أسوأ مرحلة في تاريخ أي وطن هي عندما يتحول إلى سفينة تعصف بها الأنواء، وبدلاً من أن يتكاتف الركاب لإنقاذها ينصرف همهم إلى النجاة بأنفسهم وذويهم، فيصبح الوطن مرشحاً للهلاك، بدلاً من الوصول إلى بر الأمان، لأن أهله انحسر تفكيرهم في اللحظة الآنية، والمكسب الفوري، ولا ينظرون إلا تحت أرجلهم، وفي ذلك هلكتهم وهلكة الوطن معهم. ولا شك أن مصر تتقاذفها الآن أمواجٌ كثيرة، وأخطارٌ جسيمة، تلهينا عن التفكير في المصير، ليصبح التفكير في المستقبل رفاهية تتعارض مع ما نحن فيه من كرب. لكن الأمر ليس كذلك، ولا يجب أن يكون، فلابد أن نحدد الغاية حتى نختار الطريق، ولابد أن نعرف الميناء حتى نضبط الشراع. ولكن ما الأشرعة التي لدينا لنبلغ غايتنا؟ آفة مصر هي مقوماتها الاقتصادية؛ فمصادر الدخل في مصر لها سمتان مقلقتان: أنها ناضبة، وأنها مريحة. فالسياحة خدمة حساسة تصاب بالعطب عند حدوث أي قلاقل (وما أكثرها في مصرنا وشرقنا!)، وتحويلات المصريين عرضة للجفاف بالعودة الاضطرارية للمصريين (حدث ذلك كثيراً)، و الملاحة في قناة السويس عرضة للتوقف مع أي تهديد بالحرب في المنطقة، وثروتنا من النفط والغاز ناضبة ومحكومة بمدى زمني. هذه الموارد الرئيسية للاقتصاد المصري موارد مريحة، بمعنى أنها لا تحتاج إلى الكثير من الابتكار والتطوير والعناء من أجل التشغيل، هذه السهولة لا تحتاج إلى كثيرٍ من التحدي الذي يؤدي إلى المزيد من النشاط والإنتاج، ولذا تجد أن الدول التي حققت نهضة اقتصادية وتكنولوجية عملاقة لا يعتمد دخلها على مثل تلك الموارد السهلة، بينما انحسر النشاط الاقتصادي في الدول ذات الموارد السهلة والناضبة أيضاً. آن الأوان أن ندرك في مصر أن أشرعتنا تلك لن تصل بنا بعيداً، ولن تصمد طويلاً، إلا إذا جددت وطورت، وأضيف إليها ما يقويها ويقوينا. إذا لم تكن مواردنا الرئيسية الحالية هي مصادر القوة الحقيقية لنا للإبحار إلى المستقبل، فما تلك المصادر إذن؟ الركاب هم أثمن الموجودات على ظهر السفينة، والتكوين الديموجرافي للشعب المصري من أهم مقومات قوته، فنسبة المصريين في سن العمل والإنتاج تمثل أكثر من 50% من السكان، وهي نسبة مرتفعة للغاية إذا قورنت بدول أخرى متقدمة صناعية واقتصاديا، ولكن تلك الدول قلقة على مستقبلها نتيجة انخفاض نسبة القادرين على العمل في خلال العقود القادمة، ولذا تبذل الحكومات في إيطاليا وفرنسا والسويد جهوداً كبيرة للتشجيع على الإنجاب، كما أن اليابان والصين لديهما مشكلة كبيرة نتيجة سياسات تنظيم الأسرة والطفل الواحد لكل عائلة، إذ يتخوف اليابانيون من أنهم سوف يكونون عرضة للإنقراض بعد مائة عام إذا استمر معدل النمو السكاني على وتيرته الحالية، كما أن نسبة كبيرة من القوة العاملة في الصين سوف تغادر سوق العمل في خلال عشرين عاما دون أن تحل محلها نسبة مساوية، ولذا ينظر الاقتصاديون إلى أن الولاياتالمتحدة (ثالث أكبر دولة في الحجم السكاني في العالم بعد الصين والهند) تتميز عن الصين واليابان بالنمو السكاني الذي يؤمن احتياجات النشاط الاقتصادي مستقبلاً، نتيجة قوانين الهجرة التي تتيح تجديد التركيبة السكانية وتضيف قوى منتجة متجددة. أما في مصر فمعدل النمو السكاني يسمح بزيادة الطاقة المنتجة وتجديدها، كما أن معدل سكنى الحضر في ازدياد في مقابل سكنى الريف، وهو من متطلبات التحديث والتحول في النشاط الاقتصادي. ليس هذا فحسب، بل إن التكوين السكاني في مصر فريد من حيث تركيبته، فلا توجد أقليات لغوية، ولاتوجد حركات انفصالية، أو نزاعات عرقية، بما يبدد أي مجهود للتنمية أو يجعلها شديدة التكلفة. كلما تفكرت في هذا الشعب تساءلت مستغرباً: كيف تكون التربة بهذه الخصوبة، ولا نلقي فيها أي بذور؟ كيف تجرأ النظام السابق على خداعنا وتصوير مصدر قوتنا على أنه نقطة ضعفنا والسبب في تراجعنا؟ لا أزال أذكر تصريحاته السمجة ناصحاً الناس: "خفوا رجليكم شوية" في إشارة الى أن الزيادة السكانية تلتهم كل مجهودات التنمية، أو بعبارة أخرى: العيب في الركاب وليس في السائق! إن شعب مصر هو مستقبل مصر، وهو ما يجب أن نستثمر فيه، لأنه الثروة التي لا يمكن أن تنضب، أو تسلب، أو تبور، والاستثمار الذي أعنيه هو التعليم، إن أمة بلا تعليم هي أمة بلا مستقبل. لقد استمعت إلى تجارب أسر مصرية تعيش في أمريكا، ولكن الظروف اضطرتهم إلى إرسال ابنائهم إلى المدارس في مصر لمدة عام أو عامين، وكان التعليق الذي اتفقوا عليه حول التعليم في مصر هو أنك تدفع لتنجح، ولكن لا وجود للتعليم أساساً! وعندما أنظر إلى العالم حولنا ازداد أسى، فهاهم طلاب سنغافورة يحتلون المركز الأول عالميا في اختبارات الرياضيات، وهاهم علماء الرياضيات الروس تنهال عليهم عروض العمل في الشركات الأمريكية والأوروبية، كما أرى الجامعات الصينية والهندية والاسرائيلية والتركية تحتل قمة تصنيف الجامعات في العالم، وأرى 8 جامعات امريكية من ضمن أفضل 10 جامعات في العالم، فأزداد يقيناً من الطريق الذي يجب أن نسلكه في سعينا تجاه المستقبل. إن ما يحدث في مصر الآن مرحلة وليس محطة، وطريق وليس غاية، وأياً كانت نتيجة الصراع وشكل الحكم في مصر، وأياً كانت هوية الربان، فإن ذلك لا يجب أن يلهينا عن الطريق، أو يضلنا عن المرفأ، ليس كافياً أن نختار السائق، ولكن الأهم أن نحدد له إلى أين يسير بنا، نريد أن نكون موجودين في هذا العالم، ولن نحقق ذلك إلى من خلال أهم مواردنا: نحن.