حرب أكتوبر المجيدة لم تكن حربًا فقط بين عدو احتل أرضنا، ونريد استردادها، بل كانت عودة حقيقية للروح المصرية، وما فيها من إصرار، وعزيمة، وتضحية، وفداء من أجل تحرير تراب الوطن الغالى، ولقد كشفت الحرب عن نبوغ الضابط والجندى المصرى، وكيف تحدوا أنفسهم، بقلة الإمكانيات واستطاعوا أن يتغلبوا على أعطال الأسلحة الروسية القديمة، بل تطويرها، واستطاعوا أن يبهروا العالم أجمع، بقدرة المقاتل المصرى فى التأقلم والتحدى رغم الصعاب وقلة الإمكانيات، كما أظهرت حرب أكتوبر نماذج مضيئة، لأبطال حققوا المستحيل بالفكر والعقل، والتدريب، ومن هذه النماذج أحد ضباط الاحتياط من أبطال الدفاع الجوى فى حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر 73، وهو نقيب مهندس سامح فرج ضابط الرادار بالكتيبة 652، اللواء 98، صواريخ بتشورا أحد أنبه العقول التى وجدت فى تاريخ العسكرية المصرية، والذى كان مثالًا يحتذى به فى العبقرية حيث قام بالتعديل فى كتالوج الردار الروسى وقلل زمن الفك من ثلاث ساعات الى ساعة والنصف فقط، وقام ايضا بالتغلب على مشكلة نقص قطع الغيار وأصلح عطلًا مستعصيًا فى كابينة القيادة لإطلاق الصواريخ بعدما خرجت عن العمل، وأعادها إلى الخدمة، وفى بدء خدمته برتبة ملازم تمكن من تقليل زمن فك محطة الرادار ب 15، وتجهيزها للتحرك من ثلاث ساعات إلى ساعة والنصف. وقد اعتمدت قيادة الدفاع الجوى الإجراءات التى ابتكرها الملازم سامح، وأصبحت الطريقة الأساسية لفك محطة الرادار ب 15 وإعادة تركيبها، وظل محافظا على كفاءة محطته منذ تسلمه الخدمة كضابط رادار وحتى نهاية خدمته العسكرية، وكانت محطة الرادار الخاصة به، أحد ركائز التغطية الرادارية فى الدفاع الجوى، حيث شاركت الكتيبة 652 فى معارك الدفاع الجوى للدفاع عن شمال الجبهة و قطاع بورسعيد وبورفؤاد، والتى وصفت بأنها من أشد معارك الدفاع الجوى فى حرب أكتوبر، وبعد حرب أكتوبر 73، وأثناء إجراءات فك الاشتباك بين مصر وإسرائيل، وتثبيت أوضاع القوات المتحاربة، تمكن بتوفيق من الله، من خداع قوات الأممالمتحدة وإضافة محطة رادار لم تكن موجودة فى القطاع (أ). فى بورفؤاد، إلى القوات المصرية فى سيناء، كما كان يقوم بمعاونة زملائه من ضباط الرادار فى إصلاح الأعطال الصعبة، ويقوم بالمعاونة الفنية لزملائه فى الكتيبة، وأصلح الكثير من الأعطال فى غير تخصصه، كما قام ببعض التعديلات الفنية لإصلاح أعطال بعضها كان يستحيل إصلاحها بسبب نفاذ رصيد قطع الغيار فى بعض الفترات، وعمل كمهندس حر بعد انتهاء فترة خدمته العسكرية، وتقاعد فى عام 2005، كما تمكن إلى جانب عمله كمهندس حر، من عمل معجم من ثمانية أجزاء عن العامية المصرية والتعبيرات الشعبية الشائعة فى النصف الثانى من القرن العشرين، وقد نشر منه جزأين حتى الآن، وحصل مؤخرًا على ميدالية الشرف الوطنى من مؤسسة تاميكوم، عن موقعة تضليل ضابط الأممالمتحدة بدون تلقين، وتمكين قوات الدفاع الجوى من إضافة محطة رادار، فى المنطقة (أ)، فى سيناء (بورفؤاد)، نظرا للأهمية الإستراتيجية، لوجود محطة رادار بهذا الموقع بعد قرار وقف إطلاق النار . «حكاية جيل.. للأجيال القادمة» التقيت بالنقيب احتياط مهندس «سامح»، وسعدت جدًا بلقائه وثقافته العالية، والذى قام بتأليف كتاب عن مذكراته فى حرب أكتوبر بعنوان «نوتة الرادارجى» وأخذ يروى عن لحظات الانكسار بعد هزيمة 1967 وكيف تحولت الى أسمى معانى الانتماء للوطن، ويقول «الرادرجى» كما يحب أن يطلق عليه: التحقت بكلية الضباط الاحتياط فى سبتمبر 1970، وبصراحة وصدق مع النفس، لم أكن مرتاحا أنا وأغلب جيلى للالتحاق بالخدمة العسكرية، كنا قد امتلأنا بالمرارة، من الحكايات التى نسمعها من زملائنا، عن الهزيمة الساحقة، فى حرب 67، والتى سميت بالنكسة، وكيف أن جيراننا وأشقاء زملائنا، عادوا مهلهلين من سيناء بعد الانسحاب وبعضهم كان لا يزال مفقودا، ولكن ما باليد حيلة تقدمنا لأداء الخدمة العسكرية بعد التخرج واجتزنا الاختبارات اللازمة وسافرنا بالقطار فى رحلة طويلة إلى إسنا، وكانت كلية ضباط الاحتياط، قد نقلت من التل الكبير إلى صحراء إسنا فى مجموعة من القرى الريفية تتبع الإصلاح الزراعى، ولم يتم توزيعها على الأهالى، وفى الكلية تعلمنا معنى الانضباط، وكيف أن الانضباط خلق فينا الانتماء، وكان كل شىء مخططًا من الطوابير والتدريبات، حتى حلاقة الشعر والتصوير، والملابس، كل شيء كان يسير كالمسطرة، حتى سألنا قائدنا المقدم «حجاب» فى ذات يوم إذا كان الجيش، بمثل هذا النظام والتخطيط والانضباط، فلماذا انهزمنا فى حرب 67، فصمت القائد لفترة، وأظنه كان يتوقع مثل هذا السؤال، ثم قال فى هدوء، ما حدث، قد حدث، وانتهى، والجيش الآن تحت قيادة أبنائه المخلصين، وعليكم، وعلينا أن نستعيد الأرض و الكرامة لمصر، ولزملائنا وإخوتكم الذين استشهدوا فى سيناء، كان ذلك الوقت عند غروب شمس يوم 6 أكتوبر1970، ويا للعجب، ويا لتدابير القدر ففى هذا التوقيت، بعد ثلاث سنوات، بالتمام والكمال، كان هؤلاء الضباط قد عبروا إلى سيناء فى يوم الكرامة المصرية 6 أكتوبر 1973. «الكتالوج الروسى» فى عام 1970 قررت قيادة قوات الدفاع الجوى تشكيل.. مجموعة من كتائب الصواريخ، بتشورا (سام 3) للدفاع الجوى، ضد الطيران المنخفض، وتم تشكيل هذه الكتائب وتمركزت فى جنوب ووسط الصعيد لحماية الأهداف الاستراتيجية فى جنوب الصعيد مثل كوبرى اسيوط، وكوبرى وقناطر نجع حمادى، وفى بادئ الأمر كانت هذه الوحدات، تضم طاقم سوفييتى ومعه طاقم مصرى يتم تدريبه وتجهيزه لدفعه الى جبهة قناة السويس، وكان المطلوب من الطاقم المصرى التدرب على فك الكتيبة، وإعادة تركيبها فى اقل زمن ممكن، لأن هذه الكتائب إذا تم دفعها للجبهة ولم تتمكن من تركيب وتنصيب نفسها فى الزمن المقرر فسوف تصبح لقمة سائغة للطيران الإسرائيلى، والنظام السوفيتى للدفاع الجوى (بتشورا) (سام 3)، من الأسلحة السوفيتية الثقيلة، والتى تعمل داخل الاتحاد السوفيتى ودول حلف وارسو، داخل المنظومة الإستراتيجية.. للدفاع عن الأهداف الحيوية مثل ( المطارات - الموانئ - الجسور أو الكبارى)، وغالبا ما تستقر فى مكان واحد ولا تغادره.. لسنين طويلة. أما فى مصر، فقد كان المطلوب من هذه الوحدات أن تقاتل، حسب الفكر التكتيكى المصرى، وليس حسب الاستراتيجية السوفيتية، لذلك كان مطلوباً تحويل هذا السلاح الى سلاح تكتيكى يسهل تحريكه، ونقله من مكان إلى آخر ومحطة الرادار ب15 العاملة ضمن كتائب البتشورا، توضع داخل دشمة من الخرسانة المسلحة، تشبه النفق، طولها عشرون متراً وعرضها خمسة أمتار و ارتفاعها أربعة امتار وسمكها متر والنصف، وفى الثلث الأول منها فتحة تركب عليها وصلة معدنية هى التى تحمل الهوائى ويتم إغلاق مدخل الدشمة بحائطين من شكائر الرمل بارتفاع الدشمة وعرض اثنين متر، وبهما فتحتان متعاكستان للدخول والخروج، والغرض من الساتر هو الحماية من القصف الجوى، وترتبط المحطة مع كابينة القيادة وإطلاق و توجيه الصواريخ بعدد ستة كوابل تنقل معلومات شاشة المحطة إلى شاشة أخرى بالكابينة أمام قائد الكتيبة بحيث يشاهد شاشة المحطة فوريا، ومجموعة الكوابل، طولها حوالى مائة متر وتمتد من المحطة الى الكابينة، عبر مواقع القواذف ويجب حفر مجرى لها فى الأرض ثم الردم فوقها لحمايتها عند تحرك أى مركبات فوقها، وعند تحرك المحطة من موقع الى موقع آخر يجب أولا فك الكوابل من جهة كابينة القيادة، وسحبها خارج منطقة القواذف، حتى لا تتعرض لمرور أى مركبة عليها ثم لف كل كابل على حدة على بكرة معدنية مجهزة بقاعدة ومانيفللا، وبعد الانتهاء من لف الكوابل.. يتم فك الساتر المعمول من شكائر الرمل، وتشوينها بجوار الدشمة ثم يفك الهوائى ويتم اخراج المحطة من دشمتها ويعاد تركيب الهوائى فوق سيارة المحطة، وتكون جاهزة للتحرك، وفى أول تدريب على فك و تركيب المحطة.. كان العمل مشتركا بين الطاقمين المصرى والروسى، وتعقدت الكوابل مع بعضها، وفشل التفاهم بيننا وبين الطاقم الروسى وتعطلت لغة الكلام، فتركت للطاقم السوفييتى مهمة لف الكوابل، وقمت أنا وجنودى بفك باقى المحطة، وقد كان الزمن المقدر لفك المحطة هو ثلاث ساعات.. ولكننا احتجنا الى خمس ساعات لإتمام ذلك وكان التأخير بسبب إعادة لف الكوابل، وكان هذا فشلاً ذريعاً بالتأكيد، وتقرر إعادة هذا التدريب بعد ذلك بعدة أيام، فى اليوم الثانى، أخذت أفكر فى حل لهذه المشكلة، فتوصلت الى أنه لو تم تجميع هذه الكوابل فى شكل حزمة واحدة، ويتم جمهعا على شكل لفة واحدة على ظهر سيارة نقل، فإن ذلك يقضى على مشكلة تجميع الكوابل على بكراتها، وثانيا لو تم نقل الهوائى على سيارة أخرى دون إعادة تركيبه على ظهر المحطة فإننا سوف نوفر زمن تركيبه على ظهر المحطة، وزمن إعادة فكه عند دخول المحطة الى موقعها الجديد، وشرعت فى تنفيذ ذلك وقمت بجلب عدد كبير مش شكائر الخيش الفارغة، وتم تقطيعها إلى شرائط ثم لف مجموعة الكوابل بالخيش وربطها بسلك رباط كل نصف متر، فتحولت مجموعة الكوابل الى كابل واحد قطره ستة سنتيمترات، وبالفعل أخبرت قائد الكتيبة ورئيس العمليات بالخطة الجديدة لفك المحطة، وطلبت أن يكون العمل فى التدريب القادم للطاقم المصرى فقط وكان هناك تخوف من فشل آخر عند التنفيذ، ولكننى كنت واثقاً من الفكرة ومن جنودي وأنا الذى يتحمل المسئولية كاملة، وفى اليوم المقرر لإعادة التدريب على فك المحطة اجتمع أمام الدشمة طاقم مصرى من القيادة وطاقم سوفييتى لتقييم الأداء بدأنا بفك الكوابل من جهة كابينة القيادة، ووقفت سيارة نقل ثقيل كراز وبدأت فى التحرك ببطء متجهة الى دشمة المحطة والجنود يلفون مجموعة الكوابل، على شكل حلقة على ظهر السيارة، وقد استغرق تجميع الكوابل بهذه الطريقة حوالى عشر دقائق، كان ذلك شيئا أشبه بالسحر، ثم ألقى الجنود بالمخالى التى تحتوى على حاجياتهم الشخصية داخل لفة الكوابل، وألقوا فوقها بالغطاء القماشى المشمع للمحطة، وتم فك الهوائى الى مجموعة المنتصف، والأربعة اجنحة ونزل الجنود من على سطح الدشمة، وهم يحملون الهوائى، كأنهم مجموعة من الفراعنة يحملون مركباً من مراكب الشمس فى طريقها الى رحلة الخلود، وتم وضع الهوائى فوق المشمع، فوق الكوابل، ثم وضعت فوقه شباك التمويه ووضع فوقهما الأربعة اجنحة الجانبية، وبهذا كان الهوائى والكوابل مؤمنين تماما، انتهينا من فك المحطة تماما وتحميلها على سيارات النقل، فى زمن قدره ساعة والنصف، بدلا من ثلاث ساعات، واصطف الطاقم المصرى أمام قول السيارات التى تحمل معدات المحطة وتقدمت من قائد الكتيبة، وأديت له التحية العسكرية قائلا تمام يا فندم المحطة جاهزة للتحرك، وطالت وقفتى، واللغط بين الخبراء الروس على أشده، والمترجمون عاجزون عن ترجمة الحوارات الدائرة بينهم ولا شك أن الطاقم المصرى، كان يتداول فيما بينه، والظاهر أن الروس بيقولوا إن الملازم «الرادارجى» المصرى يستحق النفى إلى سيبيريا لمخالفته كتالوج التعليمات الروسية لفك محطة الرادار وأخيرا سادت لحظة من السكون، صحراء جنوب مصر، ورفع البولكوفنيك (كولونيل) شليب قائد الكتيبة السوفيتية يده اليمنى الى أعلى والإبهام مفرودا، وقال «اوتشن خراشو جميل جدا، وتبادل جميع المصريين والسوفييت التهنئة والإعجاب بهذا الانجاز، ولقد تم اعتماد هذه الطريقة فى فك محطة الرادار بعد ذلك، ونتج عن ذلك كتالوج جديد، وكان هذا الكتالوج الجديد هو أول مؤلفات الرادارجى..!. «تكريم كابينة القيادة» لقد كان الإصرار والعزيمة والتحدى هي سمات المقاتل المصرى الذى استطاع أن يطور كافة الأسلحة التى يتعامل معها ويصلح أعطالها وكانت مشكلة نقص قطع الغيار، هى المشكلة الأساسية التى استطاع الملازم أول سامح فرج التغلب عليها، ونجح فى إصلاح عطل مستعصٍ فى كابينة القيادة وإطلاق الصواريخ، ويعيد الكتيبة إلى الخدمة القتالية، فى خلال خمس دقائق، ويتلقى الشكر من قائد قوات الدفاع الجوى، حيث قام قائد الكتيبة المقدم محمد عباس فرحات بإبلاغ اللواء فيليب زخاري بهذا الإجراء، فطلب منه إرسال التفاصيل بالشفرة، وقرر المقدم عباس الذهاب إلى القيادة ومعه الريلاى المعطل والمفتاح البديل، واندهش كل من كان فى القيادة من هذا الابتكار السهل البسيط، الذى أعاد الكتيبة إلى الخدمة القتالية، وقام قائد اللواء بإبلاغ كبير مهندسى الدفاع الجوى اللواء مكرم، بهذا التصرف، وقام هو بدوره بإبلاغ الفريق محمد على فهمى، بهذا الإجراء، وفى نفس هذا الوقت، كانت هناك كتيبه أخرى فى نطاق الجيش الثالث، خارج الخدمة بسبب نفس هذا العطل، وتم إبلاغها بعمل التوصيلة البديلة، وتم رجوعها الى خدمة العمليات، وقد سأل سيادة الفريق محمد على فهمى عن اسم الضابط صاحب هذه الفكرة، فأبلغوه أنه الملازم أول سامح فرج ضابط الرادار بالكتيبة 652، فقرر توجيه الشكر إليه فى الأوامر اليومية، وذلك لتعاونه مع زملائه فى إصلاح هذا العطل الذى يخرج على اختصاصه كضابط رادار، وهذا أكبر تكريم يمكن أن يناله المقاتل فى هذا الوقت. «خديعة ضابط الأممالمتحدة» ومن أهم المواقف البطولية التى خاضها الملازم أول سامح فرج، كانت واقعة التحايل على ضابط بقوات الأممالمتحدة، لتأكيد حق القوات المسلحة فى وجود.. محطة رادار فى بور فؤاد، بعد اتفاقية وقف إطلاق النار، ويقول البطل المصرى كنت فى مأمورية بالإسكندرية، وفوجئت باستدعائى الى كتيبتى فى بورفؤاد، وبعد وصولى وفى صباح اليوم الثانى، وجدت سيارة جيب بها رائد فى انتظارى، وما أن تعرف على شخصيتى، حتى قال: أتأخرت ليه يا حضرة الظابط، ولم أدرى ماذا أقول له، قال.. تعالى بعربيتك خليك ورايا، ووصلنا الى المعدية، ثم إلى موقع كتيبتى القديم في لسان بورفؤاد، ونزلت فوجدت دشمة محطتى القديمة، مركب عليها ماكيت ردىء الصنع لهوائى الرادار، وينقصه (الفيد هورن) وهو مائل على جانبه، ومربوط بحبل، ولا يمكن أن يخدع أحدا، بأنه هوائى حقيقى، ووجدت فى انتظارى ضابط زميل يعرج ولم أكن أعرفه وكان مصاباً فى وجهه، ويبدو عليه انه مصاب بهزة نفسية شديدة، وما أن رآنى حتى صاح فى وجهى بلهجة أبناء بورسعيد أنى ماليش دعوة أنت اللى حا تتكلم، أنا مسئول بس عن حراسة الموقع. أنا محطتى انضربت جنب السويس، أنا هنا بمبوطى، وأنت اللى حا تتكلم وقفت فى مدخل الطريق المؤدى إلى الموقع وأخذت أحاول أن أستوعب الموقف، وما الذى يحدث هنا، وفى هذه اللحظة، دخلت الموقع سيارة جيب، عليها صارى يرفرف عليه العلم الأزرق الخاص بقوات الأممالمتحدة، ونزل منها ضابط فى آواخر الثلاثينيات، لم أتأكد من رتبته، وعريف سائق، فى أوائل العشرينيات، عرفت بعد ذلك أنهما من فنلندا، وكان العريف السائق يحمل معه دوسيه وبلانشيطه لها غلاف من الجلد، وكانا يرتديان البيريهات الزرقاء، وقمصان بنصف كم، فى عز برد نوفمبر، والاثنان فى منتهى الصحة واللياقة والقيافة التامة وملابسهما العسكرية فى منتهى الفخامة، وتبدو كأنها سينيه، من عند بيير كاردان، أو جيفنشى، بينما كنت أرتجف من المرض والإنفلونزا، وأنا بداخل معطفى الميرى المتواضع من صوف العسكرى، وبعدها قام الرائد ضابط الاتصال المصرى، بتقديمى إلى ضابط الأممالمتحدة وتبادلنا التحية العسكرية ومال على هامساً.. لازم «تقرطسه» ومش لازم يدخل الدشمة بتاعت محطتك بأى شكل صحت فيه بعصبية.. يعنى أيه «تقرطسه» يا سيادة الرائد؟ تركنى واستقل سيارته ومضى، ولم أره ثانية، قال ضابط الموقع.. آنا ماليش دعوه، أنا بمبوطى، أنت اللى حا تتكلم، فى ذلك الوقت بعد قرار وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل، جرت محادثات بين مصر وإسرائيل.. وتحت إشراف الأممالمتحدة، سميت (مباحثات الكيلو 101)، وكان جانب منها ينص على تثبيت أوضاع القوات المتحاربة فى الدولتين وكانت دشمة محطتى السابقة خالية، وقد فقدت قوات الدفاع الجوى، عددا محطات الرادار، واستشهد عدد من ضباط الرادار، وكان هذا الموقع مثاليا للتغطية الرادارية لشمال الجبهة وكان يجرى تجهيز محطة رادار تحت الإصلاح لدفعها إلى هذا الموقع لكن الوقت لم يساعد على ذلك، ففكرت القيادة فى وضع ماكيت للهوائي أعلى الدشمة الفارغة آملين أن يتم خداع قوات الأممالمتحدة ويتم اعتماد وجود محطة رادار فى هذا الموقع وكان من المفروض، أن يتم تلقينى، بكل هذا ولكن الضباط الكبار اعتمدوا على بعضهم ظنا منهم إنى تلقيت التلقين اللازم لهذه المهمة ولكن هذا لم يحدث وتركونى وحيدا مع الزميل المصاب بهزة نفسية.. فى مواجهة ضابط الأممالمتحدة، وكنت قد بدأت استوعب الموقف، كان الضابط الفنلندى يتكلم بلغة انجليزية.. واضحة وراقية.. قال.. أنت ضابط محطة الرادار هذه.. وأشار إلى الدشمة.. قلت.. نعم.. قال.. إننا فى انتظارك منذ يومين.. قلت.. كنت مكلفا ببعض المهام.. قال.. هل يمكن أن أشاهد المحطة وهى تعمل.. أخذت استجمع أفكارى وأنا أتكلم ببطء، وأنا أفكر كيف أمنعه من الدخول إلى هذه المنطقة. قلت هذه المنطقة من الأرض ما زال مدفونا بها بعض الشجعان الذين قتلوا خلال المعركة، وهى تعتبر الآن كأنها جبانة للمسلمين وأعتقد انك ترى انه من غير اللائق للشرف العسكرى أن تدوس على أجساد هؤلاء الشجعان المدفونين هنا، أثناء دخولك للموقع، ذهل الضابط الفنلندى وظهرت على وجهه علامات الغيظ الشديد بينما كان العريف السائق.. الذى يقف خلفه بخطوة يبتسم فى خبث وقد فهم أبعاد المسرحية.. التى أقوم بارتجالها، أخذ الضابط يطحن أضراسه فى عصبية، وهو يكاد ينفجر من الغيظ، ثم قال وهو يضغط على كلماته هل يمكنك أن تقسم لى بشرفك العسكرى!. أن هناك (وأشار إلى الدشمة)، محطة رادار تعمل، قلت له ببطء استطيع أن أؤكد لك بشرفى العسكرى، أنه كانت هناك محطة رادار تعمل، وهناك الآن محطة رادار تعمل وستظل هنا محطة رادار تعمل، وتقمصتنى فجأة شخصية الفنان يوسف بك وهبى، فى أدائه المسرحى المبالغ فيه.. فأكملت بنفس صوت يوسف وهبى.. وأخذت ارتجل جملا من وحى الانفلونزا و المضاد الحيوى.. مثل أن أرواح الشجعان الذين سقطوا هنا تشاهدنا الآن هم الذين يعملون بالمحطة، وستظل أرواحهم تحرس هذه المحطة، واستمررت أقول كلاما كثيرا غير مفهوم، حتى بالنسبة لى!. حتى أنى لا أتذكره وأتعمد خلط الأزمنة الماضى بالمضارع بالمستقبل، بينما كان الضابط ينظر إلىّ فى ذهول.. وأعتقد أنى تكلمت لمدة طويلة، وأعتقد أنه كان يقول فى نفسه فى المرة الأولى أحضروا لى ضابطا مهزوزا نفسيا يرفض الكلام وهذه المرة يحضرون لى ضابطاً مجنوناً رسمياً!. لا يتوقف عن الكلام..!وقاطعنى فجأة بإشارة من يده وقد نفد صبره وقال فى عصبية اوكى اوكى وهذا الذى قلته يعنى أن هناك محطة رادار تعمل، قلت له بهدوء بالغ نعم يا سيدى التفت إلى العريف السائق وتناول منه الدوسيه الجلدى وفتحه، وأخذ يملأ بيانات استمارة ما، ثم أغلقه وناوله للعريف السائق وتنهد فى ارتياح قائلا، وهو يشير إلى الدشمة هناك محطة رادار تعمل ثم قام بتأدية التحية العسكرية بثبات شديد فرددت له التحية.. بأشد منها.. ثم حيانى العريف السائق وهو لا يزال يبتسم وانطلق الاثنان بالسيارة الجيب، وعلم الأممالمتحدة يرفرف عليها عاليًا.