة, وكانت تصادق الراهبات, ويزرنها في بيتها عندما تمرض
لكن نشأته الأولي في الحي الشعبي المجاور للحسين, الذي يكاد يقتصر سكانه علي المسلمين, جعلت دائرة أصدقائه في المرحلة المبكرة من حياته تكاد تخلو من المسيحيين. وعندما خرج إلي حياة أوسع, في المدرسة والجامعة والوظيفة, اتسعت بالضرورة دائرة زملائه وأصدقائه; فدخل المسيحيون عالمه, ولكن بقدر محدود يتفق مع كونهم أقلية عددية, حتي أن مجموعة الأصدقاء المقربين( الحرافيش) لم تضم إلا مسيحيا واحدا هو عادل كامل الذي كتب روايتين ثم انصرف عن صنعة الأدب.
وعندما اختار محفوظ سبع شخصيات كأساتذة يدين لهم بتشكيل فكره, وضع بينهم سلامة موسي الرائد السابق لعصره في آرائه التقدمية, وتبشيره بالعلم, ومناداته بالعدالة الاجتماعية. كان سلامة موسي مشجعا للموهوبين, ومدافعا عن الحق بغض النظر عن العقيدة الدينية أو الاتجاه الفكري, فأفسح المجال للطالب الصغير نجيب محفوظ لنشر مقالاته في المجلة التي كان يصدرها, ونشر له أولي رواياته. ورغم الاتهامات المتبادلة بينه وبين العقاد وطه حسين, فقد وقف موسي بجوار الأول عندما سجن بتهمة العيب في الذات الملكية, ودافع عن الثاني عندما طرد من الجامعة. ولأن نجيب محفوظ كان وفديا حتي النخاع, شب في أحضان ثورة1919 التي طبقت عمليا شعار: الدين لله والوطن للجميع, فقد تشبع بمبادئ التسامح والمواطنة.
والواقع أن كل من عرفه يدرك تماما أنه كان أبعد مخلوق عن التعصب الديني, أقواله وأفعاله- التي هي تعبير صادق عن مبادئه- تشهد بذلك. وكان من أشد المعجبين بفن نجيب الريحاني. وكانت قائمة أصدقائه وتلاميذه تضم الكثير من المسيحيين الذين أخلص لهم الود, ولم يبخل عليهم بالتشجيع والإرشاد, لويس عوض ويوسف جوهر وغالي شكري ومجدي وهبة وادوار الخراط ويوسف الشاروني وتوفيق حنا والفريد فرج ونبيل راغب وماهر شفيق كلهم أمثلة واضحة علي ذلك. ولم يصدر عنه يوما علي طول عمره قول أو فعل أو موقف سلبي تجاه مخالف له في العقيدة. ولم تمنعه كراهيته للاحتلال البريطاني من تعلم الإنجليزية, والاستمتاع بالأدب العالمي, والإعجاب بمدرسيه الأجانب, وتقدير الحضارة الغربية, والدعوة إلي الإقتداء بالغرب في تقدمه العلمي ورقيه الإنساني. وكثيرا ما صرح بمفهومه عن الدين فقال: الدين بمنتهي البساطة هو الإيمان بخالق هذا الكون. والمهمة الأساسية له هي معاملة الناس علي أساس أخلاقي.
ومن الواضح أن محفوظ بثقافته الواسعة, قرأ التوراة والإنجيل قراءة جيدة, وانعكست هذه القراءة علي بعض أعماله القصصية. وها هنا أمثلة لها:
القصة القصيرة( أيوب) في مجموعة الشيطان يعظ, تبدو من وحي سفر أيوب في الكتاب المقدس. وتروي قصة رجل أعمال يتمتع هو وأسرته, بالجاه والمال, أصابه مرض جعله قعيد الفراش, ويعاني من الإحباط والاكتئاب. وعلي غير توقع يزوره صديق قديم لم يره منذ عشرين عاما( د. جلال أبو السعود). ومن خلال أحاديثهما الطويلة يقود الزائر العجيب رجل الأعمال في رحلة مواجهة مع الذات, ومكاشفة مع ضميره الذي عاش طويلا في سبات عميق, وأسفرت هذه التجربة المزلزلة عن تحرر الغني من زيف الحياة التي كان يعيشها, وعن تصميمه علي التغيير. ورغم تعافيه من مرضه الجسدي, فقد قر قراره علي اتخاذ خطوة شجاعة- رغم أنها ستقوض أسس حياته وحياة أسرته اللاهية بمسراتها- وهي كتابة مذكرات يعترف فيها بكل أخطاء الماضي والأساليب الملتوية والأعمال اللا أخلاقية التي أوصلته إلي المركز والثراء. وتذكرنا المناجاة الطويلة بين البطل وصديقه بمحاجاة أيوب مع أصحابه الثلاثة: أليفاز التيماني وبلدد الشوحي وصوفر النعماني, ثم مع أليهو بن برخئيل البوزي. وفي قصة زعبلاوي, من مجموعة دنيا الله, التي حللها ولفت النظر إلي إيحاءاتها الدينية القوية الناقد الدكتور ماهر شفيق فريد. بحث البطل عن زعبلاوي الوحيد القادر علي شفائه من دائه المستعصي, هو شبيه ببحث صابر في رواية الطريق عن الأب الذي سيجد في أحضانه الكرامة والسلام. هو بحث الإنسان القديم قدم الخليقة عن الله. القصة رمزية, فزعبلاوي فيها عجيب القدرة, يشفي من المتاعب التي يعجز عنها البشر, لكنه لغز, لا يعرف له مكان, يحضر ويختفي بلا موعد. والواقع أن في قصة زعبلاوي إيماءات كثيرة إلي شخص السيد المسيح. يقول البطل الباحث عنه: أنا علي استعداد لأعطيه ما يريد من نقود, فيرد من يعرف زعبلاوي: إنه لا تغريه المغريات, ولكنه يشفيك إذا قابلته. فيسأل غير مصدق: بلا مقابل؟. ويأتيه الجواب: بمجرد أن يشعر أنك تحبه. دعونا أيضا نتأمل في أوصاف أخري لزعبلاوي: شيال الهموم والمتاعب, كنا نراه معجزة, في وجهه جمال لا يمكن أن ينسي, هو حي لم يمت, لا مسكن له. وتروي القصة أن البطل سكر وغاب عن الوعي, وعندما أفاق وجد رأسه مبتلا. وقيل له إن زعبلاوي قد حضر أثناء نومه, وعطف عليه فراح يبلل رأسه بالماء لعله يفيق. وطبعا العماد في المسيحية هو رمز الميلاد الروحي الجديد. وتنتهي القصة بنبرة أمل وتصميم. فرغم فشل البطل في لقاء زعبلاوي فإنه لا ييأس و يقول: وقلت علي أن أنتظر وأن أروض نفسي علي الصبر. وحسبي أني تأكدت من وجود زعبلاوي, بل ومن عطفه علي, مما يبشر باستعداده لمداواتي إذا تم اللقاء... الحق أنني اقتنعت تماما بأن علي أن أجد زعبلاوي. نعم, علي أن أجد زعبلاوي.
وفي أصداء السيرة الذاتية, وهي عبارة عن لمحات مبهرة, لا تزيد الواحدة منها عن بضعة أسطر, نجد تحت عنوان النداء عبارات ليست بالغريبة علي قارئ الإنجيل: أحيانا يظهر لي بوجهه الجميل فيلقي إلي نظرة رقيقة ويهمس: اترك كل شيء واتبعني. قد يلقاني وأنا في غاية الإحباط, وقد يلقاني وأنا في غاية السرور, ودائما ينتزع من صدري الطرب والعصيان. وكلانا لم يعرف اليأس بعد.
أما ملحمة الحرافيش, التي تمثل حلم المدينة الفاضلة, فهي مكتوبة بلغة فريدة. جمل قصيرة خالية من حروف العطف. معان مركزة. لغة شعرية حافلة بالحكمة والتأمل. ويري الناقد الأستاذ رجاء النقاش أن أسلوبها شديد التأثر بمزامير داود لدرجة أنه أطلق عليها: مزامير نجيب محفوظ. ولكني أتصور أنها تحمل أيضا أصداء من سفر الأمثال. ولتقرأ أمثلة من الحكمة المقطرة في عبارات مختزلة: لو أن شيئا يمكن أن يدوم علي حال فلم تتعاقب الفصول؟!. ما دام يوجد خطأ فلا بد أن يوجد صواب. البسمة قدر والدمعة قدر. من يسترشد يجد من يرشده. قدح الحياة حتي في أسعد أحوالها لا يخلو من كدر وسم. العدل قيمة يحبها في النهاية من ينتفع بها ومن يخسر. الإنسان لعبة هزيلة والحياة حلم. من يحمل الماضي تتعثر خطاه. لا خجل في الضعف إذا المرء عليه انتصر. الحزن كالوباء يوجب العزلة.
وتناول محفوظ لشخصية المرأة الخاطئة في أعماله, من أمثال نفيسة في بداية ونهاية, نور في اللص والكلاب, وريري في السمان والخريف, يذكرنا بموقف السيد المسيح من المرأة الخاطئة: من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر. فنجد محفوظ لا يدينهن, بل يتعامل معهن برحمة, وتفهم الظروف القاسية التي دفعتهن إلي السقوط, ولا يغفل النواحي الطيبة في شخصية كل منهن. أما أولاد حارتنا التي أثارت أزمة كبري, وكادت تكلفه حياته, ورغم أن تأثير الكتب الدينية جلي فيها, وخلفيتها مستلهمة منها, والرمز فيها واضح لا يمكن إنكاره, فأبطالها شخصيات موازية للأنبياء, فإن الرواية عمل فني يستمد عناصره من مصادر معروفة, لكنه لا يترجمها حرفية. والرواية ليست تصويرا فوتوغرافيا لشخصيات محددة, فالشخصية الفنية ربما يكون لها أصل في الواقع, لكنها في الإطار القصصي تصبح مجرد شخصية روائية لا يجب أن يحاسب عليها المؤلف إلا فنيا. ومن حسن الحظ أن المسيحيين- بلا استثناء تقريبا- تقبلوا الرواية من هذا المنطلق, وقرأوها علي أنها عمل أدبي وليست نصا دينيا, ولم يعتبروها تشويها لقصة الخلق ورسالة الأنبياء. وبالتالي لم يغضبوا من الطريقة التي صورت بها شخصية رفاعة, التي تعتبر موازية للسيد المسيح في التسلسل الروائي.
والرواية- كما أراها وكثيرون- تصوير لبحث الإنسان الأزلي عن اليقين والسعادة والعدالة. ويلقي محفوظ بتساؤلات فلسفية يتركها بلا إجابات قاطعة. هل تحقيق المراد يكون عن طريق القوة أم المحبة أم العدل أم العلم؟!
ورفاعة في الرواية أثني أصحابه عن السعي إلي الإرث الأرضي( أو الوقف كما رمز له في القصة), ونبذ العنف, ودعا إلي الحب, ولهزيمة الشر بالخير, وجعل جل همه شفاء النفوس وتخليصها من الخطيئة الكامنة فيها( أو العفاريت كما في النص الأدبي), ولم يبخل علي غير آله بنعمة الشفاء. وكانت هذه هي خلاصة الرسالة التي حملها تلاميذه من بعده. ولأنه شخصية روائية وليس نسخة مطابقة لشخص السيد المسيح طبقا لما جاء في الإنجيل, فلا مانع من أن يكون لرفاعة في القصة أب وأم كباقي الخلق, وأن يتزوج من امرأة خاطئة, بل وأن يعير بأنه كودية زار, وأن يرفع الجبلاوي( الشخصية الملغزة المحيرة للعقول التي لم يرها أحد) جثته ويدفنها في حديقته. فكل هذا يدخل في إطار الصنعة الفنية.
ونلمح مفهومه لبعض الجوانب من العقيدة المسيحية ونظرة الآخرين لها في ثنايا أعماله: ففي القصة القصيرة البارمان من مجموعة خمارة القط الأسود, نجد البارمان اليوناني الخواجا فاسيليادس يحدث الراوي عما وراء الموت فيقول: إذا جاء الموت أعقبته سعادة كبري... ألا يشبه الظلام الذي أتيت منه الظلام الذي ستذهب إليه بعد عمر طويل؟ وقد أمكن أن يخرج من الظلام الأول حياة, فما يمنع من أن تستمر الحياة في الظلام الثاني؟! وهنا يصيح الراوي وهو ثمل: برافو فاسيليادس يا صوت القديسين.
وفي قصر الشوق نجد حوارا طريفا يستجوب فيه أحمد عبد الجواد ابنه كمال بخصوص مقالة نشرها يعرض فيها نظرية النشوء والارتقاء لدارون. يقول الأب: إني أعرف أقباطا ويهودا في الصاغة وكلهم يؤمنون بآدم.. فمن أي ملة دارون هذا؟.. خبرني أهو من أساتذتك بالمدرسة؟ فيجيب كمال بصوت متواضع: دارون عالم إنجليزي مات منذ زمن بعيد. ونجد الأم تقول: قل لهذا الإنجليزي الكافر.. إن آدم هو أبو البشر. وفي السكرية تسأل العالمة زبيدة رياض قلدس عن اسمه, وعندما يجيبها تقول بدعابة: كافر؟!. ثم تسترسل في المباهاة بالتاجر القبطي الكبير الذي كان من ضمن عشاقها. وفي ميرامار نلتقي بماريانا صاحبة البنسيون اليونانية وهي جالسة تحت تمثال العذراء. يسألها أحد النزلاء: طلبة مرزوق( وهو من الأعيان الممتلئين بالمرارة لأن الثورة وضعته تحت الحراسة): لماذا رضي الله بأن يصلب ابنه؟ فتجيب: لولا ذلك لحلت بنا اللعنة. فيضحك طويلا ويقول: ألم تحل بنا اللعنة بعد؟!
وفي أولاد حارتنا إشارة إلي الخطيئة الأصلية, حيث يحدث همام( الذي يمثل هابيل) نفسه قائلا: فوق رءوسنا لعنة من قبل أن نولد.
وفي أقصوصة جنة الأطفال من مجموعة خمارة القط الأسود, نقرأ هذا الحوار المجهد بين طفلة وأبيها: الطفلة: أنا وصاحبتي نادية دائما مع بعض.. ولكن في درس الدين أدخل أنا في حجرة وتدخل هي في حجرة أخري؟ الأب: لأنك أنت مسلمة وهي مسيحية. الطفلة: من أحسن؟ الأب: هذه حسنة وتلك حسنة. ولكن الطفلة تسأل لماذا لا يمكن أن تكون مثل صديقتها, فيقول الأب: أنت تعرفين الموضة.. وكونك مسلمة هو آخر موضة, لذلك يجب أن تبقي مسلمة. فترد الطفلة: هل أقول لها أنها موضة قديمة؟. وتستمر الابنة في تساؤلها: أين يعيش الله؟. الأب: في السماء. الطفلة: ولكن نادية قالت لي أنه عاش علي الأرض.. وأن الناس قتلوه. الأب: كلا يا حبيبتي, ظنوا أنهم قتلوه.... وفي السكرية يقول ياسين لأخته عن زواج ابنها الذي لا تباركه: الأمر بسيط يا أختي, يتزوج اليوم ويطلق غدا, نحن مسلمون لا كاثوليك.
ويكشف الكاتب بوضوح عن موقفه الرافض للتعصب ضد الأقباط, من خلال شخصية عبد الوهاب إسماعيل في كتاب المرايا( الشخصية الروائية التي يعتقد أنها تمثل الزعيم الإخواني سيد قطب). يقول عنه في الرواية: وبالرغم من أنني لم ألق منه إلا معاملة كريمة إلا أنني لم أرتح أبدا لسحنته ولا لنظرة عينيه..., ثم يروي الكاتب عنه هذه القصة: بالرغم من تظاهره بالعصرية في أفكاره وملابسه.. إلا أن تعصبه لم يخف علي. أذكر أن كاتبا قبطيا شابا أهداه كتابا له.. فقال لي عنه.. إنه ذو أصالة في الأسلوب والتفكير. فسألته ببراءة.. متي تكتب عنه؟ فابتسم ابتسامة غامضة وقال: انتظر وليطولن انتظارك! سألته: ماذا تعني؟ فقال بحزم: لن أشترك في بناء قلم سيعمل غدا علي تجريح تراثنا الإسلامي.. فتساءلت بامتعاض: أأفهم من ذلك أنك متعصب؟ فقال باستهانة: لا تهددني بالإكليشيهات فإنها لا تهزني. قلت: يؤسفني موقفك. أجاب:.. أصارحك بأنه لا ثقة لي في أتباع الأديان الأخري!....
أما بخصوص الشخصيات المسيحية التي تضمنتها أعماله, فقد جاءت كلها في سياق طبيعيي, بدون إقحام علي العمل الأدبي, وليس كما يحدث في الكثير من الأعمال الحديثة, حيث يزج الكاتب بشخصية مسيحية أو اثنين, بصورة مفتعلة, لمجرد الدخول في زمرة المنادين بالوحدة الوطنية. ولعل رياض قلدس في السكرية هو أحد الشخصيتين المسيحيتين اللتين أفرد لهما محفوظ مساحة واسعة, ارتبط هو وكمال( الذي يحمل الكثير من ملامح شخصية نجيب محفوظ الحقيقية) بصداقة متينة, وعلاقة فكرية غنية. ومن خلال الثقة والصراحة التي توفرت في علاقتهما, تفتحت أعين كمال( أو محفوظ بمعني آخر) علي مخاوف الأقباط ومعاناتهم, فعرف من رياض أن الأقباط ينتمون إلي الوفد لأنهم يرون فيه حزب القومية الخالصة. ويري حزن رياض عندما أقيل مكرم عبيد من الحزب, فيقول لكمال: سيجد الأقباط أنفسهم بلا مأوي... وإذا اضطهدنا الوفد فكيف يكون الحال؟. فتساءل كمال متغابيا: مكرم ليس الأقباط والأقباط ليسوا مكرما, إنه شخص ذهب, أما مبدأ الوفد القومي فلن يذهب. فهز رياض رأسه في أسف ساخرا وقال: هذا ما قد يكتب في الجرائد, أما الحقيقة فهي ما أعني.. الأقباط يتلمسون الأمان وأخشي ألا يظفروا به أبدا. ويكتشف أن رياض رغم عدم تمسكه بالدين, لا يمكن أن ينتزع من أعماقه انتماؤه لأهله وناسه. فعندما يتساءل كمال في دعابة: ها أنت تتحدث عن الأقباط! أنت الذي لا يؤمن إلا بالعلم والفن!, يقول رياض بعد صمت طويل: أليس من الجبن أن أنسي قومي؟. فيعتذر كمال لصديقه: لا تؤاخذني, فقد عشت حتي الآن دون أن أصطدم بمشكلة العنصرية, فمنذ البدء لقنتني أمي أن أحب الجميع, ثم شببت في جو ثورة1919 المطهر من شوائب التعصب, فلم أعرف هذه المشكلة. ويستمع كمال إلي رياض وهو يقول: يؤسفني أن أصارحك بأننا نشأنا في بيوت لا تخلو من ذكريات سوء محزنة, لست متعصبا, ولكن... ويتفكر كمال: كيف يتأتي لأقلية أن تعيش وسط أغلبية تضطهدها؟.
والواقع أن محفوظا كان مدركا لارتباط الأقباط بالوفد وزعيمه, فهو يروي للأديب الأستاذ جمال الغيطاني أن أحد أصدقائه الأقباط تزامن زفاف شقيقته مع موت سعد زغلول. فأرسل دعوة الزفاف مجللة بالسواد ومكتوبا فيها: ندعوكم لحضور إكليل الخ الخ... والبقية في حياتكم لموت زعيم الأمة. ومن خلال تجربة شخصية, أدرك أثر التعصب ضد المسيحيين, فقد رشح في صدر شبابه لبعثة دراسية إلي فرنسا, ولكن لأن فائزين آخرين بها كانوا أقباطا, ولأن المقررين للبعثة قد ظنوا أنه أيضا قبطي( بسبب اسمه); فقد استكثروا أن تكون الفرصة من نصيب عدد كبير من الأقباط, فاستبعدوه من الترشيح.
والشخصية الثانية التي تناولها بإسهاب هي عدلي كريم في السكرية, ورغم أنه لم يشر لدينه في الرواية, إلا أنه من المعروف أن شخصيته و الدور الذي لعبه في حياة أحمد شوكت الفكرية, كانا تصويرا شديد التماثل لسلامة موسي وتأثيره علي نجيب محفوظ.
وفي رواية خان الخليلي نلتقي أنيس بشارة. طالب مسيحي في السنة النهائية بكلية الهندسة, يرقد في مصحة الأمراض الصدرية, في الفراش المجاور لرشدي عاكف المسلم, ويتبادل معه التعاطف والمودة, ويشاركه المعاناة من مرض السل الذي ينهش الصدور الشابة.
وتتضمن المرايا لوحات فنية لشخوص روائية تعكس شخصيات واقعية التقي بها محفوظ خلال مشوار حياته الطويل. ونجد فيه ثلاث شخصيات مسيحية: الأول: سابا رمزي زميله في المدرسة الثانوية وكان كاثوليكيا, ومن خلاله تعرف محفوظ- لأول مرة- علي الخلاف بين المذاهب المسيحية. وكانت له قصة كارثية, فقد أحب مدرسة تكبره في السن, ولما صدته قتلها بمسدس.
والثاني: ناجي مرقص: زميل آخر في المدرسة الثانوية( أرثوذوكسي) دفعت أسرته ضريبة الوطنية غاليا, فقد قتل أخوه في مظاهرة, وعندما فصل والده من وظيفته بسبب ولائه لحزب الوفد, أصيب بالفالج ومات محسورا. يقول عنه محفوظ أنه كان أنبغ تلميذ صادفه في حياته; فهو الأول في جميع المواد. ولكن بسبب إصابته بداء الصدر وانعدام القدرة المادية, عجز عن مواصلة تعليمه. وعندما التقي به الكاتب صدفة في طور الشيخوخة, وجده غارقا في دراسة الروحانيات وتحضير الأرواح. والثالث اسحق بقطر زميله في الجامعة. ذكره سريعا في معرض الحديث عن جرأته في مواجهة أستاذهم الذي خان المبادئ, وشجعه علي جرأته أنه كان غنيا, مطمئنا علي مستقبله. وفي أمام العرش يتصور محفوظ حوارات مع شخوص مصرية من عصر مينا حتي أنور السادات. منهم شخصيات مسيحية, بعضها حقيقي مثل البطريرك بنيامين, وبعضها روائي مثل أثناسيوس المترجم من القبطية إلي العربية, والمعلم أنتناش المتبحر في الكتابة بالقبطية, ودميانة الأرملة الفلاحة الفقيرة, وسمعان الجرجاوي الحداد الذي استشهد في ثورة الأقباط, وحليم الأسواني تاجر الغلال, وسليمان تادرس النقاش الماهر, وموسي كاتب سر أحمد بن طولون. إضافة إلي الحاج أحمد المنياوي الذي كان من أسرة مسيحية وأسلم. وتشير شهادة كل من هؤلاء( من وجهة نظره أو نظرهم) إلي مراحل مختلفة في تاريخ مصر, منذ ولاية عمرو بن العاص حتي ولاية أحمد بن طولون. ويتعرض محفوظ للأسر المصرية المسلمة التي لها جذور مسيحية. ففي رواية الباقي من الزمن ساعة تحدث الجدة حفيدها عن جدها المسيحي فرج الذي فجر قنبلة في بيئته العائلية, عندما أشهر إسلامه, وتسمي باسم محمد المهدي.
وهناك أمثلة لزيجات غير موفقة بين مسيحيات أسلمن ورجال مسلمين:
كاميليا فؤاد في رواية الشحاذ: تلميذة مثالية للراهبات, ضحت بأهلها في سبيل أن تتزوج عمر الحمزاوي أيام الحب المشتعل قال لها الحبيب: أنا أهلك.. وستقوم القيامة قبل أن يتخلي عنك حبي. ولكن الزمن الغادر يبدل العهود, ومع زحف الكهولة يتقوض البنيان النفسي للزوج العاشق, فيضجر من زوجته وعمله وحياته, ويهجرهم جميعا. وتجد زينب( كاميليا سابقا) نفسها وحيدة, وتدفن وجهها في الجدار متمتمة: لو كان لي مكان...
وفي الحكاية رقم30 من حكايات حارتنا يتزوج البطل زوجة أجنبية, ولكن مجتمعه لا يستريح لسلوكها المتحرر, ويشكك في صحة إسلامها. وينتهي الأمر بأن تهجره وتغادر البلد.
وفي رواية الباقي من الزمن ساعة نجد أرملة ذات عرق أجنبي ومظهر براق, تسمت باسم مرفت بعد إسلامها وزواجها من مسلم.
وهناك أيضا مسلمات تزوجن أو هربن مع مسيحيين: ففي قصة أسرة أناخ عليها الدهر من مجموعة الشيطان يعظ,, تترك حفيدة العارف بالله إسماعيل الماوردي زوجها, وتهرب إلي اليونان مع خمار يوناني. وفي قصة حكاية بلا بداية ولا نهاية تهرب حفيدة القلب الأعظم إلي انجلترا مع ضابط إنجليزي.
وفي المرايا تتزوج ابنة زهير كامل شابا يونانيا, وكما قيل: هازئة بكل التقاليد. ويأتي ذكر بعض المسيحيين الأجانب, الذين كانوا يقيمون في مصر, كشخصيات ثانوية في القصص والروايات. علي سبيل المثال: البارمان اليوناني الذي يتبادل المودة مع زبائنه, صاحبة البانسيون التي تربطها علاقات حميمة بنزلاء البنسيون الدائمين, أساتذة المدارس والجامعات موضع إعجاب وتقدير تلاميذهم, جنود الاحتلال البريطاني, فالديمير المحامي بالمحكمة المختلطة ومدموزيل فلورا الخياطة.وأيضا يذكر أسماء مسيحية لأصحاب حرف وأعمال, مثل دكان طعمية سيدهم في زقاق المدق, صاحب الفندق الخواجا ميشيل قسطندي في بداية ونهاية, الصائغ الخواجا يعقوب في قصر الشوق.
إذن هذا هو المسيحي والمسيحية في حياة وأعمال نجيب محفوظ. ليسوا ملائكة وليسوا شياطين, بل بشر عاديون منهم الطيب والخبيث; لكنهم أخوة في الوطن ورفاق في الحياة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.