جلس على كرسيه ممسكًا بصور قديمة، مر على التقاطها أكثر من 4 عقود، لكنها مرت عليه ك«ثوان»، دون أن ينساها، وحتى الآن ما زال يتذكر أدق التفاصيل التي مر بها، خلال وجوده وسط محطات الرادار والمقاتلات المشاركة في صناعة انتصارات 6 أكتوبر، ووقتها كان يحمل على كتفيه رتبة نقيب، أما الآن، فشعره الأبيض انحسر كثيرًا عن مقدمة رأسه، معلنا عن تخطيه السبعين من العمر. في لقائه مع «البوابة»، حكى الضابط مهندس سامح فرج، مسئول الرادار في الكتيبة 652 صواريخ دفاع جوى في مدينة بورفؤاد أثناء الحرب، الكثير من المواقف والمفارقات التي كان شاهدًا عليها، بداية من أنه كاد أن يتسبب في نشوب الحرب قبل موعدها المقرر، بسبب سرب من الإوز العراقى، مرورًا بصواريخ أمريكية اخترقت جدران مطبخ كتيبته، فقفز مع جنوده فرحًا لأنها لم تصب حلة «الأرز واللحمة»، وصولًا إلى نجاحه في «قرطسة» أحد ضباط الأممالمتحدة، وإقناعه بوجود رادار أسفل دشمة فارغة. بدأ الرادارجى حديثه بقصة الإوز العراقى، التي دارت في نهار أحد أيام مايو 1973، قائلا: «شاهدت إشارة على رادار الكتيبة، توضح طيران هدف منخفض بسرعة بطيئة، فتم رفع حالة الاستعداد القتالى إلى الدرجة القصوى للجبهة بالكامل، كما بلغنا قيادة الدفاع الجوى بالأمر، خاصة مع تمييزى للهدف باعتباره طائرتى هليكوبتر تحلقان على ارتفاع منخفض، وردت القيادة بأن الهدف ربما يكون هدفه إلهاءنا، وأننا قد نفاجأ بغارة جوية من الاتجاه الآخر، مشددة على الجميع بالانتباه إلى جميع الجهات، مع تشغيل كل محطات الرادار، ووحدات تتبع الأهداف في كتائب الصواريخ بطول الجبهة، ولم تستطع أي منها رؤية الهدف، ما أثار حيرة القيادة». وبعد مرور دقائق كأنها الساعات على الجبهة كلها، يقول فرج إن «القيادة العليا للدفاع الجوى درست الموقف كاملًا، وقررت أن الهدف مجرد سحابة محملة بشحنات كهرومغناطيسية، وصدرت لى أوامر بإلغاء الهدف، مع الانتباه الكامل والاستعداد، إلا أننى رفضت الأمر، وواصلت الإبلاغ، فتلقيت مكالمة من أحد نواب القيادة، قال لي: ليه مش عاوز تلغى الهدف يا حضرة الضابط، هدف منخفض جدًا بسرعة 12 كيلومترًا في الساعة، وأنت عامل قلق للجبهة كلها، يعنى هيكون إيه؟ واحد راكب بسكليته وبيتمشى في الجو؟ وبعدين محطة الرادار بتاعتك هي الوحيدة في مصر اللى رصدت الهدف». وتدخل قائد الكتيبة على نفس الخط قائلا «لو الضابط الرادارجى بتاعى عنده تهيؤات، يبقى أنا كمان عندى تهيؤات، لأن الهدف قدامى، وأنا شايفه، ده هدف مؤكد، لكن لا نعلم ما هو»، وبحسب فرج، «ظل الهدف يقترب ببطء من الكتيبة، حسبما يظهر الرادار، حتى أصبح على مقربة منها، وعندما خرجت من الدشمة، ونظرت إلى السماء، فوجئت مع زملائي ب20 إوزة عراقية تطير على شكل الرقم سبعة، ولا في بالها أنها كانت على وشك إشعال الحرب قبل موعدها، فدخلنا جميعا في نوبة ضحك هستيرية، وطلبت من القائد ضربها بالنار لنحصل على وجبة شهية، لكنه رفض، وقال لي: يعنى مش كفاية القلق اللى عملته للجبهة كلها، عاوز كمان تضرب نار وتولعها تانى». وحتى الآن، ما زال الرادارجى يشعر بالحزن كلما تذكر رفض قائده منحه الإذن لضرب السرب بالرشاشات، موضحًا أن لعابه يسيل كلما تذكر الإوز العراقى الشهى داخل «حلة ملوخية»: «دا كان أحلى هدف في حياتى ومضربتوش، تخيل وسط الصحراء، وبطننا ناشفة من الأكل الميرى، وتيجى لك هدية تكفى بورفؤاد كلها ومتصطادهاش». وحكى الرادارجى ل«البوابة» قصة أخرى دارت بينه وبين أحد ضباط الأممالمتحدة، قائلا: «كنا في أول نوفمبر 1973، والحرب منتهية منذ أيام قليلة، بعد توقيع الجانبين اتفاقية الكيلو 101، التي تلزمهما بتثبيت الرادارات في المواقع المهمة، وكانت كتيبتى انتقلت من بورفؤاد إلى الإسكندرية، وفى هذا اليوم كنت مصابًا بنزلة برد، وأحتاج إلى تنظيف لجرح في ظهرى، عندما تلقيت أمرًا من القائد بأن أتوجه إلى بورفؤاد حالًا، في مهمة مستعجلة». كانت المهمة التي أجبرت الرادارجى على ترك راحته، تقضى بإقناع ضابط الأممالمتحدة المكلف بمراقبة وقف إطلاق النار، بتسجيل إحدى الكتائب في منطقة بورفؤاد، رغم عدم وجود أي كتائب هناك، موضحًا «القائد قال لي إننا يجب أن نقنع الضابط بأن لدينا محطة رادار عاملة في بورفؤاد، لنكون بذلك ملتزمين بالاتفاقية، ورغم أننى لم أفهم ما يدور في ذهن القائد، إلا أننى اتجهت إلى المدينة، على أمل أن أتلقى الأمر المناسب للمهمة من القيادة هناك، والتي كانت كلمة واحدة هي ضرورة قرطسة الضابط، وعندها فهمت السبب في استدعاء القيادة لى شخصيًا». ويقول فرج: «قررت أن أستغل الهلوسة المصاب بها من أثر الإنفلونزا والجرح، واستحضرت روح الفنان يوسف وهبى، وقولت للضابط الذي طلب منى دخول المحطة، إن هذه المنطقة مدفون فيها عدد من الشجعان الذين قتلوا خلال المعركة، وهى تعتبر الآن مقدسة، باعتبارها مدافن للمسلمين، وأنه من غير اللائق عسكريا أن ندوس على أجساد هؤلاء الشجعان المدفونين هنا»، وعندها ذُهل الضابط من الأداء المسرحى للرادارجى، وقرر أن يقتنع بالقصة، وحتى يريح ضميره طلب من فرج أن يقسم له بأن هذا المكان توجد فيه محطة رادار عاملة، فكان الرد جاهزًا «أرواح الشجعان الذين سقطوا هنا تشاهدنا الآن، هم الذين يعملون في المحطة، وستظل أرواحهم تحرس هذه المحطة»، وبعد هذه الجملة الملحمية، ملأ الضابط بياناته، ووقع على وجود محطة رادار تعمل بالفعل، وانطلق إلى حال سبيله لتتم بذلك مهمة «القرطسة» بنجاح. ويتذكر فرج قصة كوميدية أخرى عاش أحداثها خلال الاستعدادات لحرب أكتوبر، حدثت بعدما زودت الولاياتالمتحدة العدو بصواريخ قادرة على تتبع المصادر الحرارية وتدميرها، فهاجمت القوات الإسرائيلية المصريين بها، ويوضح «مصدر الحرارة في كل كتيبة هو الديزل المستخدم في توليد الكهرباء». وأشار إلى أن القيادة قررت تبعد مصدر الحرارة عن الكتيبة مسافة 12 مترًا، بعدما وصلتها المعلومات الخاصة بالصواريخ الجديدة، وتم تركيب مواسير في الشكمان الخلفى لماكينة الديزل، حتى تنقل الحرارة بعيدًا، وعندها اكتشف الجنود فائدة جديدة لتلك المواسير، وهى إمكانية استغلالها كوسيلة لتسخين مياه الاستحمام والغسيل، وفى أحد الأيام، كان فرج مغادرًا الكتيبة، بعدما أنهى فترة الخدمة، فشاهد جنديا غريبا عنها، وعندما سأله عن سبب تواجده في الكتيبة، قال إنه جاء ليحصل على جردل مياه ساخنة، فعرف الضابط وقتها أن جنوده حولوا المواسير إلى «سبيل» لتسخين المياه وتوزيعها على الكتائب المجاورة.