لم تكد الثورة المصرية الحديثة تشبه، وتبدو دلائل حرية الاعتقاد والتعبير في مصر، حتي سمعنا ورأينا فئات شتى، وآراء متناحرة، بعضها يريد الخير لمصر، وبعضها يموه الباطل بالحق، وبعضها يجهر بما يسعي إليه علانية. وفي مثل هذه الأجواء يجب على كل واحد من أبناء مصر أن يمعن التفكير، ويميز بين الضار والصالح، ويختار لمصر قبل أن يختار لنفسه، لأن مصر هي الباقية له ولعقبه ولغيرهما، ما شاء الله عليه للحياة البقاء. وكان مما سمعته من أفراد أحياناً، وجماعات أحياناً، دعاوي بطمس الفنون، بقتل ما كان، وتحريم ما قد يكون، ولما كانت الفنون متعددة لا يمكن الحديث عنها في مقال واحد، أستأذن القارئ في البدء بالشعر، فن العرب الأشهر والأطول عمراً. واجه الشعر بعد غلبة الإسلام جماعة تعلن أن الإسلام يحرم أو يكره الشعر. ودعمت هذه الجماعة إعلانها بنفي القرآن أن يكون النبي (صلي الله عليه وسلم) شاعراً، أو ينبغي له أن يقول شعراً، ووصمه الشعراء في قوله تعالي (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون) «سورة الشعراء 224 - 226». وأهملت هذه الجماعة الآية 227 التي تلي هذه الآيات مباشرة، وتقول: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا). ودعمت هذه الجماعة إعلانها أيضاً بأن روت أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا». ولكن هذه الجماعة فعلت في الحديث ما فعلته في الآية، إذ أهملت بقيته: «شعرا هُجيت به». وإذن فالنهي لا يقصد به الشعر ولا الهجاء بل المقصود به ما نظمه الكفار في هجاء النبي خاصة. ويحسن بنا ألا نقف هنا، ونذكر أن الشعر كان أحد الأسلحة التي عادي بها النبي كفار العرب، وأنه عليه الصلاة والسلام أعجب بحسان بن ثابت خاصة، ولقبه ب «شاعر النبي» لأن شعره كان أمضي أشعار أنصار النبي وأشدها إيلاماً للكفار. وهذا ما فهمه المسلمون واستمروا يقولون الشعر في عصر النبي وبعده إلي يومنا: أما القول بأن لبيداً اكتفي بالقرآن وأقلع عن نظم الشعر بعد إسلامه، هذا القول الذي أشاعه أمثال هذه الجماعة، فقد عثرنا علي الأدلة اليقينية التي تدل علي بطلانه، وتؤكد أن لبيداً نظم عدة قصائد في رثاء أخيه أربد الذي مات بعد إسلام لبيد، ومازال ديوانه يحوي بعضها، وكان عمر بن الخطاب يعجب بشعر زهير بن أبي سلمي ويحفظه وكثيراً ما يستشهد به. وكان المظنون أن المسلمين سينظمون نوعاً موافقاً للإسلام من الشعر، وقد فعل بعضهم ذاك. ولكن بعضهم الآخر خرج علي ذلك، فقد شاع في عصر صدر الإسلام الغزل بالمرأة، بدأ أولا عذرياً ثم تحول إلي فحش عند عمر بن أبي ربيعة (23 - 93 ه) فالمعرجي (ت. نحو 120) وإلي فاحش عند أمثال حماد عجرد (ت. 191ه وبشار بن برد (95 - 167ه) وإلي شاذ عند أمثال مطيع بن إياس (ت 660)، أمثال ابن سكرة محمد بن عبدالله (ت 385 ه) وابن حجاج حسين بن أحمد (ت 391) يتجاوز كل عرف. وحمت الدولة الشاعر المسيحي الأخطل (19 - 90 ه) الذي هجا أنصار النبي بإيعاز منهم، ثم اشتبك هو والفرزدق (ت 110) وجرير بن عطية (28 - 110) ونحو ستين شاعراً آخر في أفحش قصائد هجاء في العربية وسميت النقائض. وتخطي الأدب المكشوف من الشعر إلي النثر، فشاعت نوادر وطرائف وحكايات منه في كتب المختارات حتي تلك التي ألفها علماء دين مثل رياض الصالحين لابن قيم الجوزية (691 - 751 ه) وكتاب الزهرة لمحمد بن داود الظاهري (255 - 297). وطوق الحمامة لابن حزم (ت 438 ه). فالخلاصة التي لا جدال فيها أن الشعر العربي لم يمنعه أحد في جميع العهود الإسلامية. أخي الناخب: أعط صوتك لمن يصدق في التعبير عن رأيه، وتري أن آراءه تكفل الحياة لمصر. ------ د. حسين نصار الرئيس الأسبق لأكاديمية الفنون