الصين حكاية. درس، ونموذج، ومثال للراغبين فى صعود درجات سلم التنمية، هُناك تتحول الأزمة إلى دافع للنجاح، وتنقلب المشكلة السكانية إلى خير ودعم ونماء. بالورقة والقلم الصين هى أكبر دولة تُحقق نمواً اقتصادياً فى العالم، ما يعنى أنها النموذج، وبالورقة والقلم، يقول الاقتصاديون إن الصين التى تستحوذ فى الوقت الحالى على 14% من الناتج القومى الإجمالى للعالم، لتأتى فى المرتبة الثانية بعد الولاياتالمتحدة، التى تسيطر على 22%، سوف تصعد إلى المرتبة الأولى بحلول عام 2022، وستتجاوز حصتها حصة أمريكا. والمثير فى الأمر أن التجربة الصينية متفردة فى كونها الدولة الوحيدة التى حققت معدل نمو 10% سنوياً على مدى ثلاثين عاماً متصلة، وهو ما أسهم فى تراجع معدل الفقر إلى 8% وزيادة احتياطى النقد الأجنبى إلى 2.3 تريليون دولار، وارتفاع معدل النمو الصناعى إلى أكثر من 11%، وهو ما حوّل البلد إلى أكبر مصدر فى العالم، وثانى أكبر مستورد بعد الولاياتالمتحدة. ولا شك فى أن التجربة الصينية نتاج سنوات من الكفاح والنضال والمثابرة والتوحد بين الشعب وقياداته، ونشوء ثقافة العمل، حتى يصبح الدين الأول للأمة الصينية، والمرونة فى توسيع نطاق القيم والمبادئ الحاكمة لتستوعب جميع النظم الإيجابية، وتسمح للقطاع الخاص بالنمو والتمدد جنباً إلى جنب مع استثمارات الدولة، وهو ما يُسميه قادة الحزب الشيوعى بالاشتراكية ذات الخصائص الصينية. العمل والإنتاج هما أساس التقدم، وتحويل البلاد إلى خلايا نحل متداخلة ومتكاملة يتطلب تجرُدًا وتركيزًا ودعمًا من الدولة، وقبل كُل ذلك مكافحة عاتية للفساد فى كل مكان. فى مثل هذه البيئة لا مجال لتروس لا تدور، ولا موضع لأيادٍ كسلى، ولا مكان لطاقات عاطلة، الجميع ينصهر فى بوتقة المصلحة العامة، أكانوا موظفين، عمالًا، فنيين، عُلماء، مُبتكرين، أصحاب أعمال ، ومفكرين. زعماء تاريخيون قراءة التجربة تستدعى مُراجعة أفكار ومبادئ تراكمت وقادت الصين إلى مصاف الدول الكبرى، بدءاً من الزعيم ماو تسى تونغ ودنج شياو بنج، حتى الرئيس الحالى شى جين بينج، إن كُل هؤلاء ينتمون إلى الماركسية، إلا أنهم طوروا، وبدلوا، وأضافوا، وعدلوا فى الأفكار والمبادئ الاشتراكية ليقدموا طرحاً جديداً سموه «تصيين الماركسية» أى إكساب الاشتراكية خصائص الصين التى تقبل بالتعدد، وتسمح بآليات السوق لتعمل جنباً إلى جنب مع تخطيط الدولة المركزية ومشاركتها فى الاستثمار والتنمية. بالنسبة لماو تسى تونج فقد كان أستاذاً بالجامعة، وهو واحد من مؤسسى الحزب الشيوعى الصينى، وأنشأ تنظيماً من الفلاحين استطاع الصمود أمام عمليات التطهير القاسية، حتى وصل إلى السلطة بعد سلسلة من الحروب والاضطرابات، وطبق الاشتراكية، وبدأ الثورة الصناعية من خلال سلسلة كبيرة من المشروعات الصغيرة فى القرى والأرياف، وقاد الثورة الثقافية بالبلاد. أما شياو بنج فهو صاحب المقولة الشهيرة «لا تهم القطة بيضاء أو سوداء، المهم أنها تصطاد الفئران»، وهو ما جعله يركز فور توليه السلطة سنة 1979 على اتباع اقتصاد السوق، والعمل على تطبيق سياسات انفتاح واسعة على العالم، حيث أرسل البعثات التعليمية إلى أوروبا بهدف تعلم الاقتصاد والهندسة والإدارة، وطبق خططًا للانتقال من الاقتصاد الزراعى إلى الاقتصاد الصناعى. أما الرئيس الحالى شى جين بينج فقدم كثيرًا من تصوراته وأفكاره عبر السنوات الماضية من خلال واقع عملى ساهم فى تبوؤ الصين مكانة عظيمة، واستعراض أفكار وسياسات بينج ضرورى كمنهج تنمية لكثير من الدول النامية فى العالم، ولعل الكتاب الصادر مؤخراً بعنوان «حول الحكم والإدارة» يمثل منهجاً شاملاً للتنمية يمكن محاكاته فى الدول النامية. ومن المهم أن نذكر قبل استعراض آراء وأفكار التنمية التى يطرحها شى بينج أن نقرأ بعضاً من سيرته، إن الرجل الذى يعد الرئيس السابع للصين ولد فى 15 يونية 1953، وتخرج فى كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة تسينج- هوا، وتخصص فى النظرية الماركسية والتعليم السياسى والأيديولوجى، وحصل على الدكتوراه فى القانون بين عام 2002، وفى 2007، عمل أميناً للجنة الحزب الشيوعى الصينى ببلدية شانغهاى، والسكرتير الأول للجنة الحزب. وانتُخب شى جى بينج كعضو احتياطى للجنة المركزية ال15 للحزب الشيوعى، وعضواً فى اللجان المركزية ال16 وال17 وال18 للحزب على التوالى، وفى عام 2007 أصبح عضواً فى اللجنة الدائمة للمكتب السياسى فى الحزب، وعيّن رئيساً لمدرسة الحزب العسكرية، وعقد المجلس الوطنى ال12 لنواب المجلس الوطنى دورته الأولى فى الرابع عشر من مارس 2013 بقاعة الشعب الكبرى فى العاصمة بكين، وقرر انتخابه رئيساً لجمهورية الصين الشعبية خلفاً لهو جينتاو. تصيين الاشتراكية ولعل أبرز ما يثير الاستغراب فى أطروحات الاشتراكية الصينية أن الدولة تسمح بالانفتاح التام على العالم تجارة واستثماراً، وحسبنا أن نجد الرئيس الصينى يكرر فى خطاباته «سنتمسك باقتصاد السوق الاشتراكى بلا تزعزع ولا تردد، وباب الصين المنفتح لن يغلق أبداً» وهو ما جعل الدولة تنضم رسمياً إلى منظمة التجارة العالمية، وتعلن صارحة رفضها الحمائية أياً كان شكلها. إن التصور السائد لدى العالم العربى بأن الاشتراكية تُلزم الدولة بحظر قيام قطاع خاص قوى أو تدفع الدولة للانغلاق وتقييد دخول السلع يتعارض مع القراءة الصينية للاشتراكية التى تُرحب بعمل القطاع الخاص دون تخلى الدولة عن دورها، وتسمح بالمنافسة لأنها كفيلة بحصول المستهلك على حقوقه كاملة، وليس أدل على ذلك من إعلان الحكومة الصينية فى خطتها الخمسية الثانية عشرة مشروعًا لبناء 36 مليون وحدة سكنية للسكان الأكثر فقراً. وفى تصور «بينج» أن التحدى الأهم فى عالم الاقتصاد هو دمج العلوم والتكنولوجيا بشكل موسع فى عملية التنمية الاجتماعية، كذلك يرى الرجل أنه لا يمكن تحقيق تنمية اقتصادية عظيمة دون التركيز بقوة وعمق على محور مكافحة الفساد، وإرساء مبادئ الشفافية.. إن القضاء على الفساد هو السبيل لإقامة كيان اقتصادى هائل بحسب خطابات «بينج». إحياء طريق الحرير ومن الأطروحات المُهمة لاقتصاد الغد فكرة طريق الحرير القديم الذى يمكن من خلاله إحياء التعاون الاقتصادى بين الصين والعالم العربى وإفريقيا.. إن الرئيس «بينج» يرى أن إفريقيا تحديداً هى قارة الأمل، لأنها تمثل أسرع المناطق نمواً فى العالم.. ويقول الرجل «إن استعادة طريق الحرير تلزم الصين باحترام خيارات كل دولة، فليس من الضرورى للناس أن يرتدوا أحذية موحدة، وإنما أن يجدوا ما يناسب أقدامهم، وليس ضرورياً للدول أن تتخذ نظاماً واحداً وإنما لها أن تجد ما فى صالح شعبها». إن فكرة طريق الحرير تقوم على أن واردات الصين ستقفز بعد خمس سنوات إلى ما يزيد على عشرة تريليونات دولار، أو ستزيد الاستثمارات المباشرة فى الخارج على 500 مليار دولار، وهو ما يعنى أن الفرص متاحة أمام العالم العربى الذى يصدر سلعاً ومنتجات إلى الصين ب 140 مليار دولار سنوياً فى الوقت الحالى بما يمثل 7% فقط من واردات الصين، وترى الصين أن ربط حركة التنمية لديها بالعالم العربى تحديداً يمكن أن يشكل دفعًا كبيرًا للجانبين، خاصة فى ظل الإمكانات المتاحة لدى الجانبين. لذا ومن هذا المنطلق، يقول «بينج»: «إنه ينبغى احلال السلام فى الشرق الأوسط، وتؤيد الصين إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة شاملة على أساس حدود 1967 مع اتخاذ القدس عاصمة لها، وتؤيد الصين أيضاً إقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية فى الشرق الأوسط». ولذا أيضاً فقد اعتبرت الصين عام 2014/2015 عاماً للصداقة الصينية العربية، وتم إقرار خطة تدريب 6 آلاف متخصص عربى فى جميع التخصصات. فرص مصر والعالم العربى ومن الواضح أن مجتمع الأعمال العربى والمصرى على وجه التحديد استبشر بمشروع طريق الحرير الصينى ، لذا فإن دراسة أعدتها جمعية رجال الأعمال المصريين، أشارت إلى أهمية الاستفادة من المشروع، وقالت الدراسة إن الطريق يمر من خلال ب65 دولة، حيث يخترق قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا، وهما يربطان دائرة شرقى آسيا الاقتصادية النشطة من طرف، بدائرة أوروبا الاقتصادية المتقدمة من طرف آخر، ويقع بينهما عدد غفير من الدول التى تكمن فيها إمكانيات هائلة للتنمية الاقتصادية، حيث يتركز الحزام الاقتصادى لطريق الحرير على تفعيل ممرات الصين- أوروبا (بحر البلطيق) عبر آسيا الوسطى وروسيا، والصين- منطقة الخليج والبحر الأبيض المتوسط عبر آسيا الوسطى وغربى آسيا. وأوضحت الدراسة أيضاً أن استكمال الطريق يتطلب إقامة سلاسل لوجستية وصناعية تغطى قارتى آسيا وأوروبا، لذا فقد خصص مجلس الدولة الصينى للحزام الاقتصادى لطريق الحرير ولمشروع طريق الحرير البحرى 40 مليار دولار من أجل تمويلهما من خلال صندوق طريق الحرير، وتعد مبادرة صندوق طريق الحرير واحدة من أربع مبادرات اكتسبت زخماً كبيراً فى بكين فى الأشهر الأخيرة لدعم التنمية فى إفريقيا وجنوب شرق آسيا. أضافت الدراسة أنه سيتم فى إطار المبادرة شق طرق برية وبحرية وجوية ومرافق نقل واتصالات وتوليد كهرباء وطاقة وسكك حديدية جديدة بحيث تزيد حركة التدفقات للسلع والمعلومات والسياحة والطلاب ورجال الاعمال والتكنولوجيا الحديثة والمعارف العملية بين الصين وشتى بقاع العالم، وخلال سنوات قليلة سيكون النقل والسفر بين الصين وأوروبا على سبيل المثال أيسر وأسرع بكثير بنحو 10 مرات من الوقت الراهن، ما سيكون له بالغ الأثر فى توسيع الاستثمارات الخارجية وتعزيز النفوذ العالمى لبكين من خلال وضع آليات لزيادة الاستثمارات الصينية فى مشروعات البنى التحتية والمشروعات التجارية فى الدول الأخرى التى تحتاج بشدة إلى تطوير الطرق والبنية التحتية التى تقع على طريق الحرير. ووفقاً لبنك التنمية الآسيوى ADB، فإن الناتج المحلى الإجمالى السنوى للبلدان فى هذه المناطق المستهدفة يصل إلى نحو 21 تريليون دولار. وتضيف الدراسة أن حجم التجارة الصينية مع الاتحاد الأوروبى بلغ فى العام الماضى ما يقرب من 559 مليار دولار، بينما بلغ حجم التجارة الإجمالى مع رابطة دول جنوب شرق آسيا أكثر من 443 مليار دولار، فى مقابل ما يقرب من 257 مليار دولار مع دول الشرق الأوسط، ونحو 192 مليار دولار مع الدول الإفريقية، وتمثل المناطق الأربع مجتمعة (1.45 تريليون دولار) أكثر من ثلث إجمالى تجارة الصين (4.2 تريليون دولار) مع العالم وفقًا لأحدث بيانات صندوق النقد الدولى. وتؤكد أن ازدهار تجارة الصين مع أوروبا، ودول الآسيان، والشرق الأوسط وإفريقيا، سيؤدى إلى زيادة اعتماد الصين على الممرات البحرية عبر قناة السويس وباب المندب ومضيق هرمز والمحيط الهندى ومضيق ملقا، وفى هذا الشأن يمكن إدراك مدى أهمية الخطوط البحرية للصين. وتستهدف الصين الوصول بحجم التجارة الثنائية بالنسبة لإفريقيا إلى 400 مليار دولار بحلول عام 2020، فضلًا عن الوصول بتجارتها مع الدول العربية إلى 600 مليار دولار الأعوام المقبلة، ورفع رصيد الاستثمار الصينى غير المالى فى الدول العربية من 10 مليارات دولار إلى أكثر من 60 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة، فضلاً عن تسريع مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة FTA بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجى، ودفع الدول العربية للمشاركة فى بنك الاستثمار الآسيوى للبنية التحتية. ولتعظيم الاستفادة من طريق الحرير ترى الدراسة ضرورة بحث شكاوى الشركات الصينية فى مصر من عدة أمور أبرزها انخفاض كفاءة الإدارات الحكومية وصعوبة التنسيق معها، فضلاً عن صعوبات تسجيل الشركات، وطول عمليات التفتيش الأمنى والصحى على الإنتاج، وصعوبات توفير الطاقة، بالإضافة إلى انخفاض كفاءة العمالة المصرية، وضعف مستواها التقنى وافتقارها للتدريب ما يضطرهم لجلب العاملين من الصين. قضية الطاقة وبخلاف طريق الحرير يقدم «بينج» رؤى مهمة بشأن قضية الطاقة، فالأهم فى تصوره من زيادة الإنتاج هو التوفير الدائم، لذا يقول الرجل فى خطاب شهير فى 13 يونيه 2014 أن الصين هى أكبر دولة منتجة ومستهلكة للطاقة فى العالم، وأنه تم فى السنوات الماضية بناء نظام شامل للطاقة يشمل الفحم والكهرباء والنفط والغاز والطاقات الجديدة والمتجددة، وأنه من اللازم فى الوقت الحالى كبح جماح الاستهلاك واعتبار الحفاظ على الطاقة أولوية أى عمل. ومن أطروحاته الدائمة أن التنمية لا تتحقق بعيداً عن التعدد والتنوع.. إنه يقول فى خطاب شهير فى 27 مارس 2014 إن التعدد والتباين فى الحضارات ضرورة، ويضيف أن التاريخ يقول إنه بالتبادل تصبح الحضارات مفعمة بالحيوية، لذا فقد دخلت البوذية والمسيحية والإسلام إلى الصين لتُنشط حضارتها وتنوع ثقافة أبنائها.