حين قادت الأقدار سيناتور أميركا الأفريقي الأصل إلى البيت الأبيض، كثرت الوعود من قبله تجاه إنجاز «عالم خالٍ من الأسلحة النووية» إلى أبعد حد ومد، غير أن الرئيس الأميركي باراك أوباما يترك مقعده عما قريب وواشنطن في حالة من الازدواجية النووية، التي لا تفسح المجال كثيرًا للسلام العالمي، بل قد تدعو القائمين على جائزة نوبل للسلام لإعادة تقييم أحقية الرجل في الحصول عليها مسبقًا. تفيد الأنباء بأن أوباما يدرس خططًا لإعادة صياغة شاملة للسياسات النووية الأميركية، يتعهد بموجبها بالامتناع عن شن الضربة الأولى في أي نزاع نووي ينشب حول العالم، كما أنه ينوي تخفيض الميزانية المخصصة لتحديث الترسانة النووية، ويلغي على سبيل المثال، أو يؤخر، تطوير صواريخ «كروز» بعيدة المدى التي تحمل رؤوسًا نووية. الازدواجية النووية الأميركية، تتضح بشكل مثير، عندما نقرأ أخبارًا مضادة في ذات الوقت، وتتصل بقيام الإدارة القومية الأميركية للأمن النووي بخطوات جدية لإنتاج النموذج الأول من القنبلة النووية المطورة «بي 16 - 12» في عام 2020، وذلك بعد أن دخل العمل على تصنيع هذا النوع الجديد من الأسلحة المرحلة النهائية. ماذا عن تلك القنبلة؟ يمكن القول إنها قنبلة نووية من النوع الذكي، كانت قد صنعت في ستينات القرن الماضي، ويبلغ طولها نحو 3.58 متر، وقطرها 33 سنتيمترًا، ويتراوح وزنها بين 320 كيلوغرامًا، وما يزيد على 500 كيلوغرام، والقنبلة المشار إليها تتحول بذلك من سلاح نووي رادع إلى سلاح ميداني عملياتي، صمم خصيصًا لتحقيق «أهداف عملياتية». من نصدق من الأميركيين؟ أولئك الذين لا يريدون أن يكون لهم سبق الضربة النووية الأولى، أم الذين يسعون لإشعال سباق التسلح النووي حول العالم؟ لا يمكن للمرء فهم ما يجري في الولاياتالمتحدة بشكل عام، دون تذكر القاعدة الرئيسية التي تحكم وتتحكم في المنطلقات الذهنية لذلك البلد الإمبراطوري، إشكالية «تكافؤ الأضداد في الروح الأميركية الواحدة»، أي الإقدام على الشيء وعكسه في ذات الوقت. يغادر أوباما البيت الأبيض بعد خمسة أشهر تقريبًا، ولهذا فالمتاح أمامه من الوقت قليل جدًا، لإدخال تعديلات جذرية على الاستراتيجية النووية الأميركية، عطفًا على عدم مقدرته الحقيقية على التصادم مع المجمع الصناعي العسكري الأميركي، الذي حذر منه أيزنهاور ذات مرة، وأزاح جون كيندي من طريقه بالاغتيال غالبًا مرة ثانية. الردود الأولية على مقترحات أو أفكار أوباما النووية، خلفت حالة من القلق في الجيش الأميركي وقادته، فقد أعربت وزيرة سلاح الجو الأميركي، ديبورا لى جيمس، عن قلقها من خطة أوباما الجديدة، وقالت أمام مجموعة الدراسات «نيو أميركا» التي تتخذ من واشنطن مقرًا لها: «إن مثل هذه السياسة تثير مخاوفي». المشهد النووي الأميركي المزدوج والمضطرب على هذا النحو، لا يمكن بحال من الأحوال فصله عن سياقات السباق الأميركي نحو البيت البيض، ويطرح علاقة استفهام مقلقة.. فهل يريد أوباما مشهدًا نوويًا أميركيًا مغايرًا لواقع الحال الآن خوفًا من وصول دونالد ترامب تحديدًا لمقام الرئاسة والتحكم في «الحقيبة النووية»، الكفيلة بإشعال نيران الحرب العالمية النووية؟ قد لا يكون الأمر برمته صحيحًا، لكن هناك بشكل أو بآخر درجة ما من المخاوف الصحيحة والحقيقية، تربط بين ترامب والنووي الأميركي، سيما أن المرشح الجمهوري القادم قد تساءل مع عدد من خبراء السياسة الخارجية الأميركية: «إن كنا نملك أسلحة نووية، فلماذا لا نستخدمها؟». عطفًا على ذلك، فقد عرض ترامب في تصريحاته تزويد اليابان وكوريا الجنوبية بالأسلحة النووية، ورفض استبعاد استخدام قنابل ذرية في أوروبا. المشهد النووي الأميركي المزدوج لن يخلي مكانًا واسعًا للأمن النووي حول العالم، لا سيما أن المشهد الدولي الحالي شديد الالتهاب ما بين موسكووواشنطن بشكل خاص، وخير دليل على صدقية هذا الحديث تصريحات ميخائيل أوليانوف، مدير هيئة الحد من انتشار الأسلحة ومراقبتها في وزارة الخارجية الروسية، فقد قال «إن روسيا ستأخذ بالاعتبار في خططها العسكرية، نية الولاياتالمتحدة تحديث القنبلة الجديدة العابرة للقارات، فالحديث في واشنطن لا يدور عن علبة كبريت أو عن مسدس». ويبدو في كل الأحوال أن واشنطن مقبلة على معركة داخلية تتعلق بتحديث الأسلحة النووية التكتيكية، لا سيما أن برنامج أوباما لم يحصل على موافقة المشرعين الأميركيين حتى الساعة، ويلقي بالكرة في ملعب الرئيس القادم من جهة، وفى معسكر صناع الأسلحة من جهة ثانية، وقد يجد الأخيرون في ترامب جوادهم الرابح، وليذق العالم مرارًا ودمارًا، نارًا وكبريتًا ما شاء له أن يذوق. يمضي أوباما من الصورة عما قريب، فما يلوح خيال جورج كينان مهندس الحرب الباردة الأميركية السوفياتية، الذي اعتبر أن «الرادع النووي سيضع الأساس لمواجهة أخيرة ستقضي على الجنس البشري»، وحديث القنبلة النووية الأميركية التكتيكية الأخيرة، التي يتكلف برنامجها نحو تريليون دولار، شاهد على ذلك. هل كان عالم اللسانيات الأميركي الأشهر نعوم تشومسكي، على حق عندما صرح في منتصف مارس (آذار) الماضي بأن «الجمهوريين خطر على البشرية ونشوب حرب نووية ليس بالأمر المستبعد»؟ نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط