العبور الثانى للدولة المصرية    تغيير الاستراتيجيات وتطوير الجيش المصرى    السيسى حامى الثورة و مؤسس الجمهورية الجديدة    مصطفى فتحي راتب…. وجه جديد فى قيادة الجبهة الوطنية بالمنيا.    تنفيذ قافلة بيطرية مجانية بعزبة نظيف في طنطا    هبوط جماعي لأسواق الأسهم الأوروبية مع ترقب الاتفاق التجاري بين أمريكا والصين    تسليم مساعدات مالية وعينية ل 70 حالة من الأسر الأولى بالرعاية في المنوفية    «التعليم العالي»: 21 طالبًا مصريًا في برنامج التدريب البحثي الصيفي بجامعة لويفيل الأمريكية    الاحتلال يطلق النار على منتظري المساعدات في غزة ويسقط مئات الشهداء    التشكيل الرسمي لمواجهة صن داونز وفلومينينسي في كأس العالم للأندية    شوبير: رحيل أفشة عن الأهلي «كلام مش قرار»    لجنة التعاقدات في غزل المحلة تواصل عملها لضم أفضل العناصر المرشحة من عبد العال    فوز رجال الطائرة الشاطئية على النيجر في بطولة أفريقيا    رغم ارتفاع الحرارة.. إقبال متوسط على شواطئ الإسكندرية    مصطفى كامل يطرح خامس أغانى ألبومه بعنوان "ناقصة سكر"    مينا مسعود يخطف الأنظار ب "في عز الضهر".. والإيرادات تقترب من 3 ملايين في أسبوعه الأول    هل شريكتك منهن؟.. نساء هذه الأبراج مسيطرة وقوية    تليفزيون اليوم السابع يرصد لحظة فك كسوة الكعبة لتركيب الجديدة (فيديو)    أستاذ علاقات دولية: إيران وإسرائيل وأمريكا يرون وقف إطلاق النار انتصارا    خالد الجندي يوضح الفرق بين «إن شاء الله» و«بإذن الله»    ما حكم الزواج العرفي؟ أمين الفتوى يجيب    هيئة الشراء الموحد توقع اتفاقية مع شركات فرنسية لإنشاء مصنع لتحديد فصائل الدم    علاج 686 شخصًا مجانًا في قنا.. وحملة توعية لتحذير المواطنين من خطورة الإدمان    رئيس الوزراء: مصر نجحت في إنتاج وتصنيع أجهزة السونار محليًا لأول مرة    محافظ بورسعيد: هذه إنجازات الدولة المصرية على أرض المحافظة خلال عام    مصدر من اتحاد الكرة ل في الجول: إقامة كأس مصر خلال تحضيرات المنتخب لكأس الأمم    الزمالك يستعيد أرض مرسى مطروح بحكم نهائي من المحكمة الإدارية العليا    الصين: مستعدون للعمل مع "بريكس" لإحلال السلام في الشرق الأوسط ودعم الأمن الإقليمي    أيمن سليم: "عبلة كامل حالة استثنائية وهتفضل في القلب"    مصرع طفل غرقا في بحر يوسف ببني سويف    أجمل عبارات ورسائل التهاني بمناسبة رأس السنة الهجرية الجديدة 1447ه    بعد قليل.. الإفتاء تعلن موعد أول أيام العام الهجري 1447    الإفتاء تكشف عن حكم التهنئة بقدوم العام الهجري    صلاة البراكليسي من أجل شفاء المرضى وتعزية المحزونين    محافظ الغربية يتابع سير العمل بمشروع الصرف الصحي في عزبة الناموس بسمنود    الاتحاد العربي للفنادق والسياحة يُكلف محمد العجلان سفيرًا للاتحاد.. ويُشكل الهيئة العليا للمكتب بالسعودية    شرب الماء أثناء الأكل يزيد الوزن- هل هذا صحيح؟    الحرية المصرى: 30 يونيو استردت هوية الدولة المصرية.. والاصطفاف الوطني "ضرورة"    زد يضع الرتوش النهائية على صفقة ضم خالد عبد الفتاح من الأهلي    جيش الاحتلال يعلن اعتراض مسيرة أطلقت من اليمن قبل دخولها المجال الجوي    «يومين في يوليو».. «المحامين» تعلن موعد الإضراب العام اعتراضًا على الرسوم القضائية    موعد إجازة رأس السنة الهجرية 1447    الرقابة الإدارية تنفى صدور أى تكليفات لها بضبط عضو نيابة عامة أو ضباط    عاطل يقتل شقيقه السائق بعيار ناري خلال مشاجرة بسبب خلافات بشبرا الخيمة    الرقابة الإدارية توكد عدم صحة ما تداول بشأن ضبط أحد أعضاء الهيئات القضائية    «النداهة».. عرض مسرحي في «ثقافة القصر» بالوادي الجديد    من البحر إلى الموقد.. كيف تؤمن سفن التغويز احتياجات مصر من الغاز؟    الأمم المتحدة: وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران فرصة لتفادي تصعيد كارثي    محافظ الجيزة يتابع ميدانياً جهود إطفاء حريق بمخزن دهانات بمنطقة البراجيل بأوسيم    المشاط تبحث مع المنتدى الاقتصادي العالمي تفعيل خطاب نوايا «محفز النمو الاقتصادي والتنمية»    الأونروا: نواجه وضعا مروّعا يعيشه الفلسطينيون بقطاع غزة    "طموحي بلا حدود".. وزير الرياضة يشهد تقديم المدرب الجديد لمنتخب اليد    قرار جمهوري بتعيين سلافة جويلي مديرا للأكاديمية الوطنية للتدريب    تطور قضائي بشأن السيدة المتسببة في حادث دهس "النرجس"    خالد عبد الغفار يوجه بضرورة تطوير التقنيات الحديثة في مجال الصحة الرقمية    صور جديدة تظهر الأضرار اللاحقة بمنشآت فوردو وأصفهان ونطنز    مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة.. مواجهات نارية في كأس العالم للأندية    رسميًا درجات تنسيق الثانوية العامة 2025 في بورسعيد.. سجل الآن (رابط مباشر)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عودة العبيد
نشر في الوفد يوم 26 - 01 - 2011

عفوا‮..‬أنتم الآن علي موعد مع‮ كارثة‮..‬ لم‮ يعد أمام المصريين باب أمل واحد للهروب من نار نظام مستبد وحكومة تحترف التجويع،‮ سوي قتل النفس بنار الانتحار‮..‬
أو قتلها ببيعها لمواطنين أكثر‮ غني ونفوذا،‮ والتنازل‮ - طوعا‮- عن حريتهم‮ ،‮ والعودة بمصر إلي زمن العبيد‮..‬
ليس في الأمر مبالغة علي الإطلاق‮.. كما أننا لانتحدث عن عدد قليل ممن تسميهم حكومتنا‮ "‬المختلين عقليا‮".. نحن نتحدث عن عائلات مصرية كاملة تعيش علي أرض هذا الوطن اضطرتها ظروفها القاسية،‮ وحاجتها إلي من‮ يرعاها،‮ ولو بسلبها أعز ماتملك في هذه الحياة،‮ أن تقع بإرادتها في أغلال العبودية دون تردد‮..‬
‮"‬الوفد الأسبوعي‮" اقتحمت للمرة الأولي مستوطنات العبيد الجديدة التي عادت للظهور في قري مصر خاصة في محافظات الصعيد بدءا من مزغونة شمالا حتي قري مركز دراو بأسوان جنوبا‮.. مرورا بمراكز البداري وصدفا وأبنوب وديروط وساحل سليم في أسيوط والبلينا وطما وجرجا ودار السلام في سوهاج‮..‬
أسر مصرية‮ كاملة كانت تعيش في تلك القري علي خدمة بعض العائلات الكبيرة بعد إلغاء العبودية في مصر منذ القرن قبل الماضي،‮ عادت بعد كل هذه السنوات،‮ لتقرر بما‮ يشبه الانتحار الجماعي،‮ العودة إلي سادتها القدامي،‮ والتنازل علي أعتابهم عن كامل حريتهم وحقوقهم كمواطنين من أجل كسب لقمة عيش لا توفرها حكومة رجال الأعمال،‮ وحماية لاتوفرها أجهزة حبيب العادلي المتفرغة لمطاردة المطالبين بالخبز والحرية في شوارع القاهرة‮..‬
عبد الباقي إدريس شاب في الثلاثين من عمره‮..‬أسمر البشرة‮ ،طويل القامة‮ ،حاد الملامح،‮ لاتنم نظراته عن الرضا،‮ فهو‮ يعيش في حال أقل ماتوصف به أنها لوحة قديمة باقية من زمن المماليك‮..‬
في ناحية نائية من قرية العسيرات بمحافظة سوهاج،‮ كان هناك‮ ،داخل كوخ من البوص‮ يستند إلي حائط متهدم،‮ هو‮ يسميه من باب التعود‮ "‬دارا‮".."‬لسه داخل الدار كنت شغال مع سيدي في الأرض‮" استقبلنا بهذا الكلمات وهو‮ يخلص فأسه من أثار عمل طويل في حقل‮ "‬سيده‮" - علي حد قوله‮.. كان الإرهاق باديا علي وجهه وبدنه،‮ ألقي بجسده علي الأرض،التي تمثل له كل ما‮ يحويه‮ "‬الدار‮" من أثاث وفراش للمعيشة والنوم معا‮..‬هو لا‮ يعاني من هذا الفقر والشظف وحده‮.. فلديه زوجة وابنتان فضلا عن والدته،‮ وكلهم‮ يشاركونه الفقر والتعب‮ ،والعبودية أيضا‮.‬
‮"‬اعمل لدي أسيادي منذ أن كنت صبيا،‮ فهم‮ يمنحوننا كل مانحتاجه،‮ هكذا قال لي أبي‮ في صغري عندما سألته لماذا نخدم هؤلاء الناس‮..‬الطعام والكسوة،‮ والحماية أيضا وهذا هو الأهم‮.. فلا توجد هنا قوة امنية تستطيع حماية أمثالنا من الضعفاء والغلابة عند نشوب أي معركة بين العائلات الكبيرة سوي هذه العائلات نفسها التي نخدمها‮"..‬
حاول‮ "‬عبد الباقي‮" أن‮ يتخلص من وصية الأب عندما كبر،‮ إلا أنه وجد نفسه مضطرا‮ -‬كما‮ يقول‮- لأن‮ يبقي عبدا عند سادته،‮ بعد وفاة الأب،‮ حين واجه الحياة في القرية الفقيرة‮ ،ليكتشف أن وصية الأب هي الوسيلة الوحيدة أمامه وأولاده للبقاء علي قيد الحياة‮..‬
‮"‬حكومة‮..‬إيه‮ يابيه‮" تجاوزت لهجته التهكمية‮.."‬العبيد لا‮ يضحكون بسهولة ولا‮ يسخرون من الناس أبدا‮" سارع لإخباري بذلك وكأنه أحس بالحرج،‮ مضيفا‮ "‬سؤالك كان مستفزا‮ للسخرية‮"..‬كنت سألته للتو‮ :‬لماذا لم تلجأ للحكومة لكسب فرصة عمل؟
وعن طبيعة علاقته بعائلة‮ "‬السادة‮" يحكي‮ "‬عبد الباقي‮": نحن نخضع لوصايتهم تماما،‮ أعمل لديهم نهارا في زراعة الأرض،‮ وفي المساء،‮ أقوم علي خدمتهم خاصة في المواجب"المناسبات‮" حيث أتولي خدمة ضيوفهم في الأفراح فأمر بالمياه والمشروبات علي المعازيم،‮ كما أكون مسئولا عن نقل وتوصيل حوائج العروس وشوارها‮ "‬جهازها‮" إلي دار العريس،وفي المآتم أقف مع سيدي ثلاث ليال متواصلة لخدمة المعزين،‮ لكن من دون ان أتلقي العزاء من احد فهذا‮ غير مسموح به لنا،لأن أحرار العائلة وأقارب المتوفي هم فقط من‮ يتقبلون العزاء فيه‮..‬كما أن أحدا من المعزين لا‮ يبادر أصلا بالسلام علي وأنا أقف علي باب المندرة أو سرادق العزاء لأن الجميع‮ يعرفون أنني من عبيد‮ "‬سيدي‮".‬
في زاوية من الخص ظلت سيدة بائسة ترمقنا طول الحديث،‮ وهي تجلس أمام الكانون‮" فرن صغير من الطمي‮"..‬لابد أنها‮ "‬سعدية‮" زوجتك؟‮..‬سارعت للإجابة‮ :‬آني سعدية‮..‬شجعها السؤال علي التقاط خيط الكلام لتحكي عن دورها في اتفاق العبودية‮ غير المعلن بين أسرتها وسادتها‮.."‬أسيادنا فاتحين بيوتنا ومن‮ غيرهم كنا متنا من الجوع وولادنا اتشردوا‮" بدأت بهذه الكلمات وكأنها تجيب عن السؤال نفسه:لماذا تقبلون بالتنازل عن حريتكم وأن تعودوا عبيدا ؟‮..‬ثم مضت تقول‮: ربنا‮ يوسعها عليهم‮ ،بيصرفوا علينا وعلي أولادنا‮ ،‮ عمرهم ما حرمونا من حاجة‮..‬في فرح بنتي كنت محتاجة أكمل لها جهازها،‮ ولم‮ يكن معي ثمن الثلاجة‮ ،‮ فذهبت إلي سيدي‮ ،‮ وأبلغته‮ ،‮ فساعدني‮..‬وربنا سترها‮.‬
يعود‮ "‬عبد الباقي‮" ليذكرنا بوجوده‮: هي تقوم بخدمتي انا والأولاد وعندما‮ يحتاجها أسيادي تذهب إلي خدمتهم خاصة في الأفراح‮ ،‮ حيث تكون مسئولة عن صنع لوازم الفرح من كعك وبسكويت‮.. سألته‮: ألا تري حرجا في أن تخدم زوجتك سيدين في وقت واحد؟‮..‬أجاب‮: أسيادنا فاتحين بيوتنا ومن واجبنا ان نساعدهم‮ ،زي اي وزير النهاردة‮ يحيط نفسه بالخدم والحشم الذين‮ يساعدونه‮..‬وبعدين كفاية ان اسيادنا بيضمنوا لنا موتة مستورة ودا كفاية‮.. إنما الوزرا لأ‮.‬
رغم ما تحمله الكلمات السابقة من أسباب للغضب والحزن‮..‬فإن هؤلاء‮ "‬السادة‮" الجدد في صعيد مصر من العائلات القادرة والغنية‮ ،يظلون أفضل حالا من حكومات مبارك المتعاقبة التي ألقت بآلاف العمال إلي الشارع في عمليات الخصخصة دون أن تؤمن لهم ولأولادهم طريقا واحدا للعيش الكريم في المستقبل‮..‬السادة وحدهم‮ يعترفون بحقوق التقاعد،‮ وتأمين الشيخوخة والعجز والمرض‮ ،وإعالة الأبناء حتي لو لم‮ يعد من هؤلاء أي نفع علي سادتهم في الوقت الحالي‮..‬
في قرية‮ "‬العرابة‮" القريبة‮..‬كانت سيدة عجوز تجاوزت الستين بسنوات لاتتذكر عددها علي وجه الدقة‮..‬تجلس داخل بيت بسيط لا‮ يجاوز‮ غرفة واحدة من الطوب اللبن‮..‬وقد أمسكت بهون قديم وأخذت تدق الثوم استعدادا لطبخة متواضعة‮ ،‮ وإلي جوارها حفيدها‮..‬الذي خرجت به من الدنيا‮ - علي حد قولها‮:‬
‮"‬لم تعد لدي صحة لخدمة أسيادي‮" ثم استدركت ريحانة‮ " لكن لم أقطع صلتي بهم‮..‬أذهب لزيارتهم وهم‮ يبادلونني الزيارة في المناسبات ويقدمون لي المساعدة‮" وقبل أن أسألها عن سبب هذا الالتزام برأيها،‮ قالت:هذا واجبهم،‮ بعد عمر طويل في خدمتهم‮..‬فقد كنت أخدمهم بصحبة أمي وأنا صغيرة ولما توفيت كان حقا علي أن أستمر في خدمة ستي عرفانا بالجميل لأنها زوجتني بعد أن بلغت الثامنة عشرة‮ وتكفلت بمصاريف الزواج‮.. كانت‮ 30‮ جنيهاً‮ وقتها‮..‬كما عمل زوجي أيضا في خدمة نفس الأسياد بملء المياه‮ يوميا من أحد الأبار وجلبها للدوار الكبير‮.. بس السن له أحكام‮.. الآن زوجي مات‮..‬ولم‮ يعد لدي دخل سوي معاشه الذي‮ يدفعه أسيادي‮.‬
السيدة‮ "‬ريحانة‮" التي شردت بعينيها قليلا عندما خاطبتها بهذا اللقب‮ ،‮ عادت لتتذكر بعض الأعمال الطيبة التي قدمها لها مخدومها‮ "‬أسيادي ساعدوني في توصيل المياه والكهرباء‮ ..‬بس المشكلة في الفواتير‮.‬
‮ ابنة‮ "‬ريحانة‮" الوحيدة تزوجت وأنجبت حفيدها الوحيد أيضا لكنها لا ترضي عن علاقة الأم بعائلة‮ "‬الأسياد‮".. ريحانة تشكو من تغير الزمن وعدم رضا الأبناء عن أبائهم‮ ،وعدم فهمهم لظروف الحياة القاسية التي أجبرتهم علي التمسك بالعبودية‮ ،وعدم الاعتراف طوعا بشيء اسمه"الحرية‮" في بلد تؤكد ريحانة أنه‮ "‬لا‮ يعرف حرية طول مافيه جوع وفقر وناس عايشة عالة علي ناس عشان‮ يفضلوا علي وش الدنيا‮".‬
متولي سرور واحد من هؤلاء الأبناء الذين لايعرفون الرضا عن علاقة العبودية التي عادت تربط آباءهم ببعض العائلات‮.. فهو شاب في منتصف العشرينيات‮..‬استطاع بفضل والديه و"سادته‮" أن‮ يجتاز مشوارا جيدا في التعليم حتي نال شهادة الليسانس‮ من جامعة الأزهر في الشريعة والقانون‮.. "‬مثلي مثل أي إنسان في الدنيا‮..‬لا‮ يستطيع أحد ان‮ يفرض حكمه علي‮ ،وإذا كان أباؤنا اضطروا للبقاء في خدمة سادتهم‮ ،فإننا لا نخدم احدا،‮ لأن زمان العبودية انتهي‮"..‬بحماسة شديدة وربما‮ غضب أطلق‮ "‬متولي‮" هذه الكلمات في وجوهنا‮ ،لكن نبراته عادت للانخفاض ومالت للضعف قليلا حين راح‮ يتذكر هذه القصة‮ "‬وصلت ذات مرة لإحدي المحاضرات في الكلية متأخرا،‮ فإذا‮ بالدكتور‮ يتوقف عن إلقاء محاضرته ويلتفت إلي قائلا في سخرية‮: اتاخرت ليه‮ يابو سمرة؟‮..‬ثم انفجر ضاحكا مع جميع زملائي‮.. احسست ساعتها بالقهر‮..‬فقد كان‮ يلمح مباشرة إلي لوني الأسود وسمعتي بين طلاب الجامعة بأني‮ "‬عبد‮".. لكنني استجمعت قواي ورحت أتلو الأية الكريمة‮ " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة‮".‬
‮" متولي‮" سأم من العيش في قريته بأسيوط دون عمل لائق منذ تخرجه،‮ لذا فهو‮ يستعد للسفر إلي العاصمة عساه‮ يجد فرصة عمل في مجتمع مفتوح ربما لا‮ يعترف بهذه العادات البالية التي عادت تفرض نفسها بقوة في أنحاء الصعيد‮.‬
أبو الحسن العربي‮ شاب‮ يقترب من‮ "‬متولي‮" في العمر ومستوي التعليم أيضا‮ (‬حاصل علي مؤهل عال‮).. لكنه‮ يخالفه الرأي في العبودية‮.. هو‮ يقول‮: تربيت في بيت أسيادي منذ ولادتي‮ ،‮ وليس عيبًا أن أعمل لديهم‮ "‬فالعمل عبادة‮" طالما أنهم‮ يحترمونني ويقدرونني ولا‮ يبخلون علي بشيء‮ "‬المهم أن الإنسان‮ يشتغل‮".‬
‮"‬الشغل‮" هو سر قبول‮ "‬أبو الحسن‮" بهذا الوضع اللا إنساني كما‮ يعود ويعترف لنا‮..‬لكنه‮ يعود ليلقي في وجوهنا‮ -‬ دفاعا عن نفسه‮ - ببعض المبررات الإيمانية التي تجعله‮ يرضي بالأمر الواقع ويتعايش معه‮ .."‬نحن سواسية أمام الله ولا فرق بين أبيض وأسود،‮ كلنا عبيد لله عز وجل‮..‬وأنا لا أخجل من خدمة‮ "‬سيدي"طالما أنه‮ يدفع ثمن هذه الخدمة‮ ،‮ ويكفي أن كل مناسبات أسيادنا من أفراح ومآتم هي وليمة خير لنا ولأولادنا‮"..‬أبو الحسن‮ يخبرنا بأن أقل مبلغ‮ يفوز به في أي مناسبة لدي‮ "‬سيده"هو‮ 500‮ جنيه مقابل أنه‮ "‬بيشيل الواجب من أوله إلي‮ أخره‮" فهو‮ يتكفل بدعوة أهالي القرية بيتا بيتا في الأفراح،ويقوم علي كافة التفاصيل والتجهيزات من سرادقات وكهرباء وغيرها،‮ وله نصيب في ذبائح الفرح‮..‬نفس الأعمال تقريبا هي ما‮ يمارسه في المآتم بإبلاغ‮ المعزين عبر مساجد القرية‮ ،‮ واستقبالهم وتجهيز جثمان الميت ودفنه،‮ فضلا عن الخدمة في المندرة في سهرات وأمسيات رمضان،‮ بتجهيز الطعام والمشروبات للمقرئين والحضور‮.."‬أما الأعياد؛ فالخدمة فيها عند سادتنا مقدسة‮" هكذا‮ يؤكد أبو الحسن قائلا‮: لا نستطيع التهرب من العمل في تلك المناسبات‮.‬
هدايات سعيد تمحو بتلال من التراب كل تصريحات إحدي هوانم حكومة‮ "‬نظيف‮" عن المرأة المعيلة والقري الأولي بالرعاية وضمان حقوق المرأة ومساواتها بالرجل‮..‬مشيرة خطاب لاتعرف صاحبة هذه الاسم بالتأكيد‮..‬كما أن صاحبته لم تسمع عن وجود وزيرة للأسرة والسكان من قبل فضلا عن أن تقابلها‮..‬بل إن‮ "‬هدايات‮" التي تلقب نفسها ب"العبدة‮" لاتطمح من تلك الحقوق والتصريحات،‮ بأكثر من تلقي علاج مناسب لأمراض السكر وضغط الدم التي تجرأت علي جسدها‮ "‬الشديد‮"- كما تقول‮- إلا بعد أن تجاوزت الخمسين من عمرها في خدمة‮ "‬سادتها‮"..‬لا تنتظر‮ "‬هدايات‮" من نظيف أومشيرة أو أكثر من‮ 30‮ وزيرا في حكومة مبارك هذا العلاج بالطبع‮.."‬ستي كانت أحن علي من أمي ولم تبخل علي بشئ وأصابني المرض حزنا علي وفاتها قريبا‮"..‬هي تؤكد أن عائلة‮ "‬سيدتها‮" مازالوا لا‮ يبخلون بشئ رغم ما أصابهم من بعض الأزمات المالية،‮ تضيف"هم ساعدونني في كل شيء حتي تكاليف زواج بناتي‮".‬
ما قد‮ يخيب أمال السيدة مشيرة هو أن إهدارا تاما لكرامة‮ "‬هدايات‮" وشقيقاتها كإنسانة ومواطنة‮ -‬ وليس كأنثي فقط‮ - يتم علي نطاق واسع حاليا في أنحاء الصعيد ضمن قانون العبودية الذي أطل برأسه ليفرض أوضاعا شاذة علي مصر في زمن‮ يملك فيه جيران لنا الإطاحة برئيس دولة في عدة أيام احتجاجا علي زيادة أسعار بعض السلع‮..‬
فالسيدة هدايات رغم أنف هذا الوضع الكارثي والمأساوي بكل المعايير الشرعية والقانونية والدولية لا تستطيع الزواج من سيدها حتي وإن أراد هو ذلك الزواج المعلن‮..‬بل إن حياتها ستتحول بمجرد إعلان السيد عن حبه ورغبته في الارتباط بها إلي جحيم،‮ كما ستتحول هي إلي‮ غريبة مطاردة في وطن لاتعرف له حاكما سوي سيدها‮..‬فكل عائلات السادة‮- كما تحكي هدايات‮- ترفض مثل هذا الزواج ولاتعترف به وتعتبره باطلا‮ ،‮ بل وترفض توثيق ولادة الأبناء نتاج هذا الزواج بالقوة‮..‬ما‮ يفرز وضعا أشد رعبا وضياعا للعبدة التي‮ يقع سيدها في حبها،‮ حتي وإن كان هذا الحب رغما عنها‮.‬
تري هل‮ يصبح هذا المشهد علي سواده أقل قتامة واستفزازا،‮ حين نتذكر علي الجهة الأخري من مصر،‮ في قلب المدن،‮ واحدة من وقائع صنع وإحياء العبودية ضد المصريين علي نحو أكثر قهرا ووحشية‮ ،حين دخل مواطن في مارس الماضي في إضراب عن الطعام بمستشفي منية النصر العام بمحافظة الدقهلية لأكثر من أسبوع،‮ بسبب عدم تمكنه من رؤية ابنته‮ "‬إنصاف‮" منذ أن أخذها لواء شرطة سابق لتخدم في منزله،‮ ورفض إعادتها لأسرتها أو السماح لهم برؤيتها طوال‮ 11‮ عاما‮ .. وقال أحمد محمد زكي‮: "‬شقيق إنصاف"وقتها إن‮ "‬السيد‮" اللواء وكان مأمورا لمركز منية النصر ضغط علي والدي ووالدتي مستغلا منصبه وأخذ أختي لتخدمه،‮ وعندما طالبناه برجوعها رفض ولم‮ يمكننا من رؤيتها حتي وصل عمرها إلي‮ 19‮ عاما‮ ،بينما توفيت أمي حزنا عليها داخل مستشفي فقير بعد أن أصيبت بجلطة في المخ‮.‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.