تصعيد خطير بين الهند وباكستان صاروخ هندي يصيب مسجداً في البنجاب    القنوات الناقلة لمباراة باريس سان جيرمان وارسنال في إياب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    تصعيد خطير بين الهند وباكستان... خبراء ل "الفجر": تحذيرات من مواجهة نووية ونداءات لتحرك دولي عاجل    ردود الفعل العالمية على اندلاع الحرب بين الهند وباكستان    22 شهيدا و52 مصابًا جراء مجزرة الاحتلال الإسرائيلي في مدرسة أبو هميسة بمخيم البريج وسط غزة    يشبه قانون التصالح في مخالفات البناء.. برلماني يقدم مقترحًا لحل أزمة الإيجار القديم    موعد مباراة تونس والمغرب في كأس أمم إفريقيا تحت 20 سنة    تحرير 30 محضرًا في حملة تموينية على محطات الوقود ومستودعات الغاز بدمياط    كندة علوش تروي تجربتها مع السرطان وتوجه نصائح مؤثرة للسيدات    تحرير 71 محضرا للمتقاعسين عن سداد واستكمال إجراءات التقنين بالوادي الجديد    طارق يحيى ينتقد تصرفات زيزو ويصفها ب "السقطة الكبرى".. ويهاجم اتحاد الكرة بسبب التخبط في إدارة المباريات    أول زيارة له.. الرئيس السوري يلتقي ماكرون اليوم في باريس    فيديو خطف طفل داخل «توك توك» يشعل السوشيال ميديا    الدولار ب50.6 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الأربعاء 7-5-2025    «كل يوم مادة لمدة أسبوع».. جدول امتحانات الصف الأول الثانوي 2025 بمحافظة الجيزة    المؤتمر العاشر ل"المرأة العربية" يختتم أعماله بإعلان رؤية موحدة لحماية النساء من العنف السيبراني    متحدث الأوقاف": لا خلاف مع الأزهر بشأن قانون تنظيم الفتوى    الذكرى ال 80 ليوم النصر في ندوة لمركز الحوار.. صور    التلفزيون الباكستاني: القوات الجوية أسقطت مقاتلتين هنديتين    وزير الدفاع الباكستاني: الهند استهدفت مواقع مدنية وليست معسكرات للمسلحين    الهند: شن هجمات جوية ضد مسلحين داخل باكستان    شريف عامر: الإفراج عن طلاب مصريين محتجزين بقرغيزستان    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن بعد آخر ارتفاع ببداية تعاملات الأربعاء 7 مايو 2025    سعر التفاح والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الأربعاء 7 مايو 2025    «تحديد المصير».. مواجهات نارية للباحثين عن النجاة في دوري المحترفين    موعد مباريات اليوم الأربعاء 7 مايو 2025.. إنفوجراف    سيد عبد الحفيظ يتوقع قرار لجنة التظلمات بشأن مباراة القمة.. ورد مثير من أحمد سليمان    "اصطفاف معدات مياه الفيوم" ضمن التدريب العملي «صقر 149» لمجابهة الأزمات.. صور    د.حماد عبدالله يكتب: أهمية الطرق الموازية وخطورتها أيضًا!!    حبس المتهمين بخطف شخص بالزاوية الحمراء    السيطرة على حريق توك توك أعلى محور عمرو بن العاص بالجيزة    قرار هام في واقعة التعدي على نجل حسام عاشور    ضبط المتهمين بالنصب على ذو الهمم منتحلين صفة خدمة العملاء    ارتفاع مستمر في الحرارة.. حالة الطقس المتوقعة بالمحافظات من الأربعاء إلى الاثنين    موعد إجازة نصف العام الدراسي القادم 24 يناير 2026 ومدتها أسبوعان.. تفاصيل خطة التعليم الجديدة    موعد إجازة مولد النبوي الشريف 2025 في مصر للموظفين والبنوك والمدارس    "ماما إزاي".. والدة رنا رئيس تثير الجدل بسبب جمالها    مهرجان المركز الكاثوليكي.. الواقع حاضر وكذلك السينما    مُعلق على مشنقة.. العثور على جثة شاب بمساكن اللاسلكي في بورسعيد    ألم الفك عند الاستيقاظ.. قد يكوت مؤشر على هذه الحالة    استشاري يكشف أفضل نوع أوانٍ للمقبلين على الزواج ويعدد مخاطر الألومنيوم    مكسب مالي غير متوقع لكن احترس.. حظ برج الدلو اليوم 7 مايو    3 أبراج «أعصابهم حديد».. هادئون جدًا يتصرفون كالقادة ويتحملون الضغوط كالجبال    بدون مكياج.. هدى المفتي تتألق في أحدث ظهور (صور)    نشرة التوك شو| الرقابة المالية تحذر من "مستريح الذهب".. والحكومة تعد بمراعاة الجميع في قانون الإيجار القديم    كندة علوش: الأمومة جعلتني نسخة جديدة.. وتعلمت الصبر والنظر للحياة بعين مختلفة    رحيل زيزو يتسبب في خسارة فادحة للزمالك أمام الأهلي وبيراميدز.. ما القصة؟    من هو الدكتور ممدوح الدماطي المشرف على متحف قصر الزعفران؟    معادلا رونالدو.. رافينيا يحقق رقما قياسيا تاريخيا في دوري أبطال أوروبا    أطباء مستشفى دسوق العام يجرون جراحة ناجحة لإنقاذ حداد من سيخ حديدي    طريقة عمل الرز بلبن، ألذ وأرخص تحلية    ارمِ.. اذبح.. احلق.. طف.. أفعال لا غنى عنها يوم النحر    أمين الفتوي يحرم الزواج للرجل أو المرأة في بعض الحالات .. تعرف عليها    نائب رئيس جامعة الأزهر: الشريعة الإسلامية لم تأتِ لتكليف الناس بما لا يطيقون    وزير الأوقاف: المسلمون والمسيحيون في مصر تجمعهم أواصر قوية على أساس من الوحدة الوطنية    «النهارده كام هجري؟».. تعرف على تاريخ اليوم في التقويم الهجري والميلادي    جدول امتحانات الصف الثاني الثانوي 2025 في محافظة البحيرة الترم الثاني 2025    وكيل الأزهر: على الشباب معرفة طبيعة العدو الصهيوني العدوانية والعنصرية والتوسعية والاستعمارية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عودة العبيد
نشر في الوفد يوم 26 - 01 - 2011

عفوا‮..‬أنتم الآن علي موعد مع‮ كارثة‮..‬ لم‮ يعد أمام المصريين باب أمل واحد للهروب من نار نظام مستبد وحكومة تحترف التجويع،‮ سوي قتل النفس بنار الانتحار‮..‬
أو قتلها ببيعها لمواطنين أكثر‮ غني ونفوذا،‮ والتنازل‮ - طوعا‮- عن حريتهم‮ ،‮ والعودة بمصر إلي زمن العبيد‮..‬
ليس في الأمر مبالغة علي الإطلاق‮.. كما أننا لانتحدث عن عدد قليل ممن تسميهم حكومتنا‮ "‬المختلين عقليا‮".. نحن نتحدث عن عائلات مصرية كاملة تعيش علي أرض هذا الوطن اضطرتها ظروفها القاسية،‮ وحاجتها إلي من‮ يرعاها،‮ ولو بسلبها أعز ماتملك في هذه الحياة،‮ أن تقع بإرادتها في أغلال العبودية دون تردد‮..‬
‮"‬الوفد الأسبوعي‮" اقتحمت للمرة الأولي مستوطنات العبيد الجديدة التي عادت للظهور في قري مصر خاصة في محافظات الصعيد بدءا من مزغونة شمالا حتي قري مركز دراو بأسوان جنوبا‮.. مرورا بمراكز البداري وصدفا وأبنوب وديروط وساحل سليم في أسيوط والبلينا وطما وجرجا ودار السلام في سوهاج‮..‬
أسر مصرية‮ كاملة كانت تعيش في تلك القري علي خدمة بعض العائلات الكبيرة بعد إلغاء العبودية في مصر منذ القرن قبل الماضي،‮ عادت بعد كل هذه السنوات،‮ لتقرر بما‮ يشبه الانتحار الجماعي،‮ العودة إلي سادتها القدامي،‮ والتنازل علي أعتابهم عن كامل حريتهم وحقوقهم كمواطنين من أجل كسب لقمة عيش لا توفرها حكومة رجال الأعمال،‮ وحماية لاتوفرها أجهزة حبيب العادلي المتفرغة لمطاردة المطالبين بالخبز والحرية في شوارع القاهرة‮..‬
عبد الباقي إدريس شاب في الثلاثين من عمره‮..‬أسمر البشرة‮ ،طويل القامة‮ ،حاد الملامح،‮ لاتنم نظراته عن الرضا،‮ فهو‮ يعيش في حال أقل ماتوصف به أنها لوحة قديمة باقية من زمن المماليك‮..‬
في ناحية نائية من قرية العسيرات بمحافظة سوهاج،‮ كان هناك‮ ،داخل كوخ من البوص‮ يستند إلي حائط متهدم،‮ هو‮ يسميه من باب التعود‮ "‬دارا‮".."‬لسه داخل الدار كنت شغال مع سيدي في الأرض‮" استقبلنا بهذا الكلمات وهو‮ يخلص فأسه من أثار عمل طويل في حقل‮ "‬سيده‮" - علي حد قوله‮.. كان الإرهاق باديا علي وجهه وبدنه،‮ ألقي بجسده علي الأرض،التي تمثل له كل ما‮ يحويه‮ "‬الدار‮" من أثاث وفراش للمعيشة والنوم معا‮..‬هو لا‮ يعاني من هذا الفقر والشظف وحده‮.. فلديه زوجة وابنتان فضلا عن والدته،‮ وكلهم‮ يشاركونه الفقر والتعب‮ ،والعبودية أيضا‮.‬
‮"‬اعمل لدي أسيادي منذ أن كنت صبيا،‮ فهم‮ يمنحوننا كل مانحتاجه،‮ هكذا قال لي أبي‮ في صغري عندما سألته لماذا نخدم هؤلاء الناس‮..‬الطعام والكسوة،‮ والحماية أيضا وهذا هو الأهم‮.. فلا توجد هنا قوة امنية تستطيع حماية أمثالنا من الضعفاء والغلابة عند نشوب أي معركة بين العائلات الكبيرة سوي هذه العائلات نفسها التي نخدمها‮"..‬
حاول‮ "‬عبد الباقي‮" أن‮ يتخلص من وصية الأب عندما كبر،‮ إلا أنه وجد نفسه مضطرا‮ -‬كما‮ يقول‮- لأن‮ يبقي عبدا عند سادته،‮ بعد وفاة الأب،‮ حين واجه الحياة في القرية الفقيرة‮ ،ليكتشف أن وصية الأب هي الوسيلة الوحيدة أمامه وأولاده للبقاء علي قيد الحياة‮..‬
‮"‬حكومة‮..‬إيه‮ يابيه‮" تجاوزت لهجته التهكمية‮.."‬العبيد لا‮ يضحكون بسهولة ولا‮ يسخرون من الناس أبدا‮" سارع لإخباري بذلك وكأنه أحس بالحرج،‮ مضيفا‮ "‬سؤالك كان مستفزا‮ للسخرية‮"..‬كنت سألته للتو‮ :‬لماذا لم تلجأ للحكومة لكسب فرصة عمل؟
وعن طبيعة علاقته بعائلة‮ "‬السادة‮" يحكي‮ "‬عبد الباقي‮": نحن نخضع لوصايتهم تماما،‮ أعمل لديهم نهارا في زراعة الأرض،‮ وفي المساء،‮ أقوم علي خدمتهم خاصة في المواجب"المناسبات‮" حيث أتولي خدمة ضيوفهم في الأفراح فأمر بالمياه والمشروبات علي المعازيم،‮ كما أكون مسئولا عن نقل وتوصيل حوائج العروس وشوارها‮ "‬جهازها‮" إلي دار العريس،وفي المآتم أقف مع سيدي ثلاث ليال متواصلة لخدمة المعزين،‮ لكن من دون ان أتلقي العزاء من احد فهذا‮ غير مسموح به لنا،لأن أحرار العائلة وأقارب المتوفي هم فقط من‮ يتقبلون العزاء فيه‮..‬كما أن أحدا من المعزين لا‮ يبادر أصلا بالسلام علي وأنا أقف علي باب المندرة أو سرادق العزاء لأن الجميع‮ يعرفون أنني من عبيد‮ "‬سيدي‮".‬
في زاوية من الخص ظلت سيدة بائسة ترمقنا طول الحديث،‮ وهي تجلس أمام الكانون‮" فرن صغير من الطمي‮"..‬لابد أنها‮ "‬سعدية‮" زوجتك؟‮..‬سارعت للإجابة‮ :‬آني سعدية‮..‬شجعها السؤال علي التقاط خيط الكلام لتحكي عن دورها في اتفاق العبودية‮ غير المعلن بين أسرتها وسادتها‮.."‬أسيادنا فاتحين بيوتنا ومن‮ غيرهم كنا متنا من الجوع وولادنا اتشردوا‮" بدأت بهذه الكلمات وكأنها تجيب عن السؤال نفسه:لماذا تقبلون بالتنازل عن حريتكم وأن تعودوا عبيدا ؟‮..‬ثم مضت تقول‮: ربنا‮ يوسعها عليهم‮ ،بيصرفوا علينا وعلي أولادنا‮ ،‮ عمرهم ما حرمونا من حاجة‮..‬في فرح بنتي كنت محتاجة أكمل لها جهازها،‮ ولم‮ يكن معي ثمن الثلاجة‮ ،‮ فذهبت إلي سيدي‮ ،‮ وأبلغته‮ ،‮ فساعدني‮..‬وربنا سترها‮.‬
يعود‮ "‬عبد الباقي‮" ليذكرنا بوجوده‮: هي تقوم بخدمتي انا والأولاد وعندما‮ يحتاجها أسيادي تذهب إلي خدمتهم خاصة في الأفراح‮ ،‮ حيث تكون مسئولة عن صنع لوازم الفرح من كعك وبسكويت‮.. سألته‮: ألا تري حرجا في أن تخدم زوجتك سيدين في وقت واحد؟‮..‬أجاب‮: أسيادنا فاتحين بيوتنا ومن واجبنا ان نساعدهم‮ ،زي اي وزير النهاردة‮ يحيط نفسه بالخدم والحشم الذين‮ يساعدونه‮..‬وبعدين كفاية ان اسيادنا بيضمنوا لنا موتة مستورة ودا كفاية‮.. إنما الوزرا لأ‮.‬
رغم ما تحمله الكلمات السابقة من أسباب للغضب والحزن‮..‬فإن هؤلاء‮ "‬السادة‮" الجدد في صعيد مصر من العائلات القادرة والغنية‮ ،يظلون أفضل حالا من حكومات مبارك المتعاقبة التي ألقت بآلاف العمال إلي الشارع في عمليات الخصخصة دون أن تؤمن لهم ولأولادهم طريقا واحدا للعيش الكريم في المستقبل‮..‬السادة وحدهم‮ يعترفون بحقوق التقاعد،‮ وتأمين الشيخوخة والعجز والمرض‮ ،وإعالة الأبناء حتي لو لم‮ يعد من هؤلاء أي نفع علي سادتهم في الوقت الحالي‮..‬
في قرية‮ "‬العرابة‮" القريبة‮..‬كانت سيدة عجوز تجاوزت الستين بسنوات لاتتذكر عددها علي وجه الدقة‮..‬تجلس داخل بيت بسيط لا‮ يجاوز‮ غرفة واحدة من الطوب اللبن‮..‬وقد أمسكت بهون قديم وأخذت تدق الثوم استعدادا لطبخة متواضعة‮ ،‮ وإلي جوارها حفيدها‮..‬الذي خرجت به من الدنيا‮ - علي حد قولها‮:‬
‮"‬لم تعد لدي صحة لخدمة أسيادي‮" ثم استدركت ريحانة‮ " لكن لم أقطع صلتي بهم‮..‬أذهب لزيارتهم وهم‮ يبادلونني الزيارة في المناسبات ويقدمون لي المساعدة‮" وقبل أن أسألها عن سبب هذا الالتزام برأيها،‮ قالت:هذا واجبهم،‮ بعد عمر طويل في خدمتهم‮..‬فقد كنت أخدمهم بصحبة أمي وأنا صغيرة ولما توفيت كان حقا علي أن أستمر في خدمة ستي عرفانا بالجميل لأنها زوجتني بعد أن بلغت الثامنة عشرة‮ وتكفلت بمصاريف الزواج‮.. كانت‮ 30‮ جنيهاً‮ وقتها‮..‬كما عمل زوجي أيضا في خدمة نفس الأسياد بملء المياه‮ يوميا من أحد الأبار وجلبها للدوار الكبير‮.. بس السن له أحكام‮.. الآن زوجي مات‮..‬ولم‮ يعد لدي دخل سوي معاشه الذي‮ يدفعه أسيادي‮.‬
السيدة‮ "‬ريحانة‮" التي شردت بعينيها قليلا عندما خاطبتها بهذا اللقب‮ ،‮ عادت لتتذكر بعض الأعمال الطيبة التي قدمها لها مخدومها‮ "‬أسيادي ساعدوني في توصيل المياه والكهرباء‮ ..‬بس المشكلة في الفواتير‮.‬
‮ ابنة‮ "‬ريحانة‮" الوحيدة تزوجت وأنجبت حفيدها الوحيد أيضا لكنها لا ترضي عن علاقة الأم بعائلة‮ "‬الأسياد‮".. ريحانة تشكو من تغير الزمن وعدم رضا الأبناء عن أبائهم‮ ،وعدم فهمهم لظروف الحياة القاسية التي أجبرتهم علي التمسك بالعبودية‮ ،وعدم الاعتراف طوعا بشيء اسمه"الحرية‮" في بلد تؤكد ريحانة أنه‮ "‬لا‮ يعرف حرية طول مافيه جوع وفقر وناس عايشة عالة علي ناس عشان‮ يفضلوا علي وش الدنيا‮".‬
متولي سرور واحد من هؤلاء الأبناء الذين لايعرفون الرضا عن علاقة العبودية التي عادت تربط آباءهم ببعض العائلات‮.. فهو شاب في منتصف العشرينيات‮..‬استطاع بفضل والديه و"سادته‮" أن‮ يجتاز مشوارا جيدا في التعليم حتي نال شهادة الليسانس‮ من جامعة الأزهر في الشريعة والقانون‮.. "‬مثلي مثل أي إنسان في الدنيا‮..‬لا‮ يستطيع أحد ان‮ يفرض حكمه علي‮ ،وإذا كان أباؤنا اضطروا للبقاء في خدمة سادتهم‮ ،فإننا لا نخدم احدا،‮ لأن زمان العبودية انتهي‮"..‬بحماسة شديدة وربما‮ غضب أطلق‮ "‬متولي‮" هذه الكلمات في وجوهنا‮ ،لكن نبراته عادت للانخفاض ومالت للضعف قليلا حين راح‮ يتذكر هذه القصة‮ "‬وصلت ذات مرة لإحدي المحاضرات في الكلية متأخرا،‮ فإذا‮ بالدكتور‮ يتوقف عن إلقاء محاضرته ويلتفت إلي قائلا في سخرية‮: اتاخرت ليه‮ يابو سمرة؟‮..‬ثم انفجر ضاحكا مع جميع زملائي‮.. احسست ساعتها بالقهر‮..‬فقد كان‮ يلمح مباشرة إلي لوني الأسود وسمعتي بين طلاب الجامعة بأني‮ "‬عبد‮".. لكنني استجمعت قواي ورحت أتلو الأية الكريمة‮ " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة‮".‬
‮" متولي‮" سأم من العيش في قريته بأسيوط دون عمل لائق منذ تخرجه،‮ لذا فهو‮ يستعد للسفر إلي العاصمة عساه‮ يجد فرصة عمل في مجتمع مفتوح ربما لا‮ يعترف بهذه العادات البالية التي عادت تفرض نفسها بقوة في أنحاء الصعيد‮.‬
أبو الحسن العربي‮ شاب‮ يقترب من‮ "‬متولي‮" في العمر ومستوي التعليم أيضا‮ (‬حاصل علي مؤهل عال‮).. لكنه‮ يخالفه الرأي في العبودية‮.. هو‮ يقول‮: تربيت في بيت أسيادي منذ ولادتي‮ ،‮ وليس عيبًا أن أعمل لديهم‮ "‬فالعمل عبادة‮" طالما أنهم‮ يحترمونني ويقدرونني ولا‮ يبخلون علي بشيء‮ "‬المهم أن الإنسان‮ يشتغل‮".‬
‮"‬الشغل‮" هو سر قبول‮ "‬أبو الحسن‮" بهذا الوضع اللا إنساني كما‮ يعود ويعترف لنا‮..‬لكنه‮ يعود ليلقي في وجوهنا‮ -‬ دفاعا عن نفسه‮ - ببعض المبررات الإيمانية التي تجعله‮ يرضي بالأمر الواقع ويتعايش معه‮ .."‬نحن سواسية أمام الله ولا فرق بين أبيض وأسود،‮ كلنا عبيد لله عز وجل‮..‬وأنا لا أخجل من خدمة‮ "‬سيدي"طالما أنه‮ يدفع ثمن هذه الخدمة‮ ،‮ ويكفي أن كل مناسبات أسيادنا من أفراح ومآتم هي وليمة خير لنا ولأولادنا‮"..‬أبو الحسن‮ يخبرنا بأن أقل مبلغ‮ يفوز به في أي مناسبة لدي‮ "‬سيده"هو‮ 500‮ جنيه مقابل أنه‮ "‬بيشيل الواجب من أوله إلي‮ أخره‮" فهو‮ يتكفل بدعوة أهالي القرية بيتا بيتا في الأفراح،ويقوم علي كافة التفاصيل والتجهيزات من سرادقات وكهرباء وغيرها،‮ وله نصيب في ذبائح الفرح‮..‬نفس الأعمال تقريبا هي ما‮ يمارسه في المآتم بإبلاغ‮ المعزين عبر مساجد القرية‮ ،‮ واستقبالهم وتجهيز جثمان الميت ودفنه،‮ فضلا عن الخدمة في المندرة في سهرات وأمسيات رمضان،‮ بتجهيز الطعام والمشروبات للمقرئين والحضور‮.."‬أما الأعياد؛ فالخدمة فيها عند سادتنا مقدسة‮" هكذا‮ يؤكد أبو الحسن قائلا‮: لا نستطيع التهرب من العمل في تلك المناسبات‮.‬
هدايات سعيد تمحو بتلال من التراب كل تصريحات إحدي هوانم حكومة‮ "‬نظيف‮" عن المرأة المعيلة والقري الأولي بالرعاية وضمان حقوق المرأة ومساواتها بالرجل‮..‬مشيرة خطاب لاتعرف صاحبة هذه الاسم بالتأكيد‮..‬كما أن صاحبته لم تسمع عن وجود وزيرة للأسرة والسكان من قبل فضلا عن أن تقابلها‮..‬بل إن‮ "‬هدايات‮" التي تلقب نفسها ب"العبدة‮" لاتطمح من تلك الحقوق والتصريحات،‮ بأكثر من تلقي علاج مناسب لأمراض السكر وضغط الدم التي تجرأت علي جسدها‮ "‬الشديد‮"- كما تقول‮- إلا بعد أن تجاوزت الخمسين من عمرها في خدمة‮ "‬سادتها‮"..‬لا تنتظر‮ "‬هدايات‮" من نظيف أومشيرة أو أكثر من‮ 30‮ وزيرا في حكومة مبارك هذا العلاج بالطبع‮.."‬ستي كانت أحن علي من أمي ولم تبخل علي بشئ وأصابني المرض حزنا علي وفاتها قريبا‮"..‬هي تؤكد أن عائلة‮ "‬سيدتها‮" مازالوا لا‮ يبخلون بشئ رغم ما أصابهم من بعض الأزمات المالية،‮ تضيف"هم ساعدونني في كل شيء حتي تكاليف زواج بناتي‮".‬
ما قد‮ يخيب أمال السيدة مشيرة هو أن إهدارا تاما لكرامة‮ "‬هدايات‮" وشقيقاتها كإنسانة ومواطنة‮ -‬ وليس كأنثي فقط‮ - يتم علي نطاق واسع حاليا في أنحاء الصعيد ضمن قانون العبودية الذي أطل برأسه ليفرض أوضاعا شاذة علي مصر في زمن‮ يملك فيه جيران لنا الإطاحة برئيس دولة في عدة أيام احتجاجا علي زيادة أسعار بعض السلع‮..‬
فالسيدة هدايات رغم أنف هذا الوضع الكارثي والمأساوي بكل المعايير الشرعية والقانونية والدولية لا تستطيع الزواج من سيدها حتي وإن أراد هو ذلك الزواج المعلن‮..‬بل إن حياتها ستتحول بمجرد إعلان السيد عن حبه ورغبته في الارتباط بها إلي جحيم،‮ كما ستتحول هي إلي‮ غريبة مطاردة في وطن لاتعرف له حاكما سوي سيدها‮..‬فكل عائلات السادة‮- كما تحكي هدايات‮- ترفض مثل هذا الزواج ولاتعترف به وتعتبره باطلا‮ ،‮ بل وترفض توثيق ولادة الأبناء نتاج هذا الزواج بالقوة‮..‬ما‮ يفرز وضعا أشد رعبا وضياعا للعبدة التي‮ يقع سيدها في حبها،‮ حتي وإن كان هذا الحب رغما عنها‮.‬
تري هل‮ يصبح هذا المشهد علي سواده أقل قتامة واستفزازا،‮ حين نتذكر علي الجهة الأخري من مصر،‮ في قلب المدن،‮ واحدة من وقائع صنع وإحياء العبودية ضد المصريين علي نحو أكثر قهرا ووحشية‮ ،حين دخل مواطن في مارس الماضي في إضراب عن الطعام بمستشفي منية النصر العام بمحافظة الدقهلية لأكثر من أسبوع،‮ بسبب عدم تمكنه من رؤية ابنته‮ "‬إنصاف‮" منذ أن أخذها لواء شرطة سابق لتخدم في منزله،‮ ورفض إعادتها لأسرتها أو السماح لهم برؤيتها طوال‮ 11‮ عاما‮ .. وقال أحمد محمد زكي‮: "‬شقيق إنصاف"وقتها إن‮ "‬السيد‮" اللواء وكان مأمورا لمركز منية النصر ضغط علي والدي ووالدتي مستغلا منصبه وأخذ أختي لتخدمه،‮ وعندما طالبناه برجوعها رفض ولم‮ يمكننا من رؤيتها حتي وصل عمرها إلي‮ 19‮ عاما‮ ،بينما توفيت أمي حزنا عليها داخل مستشفي فقير بعد أن أصيبت بجلطة في المخ‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.