طلاب علوم القاهرة يواصلون تنفيذ برامج التدريب استعدادا لامتحانات نصف العام    سعر الجنيه الذهب في محال الصاغة (آخر تحديث)    سعر اليورو مقابل الجنيه في البنوك المصرية اليوم السبت    مع تراجع الانتاج فى فصل الشتاء…توقعات بارتفاع أسعار الدواجن خلال شهر رمضان    الكويت تحتفل بالذكري الثانية لتولي الشيخ مشعل الأحمد مقاليد الحكم    رئيس الوزراء يصل مطار القاهرة عائدًا من العاصمة اللبنانية    محمود مسلم: السودان جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي المصري.. وكل الخيارات مفتوحة    التاريخ ينحاز للأبيض، أرقام مرعبة تطارد حرس الحدود أمام الزمالك قبل موقعة كأس مصر    الأرصاد تحذر: شبورة مائية وفرص سقوط أمطار.. الصغرى بالقاهرة 10 درجات    السجن 10 سنوات لمتهم بتهديد فتاة فى سوهاج بنشر صورها على فيسبوك    بدء محاكمة عصام صاصا و15 آخرين في مشاجرة الملهى الليلي بالمعادي    بكلمات مؤثرة.. محمد صبحي يستعيد ذكرياته مع سمية الألفي    موعد أول ليلة في شهر رجب.. إحدى الليالي الخمس التي يُستجاب فيها الدعاء    الفرق الطبية بالشرقية تنفذ 81 ألف زيارة منزلية بأيام الجمع والعطلات الرسمية    لأول مرة بمستشفى قها.. تغيير مفصل الركبة لمسنة 71 سنة بعد منعها من الحركة    محمد عنتر يكشف سر رحيله عن الزمالك    زخم كروي عالمي في مباريات اليوم السبت.. قمم أوروبية ومواجهات حاسمة محليًا    الأرض تنحاز لأصحابها في المباريات الافتتاحية لأمم أفريقيا    تشكيل آرسنال المتوقع لمواجهة إيفرتون في البريميرليج    مباحثات مصرية صينية لإنشاء مصنع متطور للمبيدات بتكنولوجيا عالمية    التسجيل «أون لاين».. مجلس الدولة يفتح باب التقديم لوظيفة مندوب مساعد    مركز الدراسات والبحوث يشارك في مؤتمر علمي عن دور الذكاء الاصطناعي في تحقيق التنمية المستدامة    التضامن: تنفيذ رؤية شاملة لتنمية الطفولة المبكرة    حافظ الشاعر يكتب عن :"شها"..تكتب درسا في الاصطفاف.. حين توحد الصف جاء الكرسي لأهله    قاصرات من 14-17 سنة وسمراوات.. مذكرات لFBI تكشف جرائم جيفرى إبستين    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : لعنة الله على تلك .. المسماة " ديمقراطية !?    دار الإفتاء توضح علامات الاستخارة وتحذر من ربطها بالأحلام فقط    مستشار سابق لترامب يشيد بفكرة نفق روسيا ألاسكا: مشروع مربح للبلدين    مرتبات تصل ل25 ألف جنيه.. «العمل» تعلن عن وظائف في السويس    دفعة جديدة من أطباء الجامعات تصل إلى مستشفى العريش العام    زكى القاضى: هناك رغبة دولية لإتمام المرحلة الثانية من اتفاق شرم الشيخ حول غزة    محاكمة 37 متهما بخلية التجمع.. اليوم    أسعار مواد البناء في مصر اليوم السبت    محافظ أسيوط يقرر صرف تعويضات عاجلة ودعم شامل للمنازل المتضررة بمنطقة غرب البلد    نجم الزمالك السابق: أحمد عبدالرؤوف مُطالب بالتعامل بواقعية في المباريات    مكتبة مصر العامة بالأقصر تستقبل وفد المركز الثقافي الكوري لبحث التعاون    إقبال جماهيري على «حفلة الكاتشب» في ليلة افتتاحه على مسرح الغد بالعجوزة    محافظ المنيا يلتقي وزير الشباب والرياضة بديوان المحافظة    القبض على إبراهيم سعيد وطليقته بسبب مشاجرة داخل فندق بالقاهرة الجديدة    ضمن مبادرة صحح مفاهيمك، أوقاف الإسماعيلية تواصل التوعية ضد التعصب الرياضي    وزير الرى يتابع خطة إعداد وتأهيل قيادات الجيل الثاني لمنظومة المياه    وزير التعليم العالى: دعم الباحثين والمبتكرين لتعزيز مكانة البحث العلمي فى مصر    إصابة شخص إثر انقلاب ربع نقل بقنا    المبادرات الرئاسية تعيد كتابة التاريخ الصحي لمصر    أزهري يعلق علي مشاجرة الرجل الصعيدي مع سيدة المترو: أين هو احترام الكبير؟    نشرة أخبار طقس اليوم السبت 20 ديسمبر| الأرصاد تحذر من أجواء شديدة البرودة    ذكرى ميلاده ال95.. صلاح جاهين يصرخ عام 1965: الأغنية العربية في خطر!    ستار بوست| أحمد العوضي يعلن ارتباطه رسميًا.. وحالة نجلاء بدر بعد التسمم    المدمن قتل حماته وسرق معاشها ليشتري مخدرات    الولايات المتحدة تعلن فرض عقوبات جديدة على فنزويلا    محمد معيط: روشتة صندوق النقد الدولي عادة لها آلام وآثار تمس بعض فئات المجتمع    الأنبا فيلوباتير يتفقد الاستعدادات النهائية لملتقى التوظيف بمقر جمعية الشبان    مواقيت الصلاه اليوم السبت 20ديسمبر 2025 فى المنيا    شهداء فلسطينيون في قصف الاحتلال مركز تدريب يؤوي عائلات نازحة شرق غزة    القبض على إبراهيم سعيد وطليقته بعد مشاجرة عنيفة بفندق بالقاهرة الجديدة    كل عام ولغتنا العربية حاضرة.. فاعلة.. تقود    جرعة تحمي موسمًا كاملًا من الانفلونزا الشرسة.. «فاكسيرا» تحسم الجدل حول التطعيم    القلق يجتاح «القطاع»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آهات الفقراء
نشر في الوفد يوم 08 - 09 - 2016

الحياة صعبة.. والعيشة ما يعلم بيها إلا ربنا» شعار رفعه المصريون بعد الارتفاع الجنونى وغير المسبوق لأسعار السلع والخدمات.. آهات مكتومة وصرخات مدوية لا يسمعها إلا من اكتوى بنارها.
أسواق الخضار لم يدخلها إلا قليلون والفاكهة لا يعرف طعمها إلا الأغنياء فقط.. غلاء فاحش توغل وتوغل ووصل لحد أجسادنا لينهش آخر نفس فيها.. فى مصر كل من هم تحت خط الفقر صاروا أموتاً وهم أحياء والفقراء ازدادوا قحطاً وضنكاً أما الطبقة الوسطى فلم يعد لها أثر، إذ انكمشت وانضمت للفقراء والمعدمين.
وفى ذات الوقت الذى يعانى فيه الغالبية العظمى من الشعب من لعنة ارتفاع الأسعار المفاجئ مع ثبات المرتبات، هناك من لا يشعرون بالبطون الخاوية، لأن بطونهم امتلأت حتى أذقانهم، فباتوا يعانون من الحموضة والارتجاع.. إنهم أثرياء الوطن.
«الوفد» قامت بجولة اختارت فيها نماذج مختلفة من شرائح الشعب لوصف حالتهم فى هذه الأيام العصيبة.
الشباب والجوع فوق "فضلات المدينة"
من أمام الشارع الموازى لكورنيش النيل.. رأيته يجلس فى قلب أكوام القمامة.. شاب فى العقد الثالث.. أبيض الوجه.. شعره طويل.. يرتدى قميصاً وبنطلوناً فى حالة جيدة.
لم أر حذاءه لأنه يجلس القرفصاء.. لم أبال به من أول الوهلة لسببين: الأول: ربما يكون فقد شيئاً وراح يبحث عنه.. والثانى: قد يقوم بجمع زجاجات البلاستيك لبيعها أو يبحث عن شىء ينفعه منها.. وهو مشهد اعتدنا عليه كلما ضاقت الظروف واسودت الحياة فى وجه بسطاء مصر.
فى أقل من لحظة لفت انتباهى مرة أخرى.. مشهد لم أره من قبل.. إنه يأكل من القمامة.. لم أصدق.. اقتربت منه قليلاً.. إنه يأكل بشراهة ونهم.. أمامه طبق أبيض من «الفِل» به فضلات من الجبن ذات اللون البنى القاتم.. يبدو عليها العفن.. وتفوح منها الروائح الكريهة.. اقتربت أكثر منه.. تبسم لى وأشار بيده دون أن يتكلم «اتفضلى» ابتعدت خطوة للوراء.. فراح يجمع علب الزبادى التى تحتوى على فضلات بسيطة أو الممتلئة منتهية الصلاحية.. يغمص أصابعه فيها ويأكل.. ثم يتناول الخبز البلدى المكسر والعفن.. شعرت بدوخة وغثيان وميل للقيء. لم أتحمل المشهد.. ابتعدت عنه أكثر وأكثر.. وفجأة تذكرت أننى نسيت ألتقط الصور.. سألته أسئلة كثيرة لم يجب عن واحدة منها.
وفجأة ظهر خفير الأرض.. اقترب منى ضاحكاً وقال: «كل يوم على نفس الحال.. يأكل من الزبالة.. ثم يقوم بإعداد وجبات أخرى منها ويأخذها معاه.. وكل يوم يعزم عليّ.. وفى أحد الأيام أعطانى 2 جنيه وقالى روح هاتلك حاجة ساقعة.. فقلت له هات أنت أكل وسيبك من أكل الزبالة».
سألت الخفير: «تعرف إيه عنه»؟!
رد وهو مستمر فى ابتسامته: ولا حاجة.. مش بيكلم حد.. صوريه وخليه يطلع فى الإذاعة عشان الحكومة تعرف الناس وصلت لإيه.
"ام إسلام": نطبخ مرة في الشهر
الذرة المشوى.. قرب وشوف.. وتعالى دوق.. كلمات شهية.. بصوت صعيدى أصيل يحفظه عن ظهر قلب كل المارة والسكان المحيطين بأم إسلام بائعة الذرة.
أغرب ما سمعته منها.. أنها متعلمة وحاصلة على دبلوم تجارة والأغرب أنها درست كمبيوتر ب5 لغات، كل لغة حصلت فيها على تقدير امتياز من قصور الثقافة فى التسعينات.
فى بداية حياتها عملت مدرسة بالحصة فى إحدى المدارس الحكومية بمحافظة أسيوط مسقط رأسها وكانت تتقاضى راتباً شهرياً قدره 90 جنيهاً، إلى أن تزوجت من أحد أقاربها لا يعمل وغير متعلم، وطبقاً لعادات وتقاليد أهل الصعيد تركت عملها بلا رجعة وكان زوجها يعمل باليومية فى الإسكندرية التى أقاما فيها ما يقرب من 14 سنة.. وبعد أن أنجبت ثلاثة أولاد وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، جاءت مع زوجها إلى القاهرة باحثة عن فرصة عمل إلى أن وجد زوجها وظيفة حارس عمارة «بواب» بإحدى عمارات الشرطة فى طرة.. فى بداية حياتنا كما تقول أم إسلام كنا نتقاضى مرتباً زهيداً لا يتعدى 250 جنيهاً.
فقرر ابنى الكبير بالصف الثالث الإعدادي أن يساعد فى المصاريف ففكر فى مشروع شوى الذرة وبالفعل اشترى المستلزمات بمساعدة والده.. وبدأ فى البيع عدة شهور إلى أن أصابه التعب والإرهاق والملل من تهوية النار وشوى الذرة، فقرر ألا يكمل.. وقررت الأم بعدها مباشرة ومنذ ما يقرب من 6 سنوات أن تكمل مشوار ومشروع ابنها وأن تبيع الذرة فى فترة الصيف فقط وزوجها يساعدها فى إشعال النار والمتابعة من بعيد مع عمله الأساسى فى حراسة العقار.
سألتها عن دخلها اليومى من بيع الذرة فقالت: «دى أرزاق ممكن يوم أبيع فيه كل الحصيلة، ويوم ثانى أبيع كوزين أو 4 أو 5، مع اختلاف سعر الكوز، فيتراوح سعره ما بين جنيه و2 و3 جنيهات ولا أخفى عليك كل اعتمادنا على الله ثم على أولاد الحلال».
وأضافت: «فى ناس لا تشترى الذرة ولكن يعطوننى اللى فيه النصيب، وآخرون يشترون ويعطوننى بزيادة عن سعر الكوز.. والحمد لله على كل شىء».
وقبل أن أسألها عن المعيشة وارتفاع الأسعار قالت: «أنا بطبخ مرة فى الشهر لما ربنا يرزقنى من حد ينزلى فرخة أو كيس مكرونة وزجاجة زيت أعملهم فى ساعتها وناكل ونشكر ربنا، غير كده عايشين على البيض والمش والفول والبطاطس المسلوقة».
ثم أضافت فى حرقة: «مرتب العمارة 500 جنيه شهرياً.. يعنى فى اليوم 13 جنيه، ودلوقتى فى الغلا الجنونى دلوقتى لو دخلتى السوق بال500 جنيه تطلعى من غيرها!!، كيلو البامية فوق ال10 جنيه والطماطم ب6 جنيهات، والسكر وصل 8 جنيهات أنا بروح السوق مابجبش حاجة ولو هشترى، هشترى نص عدس، نص فول، لكن عشان أفكر فى تحضير عشاء أو غذاء لينا تكلفتها 100 جنيه ال100 جنيه دى بقاعدة 4 أيام ذرة»!
وأطفالنا ينامون على الرصيف مثل قطط مشردة
عندما نظرت إليهم من بعيد تخيلت أنهم قطط «سيامى»، اقتربت أكثر فأكثر فارتعشت قدماى وخفق قلبى من هول الصدمة ورحت أدقق بصرى مرة واثنتين وثلاثاً إلى أن تأكدت أنهم أطفال صغار.. أطفال من لحم ودم.. تتراوح أعمارهم ما بين 6 و7 و8 سنوات، يفترشون الرصيف بشارع رأس التين المطل على قلعة قايتباى يغطون «فى سابع نومة».
طافت عيناى أرجاء المكان للبحث عن ذويهم، فاكتشفت أنهم أبناء بائعة الذرة التى تفترش الأرض.. لم تجد مكاناً آمناً تترك فيه أطفالها سوى الشارع، خرجت بحثاً عن قوت يومها وإطعام صغارها الذين يشاركونها مشوار الكفاح والمسئولين والمشقة.
"البيه".. من عالم آخر!
كان يقف أمام إحدى شركات العقارات الشهيرة بشارع مصدق بالمهندسين.. يرتدى قميصاً لا يقل ثمنه عن 1000 جنيه، وبنطلون كتان من أرقى الأنواع.
أما حذاؤه فلا يقل ثمناً عن القميص والبنطلون وربما يزيد فى يده اليمنى ساعة ربما يتعدى سعرها آلاف الجنيهات.
يمسك موبايل من أحدث موديل، اقتربنا منه وعرفته بنفسى وعما نبحث عنه فى جولتنا وهى غلاء وارتفاع الأسعار المفترض أن تكون مصدر قلق وضيق لجميع الشرائح وطبقات المجتمع.
سألته عن رغبته فى الحديث إلينا.. هز رأسه وهو محنى وعيناه منصبتان بكل تركيز فى موبايله دون أن ينظر فى وجهى بترحاب.. لكن رفض أن يتصور، وبغض النظر عن اللامبالاة وعدم الاهتمام بمن حوله، سألته عن رأيه فى ارتفاع أسعار جميع السلع والخدمات؟ فأجاب بسخرية شديدة قائلاً: «أنا حاسس بحموضة شديدة».
أذهلنى الرد.. وعلقت عليه قائلة: الحموضة ناتجة عن تناول كميات كبيرة وكثيرة من اللحوم والمسبكات والأكلات الشهية والغنية فعليك بالاستغناء عن تناول الأطعمة الدسمة وباهظة الثمن حتى تشفى وتشعر بالغلابة.
تركته ولسان حالى يقول: «المال يستر رذيلة الأغنياء، والفقر يغطى فضيلة الفقراء» صدق الإمام على بن أبى طالب.
غلبها النوم قبل أن تنتهى من «الساندوتش»
ضحكة.. ولعبة.. فستان حلو.. مراجيح وملاهى.. شوكولاتة وآيس كريم.. شقاوة «وتنطيط» تلك هى مملكة الأطفال فى كل الدنيا.. لا تعنيهم مشاكل الكبار.. ولا يفكرون إلا فى شراء لعبة جديدة.. أو فسحة جميلة.
وفى ذات الوقت هناك أطفال يولدون من رحم الألم والعذاب والغلب كله.. تتفتح أعينهم على التسول والبهدلة.. لا يجدون قوت يومهم.. فيجبرون على الاعتماد على أنفسهم قبل أن يحملوا هم ذويهم..
فى قلب أرقى أحياء القاهرة بالمعادى.. طفلة لا يتعدى عمرها 12 عاماً.. تأخذ من رصيف الجزيرة الوسطى مكاناً يؤويها.. تجلس على حجر.. كفيل بأن يدغدغ أقوى عظمة فى جسم الإنسان.. ولا تجد وضعاً أفضل من الجلوس سوى بانحناء ظهرها قرابة ال15 ساعة يومياً.. أمامها كرتونة فارغة تضع فيها حوالى 10 علب مناديل صغيرة لبيعها.. وفى قبضة يديها الصغيرتين «ساندوتش» النوم غلبها قبل أن تنتهى منه.
هذه الطفلة ليست الحالة الوحيدة التى يمكن أن نتعاطف معها.. هناك عشرات بل مئات الأطفال المشردين فى الأرض بلا ذنب.. تجدهم فى إشارات المرور.. وأمام المطاعم والكافيهات.. وبدلاً من أن يكونوا داخل الملاهى يمرحون ويلعبون، جلسوا يستعطفون المارة.. إذا أردنا الحديث عنهم وعن أحوالهم المأساوية لا يكفينا كتابة بملء السمع والبصر.
نهدى هذه الصورة للمجلس القومى للطفولة والأمومة.. ولكل مؤسسات المجتمع المدنى المعنى بمشاكل أطفال مصر.. لعلنا نجد لديهم إجابة تشفى الغليل وتثلج الصدور لطبيعة عملهم المنوط بهم.
«فاطمة»: أقسم بالله.. الفاكهة لا تدخل بيتى أبداً!
فى «عز الحر».. وتحت لهيب الشمس المحرقة.. عقارب الساعة تدق الثالثة عصراً.. حان موعد انتهاء عملها.. خرجت مهرولة إلى الشارع.
وجهها ينطق بالأنين والهموم.. عقلها شارد.. وبالها مشغول.. لمحتها تقترب من منفذ بيع السلع والخضراوات واللحوم التابع للقوات المسلحة.
فجأة.. وقفت أمام المنفذ تقرأ الأسعار المكتوبة من الخارج.. وبعد ثلاث دقائق تقريباً من القراءة.. هزت رأسها يميناً ويساراً فى حسرة ويأس.. ثم جلست على المقعد البارز من منفذ البيع.. عينيها تمتلئان بالدموع.. تأبى أن تنزل من التعفف.. سألتها: «مش حتشترى حاجة؟!».. فنظرت لى فى تعجب ملتزمة الصمت وبعد أقل من ثانية قالت فى غضب: «عاوزة حاجة».
عرفتها بنفسى.. ثم دار بينى وبينها هذا الحديث:
..............................؟
- فاطمة حامد حسين، موظفة بعقد بالهيئة العامة للخدمات البيطرية منذ 5 سنوات، راتبى 270 جنيهاً فقط لا غير.
..............................؟
- زوجى منجد بلدى.. ومن ساعة ما ظهرت المراتب الإسفنج مفيش شغل والصنعة اختفت.. لدى 4 أولاد وبنت، زوجت 2 بالعافية من سنين طويلة.. ومعى بنت دبلوم تجارة وولد خريج معهد فوق المتوسط والثالث كلية التجارة جامعة القاهرة.
..............................؟
- أقول إيه.. أول حاجة بفكر فيها سداد الالتزامات المهمة.. فاتورة الكهرباء كانت ب50 جنيهاً أو 75 جنيهاً، الآن وصلت ل100 جنيه، الغاز كان ب12 جنيهاً بين يوم وليلة أصبح 35 جنيهاً، هذا بخلاف إيجار الشقة 200 جنيه.
..............................؟
- بطبخ مرة فى الأسبوع، كيلو البامية ب15 جنيهاً، الفاصوليا الخضراء ب20 جنيهاً، الكوسة ب8 جنيهات، الطماطم وصلت 7 و 8 جنيهات، كيلو الزيت فى التموين ب10 جنيهات، أما فى المحلات والأسواق عمرى ما اشتريته، كيلو الأرز البلدى 12 جنيهاً، وكيلو الجبنة القريش ب12 جنيهاً، وصينية البطاطس كانت بتتكلف 2 و3 جنيهات دلوقتى 10 جنيهات، الفول تجرى «تدميسه» فى البيت، الطعمية والبطاطس المحمرة استغنينا عنها من أجل توفير الزيت، عايشين على البطاطس المسلوقة والعدس.
..............................؟
- فاكهة.. (!!) أقسم لكى أنها لم تدخل بيتنا. أنا قلت إنى بطبخ مرة فى الأسبوع إن جيتى للحق.. مرة فى الشهر.
..............................؟
- إحنا عايشين على سلع التموين، ونفسى اللحمة والفراخ والسمك ينزلوا على التموين أيضاً عشان نعرف نعيش زى البنى آدمين، ومش عارفين نجوز الصبيان، حتى الشقق اللى منزلاها الحكومة لكبار السن عاجزة عن شرائها لأن إيجارها 360 جنيهاً فى الشهر وأنا راتبى لا يتعدى ال270 جنيهاً، وزوجى ليس له معاش، وعلى الدولة أن تجد حلاً ومخرجاً لكل العاملين بعقود حرام كده، ممكن نعمل 5 أو 6 و 7 سنوات، وفجأة نجد أنفسنا فى الشارع لا معاش ولا مكافأة ولا أى حاجة، شكرتها ودعوت أن ينصلح الحال وقبل أن أغادرها فوجئت بالدموع تنهمر من عينيها.. روحت أسألها من جديد لماذا تبكى؟
فأجابت فى صوت متقطع من شدة البكاء.. «صعبان علىّ نفسى»..
فقلت لها: ارمى حمولك على الله.. وكل شىء سيكون على ما يرام..
قالت: «أنا أجمع ثمن علاجى من الدكاترة فى الهيئة».
عندى تمدد فى الكلى اليمنى وانسداد فى الحالب.. والدواء خارج نطاق التأمين وثمن الحقنة الواحدة 75 جنيهاً..
لم يعد لدى ما أقوله لها.. ربت على كتفيها ودعوت لها..
الشاب "خالد".. لا شقة ولا شبكة ولا عروسة
خالد فتحى.. شاب فى الثلاثين.. يرتدى بدلة وكرافتة.. يضع رجلاً فوق رجل.. يحتسى كوبا من الشاى الثقيل.. وهو يجلس على كرسى خارج شركة استثمارية لحراستها.
شمس مصر حولته إلى اللون الأسمر.. عيناه زائغتان هنا وهناك.. يتابع المارة بلا تركيز.. روتين العمل القاسى يفرض عليه طابع اللامبالاة واليأس فى تفكيره وكلامه.. يتقاضى 1000 جنيه شهرياً.. حاصل على مؤهل متوسط.. لا يفكر فى الزواج نهائيا لأنه ببساطة كما حكى لى المرتب لا يكفى مواصلات وفطار وسجائر يومياً.. ولم يتبق مليم واحد ليدخره أو يشارك به فى جمعية.. فكيف له أن يتزوج؟!
سؤال طرحه وأجاب عنه بعدم اهتمام أو حزن.. شبكة وهدايا وفرح وبيت وعزومات ومصاريف زوجة وآكل وشرب وعلاج وحمل وولادة وأطفال.. وفوق كل ذلك إيجار شقة «تلم» كل الأسرة دى منين؟!!
ثم لوح بيديه ولسان حاله يقول «انسى الدنيا وريح بالك».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.