الحديث مع مفكر اقتصادي عالمي بحجم الدكتور حازم الببلاوي وكيل الأمين العام للأمم المتحدة سابقا ومستشار صندوق النقد العربي بأبو ظبي حاليا له أهمية كبيرة في الظروف الدقيقة التي تمر بها مصر .. خاصة عندما نبدأ في تقليب دفاتر النظام السابق لنعرف معا سر فشل مجموعة " لجنة السياسات والحكومة الذكية " في احتواء أزمات الناس . بالإضافة لأسرار معدلات النمو الخادعة التي لم تكن تحقق السعادة للمواطن البسيط وكيف اهتزت دولة القانون في مصر حيث استشري الفساد بصورة ليس لها مثيل .. وما هو السبيل لإعادة بناء مصر من جديد . في تقديرك هل أسقطت ثورة يناير نظرية الحاكم الفرعون الذي يحكم منذ سبعة آلاف عام بصور مختلفة و يملك وحده حق توزيع النهر والخبز كما قال الدكتور جمال حمدان؟ طبعا .. أولا تاريخ مصر يحسب لها لكونها ذات حضارة تضرب بجذورها في التاريخ ولكن سوء حظها أنها من قديم الأزل يتعاقب عليها مجموعة من الأشخاص الأقل كفاءة سواء كان فرعون أو غير فرعون وهؤلاء كانوا دائما أقل رؤية وأقل إخلاصا لها . كما أن خصائص الشعب المصري الفريدة كان من الممكن أن تؤهل دائما لقيام دولة مركزية ذات أدوات هائلة للتقدم لكن كان دائما ينقصها القيادة الأمينة .. أيضا مصر يحكمها تقاليد فرعونية قديمة مثل تأليه الحاكم لكن لا ننسي أيضا أن الشعب المصري له طبيعة مسالمة ويعشق الاستقرار وهذه السمة للأسف أسيء استغلالها مما دفع حكام مصر لأن يستكبروا ويتجبروا في الأرض .. الشعب المصري مشكلته أنه كان دائما أرقي من حكامه فهو شعب مسالم وصبور وراغب في العمل وليس مشاغبا فكان يتوقع أن يستغل الحاكم هذه الصفات من أجل بناء الأمة لكن هذا الحاكم الفرعون أخذ هذه المزايا واعتبرها ضعفا مع العلم أن هذا الشعب يحتاج فقط حكومات جادة ومخلصة كما يحتاج أيضا لقائد أمين وصالح ووقتها سنري الفرق . في تقديرك لماذا اخفقت التجربة المصرية والتي أدارتها ما كانت تعرف ب " مجموعة جمال مبارك الاقتصادية " في الانتقال لاقتصاد السوق .. وهل سيظل النموذج الاشتراكي هو الحل الأمثل لمشكلاتنا؟ لا .. اقتصاد السوق ليس سيئا في حد ذاته فهو يقوم علي قدمين .. سوق قوية وفعالة ودولة قوية تراقب وتضع الضوابط لكي يعمل هذا السوق من أجل الصالح العام وليس من أجل المنفعة الشخصية كما حدث في مصر خلال السنوات الأخيرة وأدي للكارثة حيث حدثت عدة عناصر أساءت لنظام اقتصاد السوق عندنا منها مثلا تحالفه مع الاحتكار وتحيزه للمحاسيب وقضاؤه علي دور الدولة في الرقابة والضبط وكانت المحصلة النهائية لكل ذلك هو الفساد الذي عصف بكل القطاعات . إن اقتصاد السوق كان يجب أن يسير في مساره الطبيعي فهو ليس استبعادا لدور الدولة مثلما حدث . في إحدي مقالاتك تحدثت عن العلاقة بين معدل النمو والسعادة .. كيف تكون العلاقة وثيقة بينهما خاصة أن اقتصاد السوق لا يحقق السعادة إلا لمن يقدر علي دفع ثمن الخدمة؟ معدل النمو لكي يحقق السعادة فإنه يجب أن يقدم الاقتصاد المزيد من الخدمات للمواطن بحيث يشعر بوجود تحسن ولكن ما حدث أن النظام السابق ركز علي الجانب الأمني وأعطي المزايا للمستثمرين بشكل أكبر أما معدل النمو الحقيقي فمن المفروض أن يرتبط بالناس وبحياتهم اليومية . وهذا ما لم يحدث وبالتالي كانت معدلات النمو كاذبة . كيف اهتزت دولة القانون في مصر في عهد مبارك؟ دولة القانون ليست مجرد كلمة أو مصطلح والسلام وإنما لها مظاهر عديدة منها استقلال القضاء بمعني ألا يتعرض هذا القضاء لضغوط أو إغراءات بمزايا معينة .. وللأسف النظام السابق كان من أبرز وسائله في إفساد دولة القانون هو عنصر الإغراء عن طريق منح مزايا معينة للمطيعين والمقربين وحتي من لم يكن يحصل علي هذه المزايا كان يتقرب للنظام من تلقاء نفسه خضوعا لهذه الظاهرة . التي كان مفعولها مثل السحر في التأثير وعلي كل حال يجب أن يتحرر القضاء من كل سلطة مهما كانت في ظل وجود منظومة قانونية لا تعرف الاستثناءات أو الطوارئ التي تضعف دولة القانون ويكمل دولة القانون أيضا الشفافية الكاملة في معرفة ما يتم وما يدور في الكواليس وإن كان هناك أسرار معينة لا ينبغي التوسع فيها فالشفافية ليست مطلوبة لذاتها وإنما هي مقدمة للمساءلة الصارمة من جهات تتولي الرقابة والإشراف وهكذا إذا دارت هذه المنظومة بإخلاص فسوف نكون أمام دولة قانون فعلية تحترم الجميع وتحقق مصالح البلد . ولماذا كان الفساد في مصر منظومة من أول رأس الدولة إلي المحليات .. هل لأن النشاط كان ريعيا فكان الفساد فيها أسهل؟ لأنه ببساطة لم تكن توجد دولة قانون وإنما كنا أمام دولة محاسيب برعت في شراء الذمم كما برعت في استثارة حاسة الطمع لدي البعض ممن تصوروا أنهم في مجتمع بعيد يعيش عند الأمازون . في تقديرك ما السبيل لإحداث نهضة اقتصادية تعيد إلينا الأمل في حياة أفضل؟ مصر لا يوجد أمامها سوي مخرج واحد للنهضة وهذا المخرج هو التصنيع بكفاءة عالية وهو ما تم اغفاله للأسف في عهد النظام السابق فنحن نعيش في بلد فيه ضغط سكاني ومواردنا من الطاقة قليلة وربما تنفد خلال أربعة عقود علي أحسن تقدير وليس عندنا غابات ولا مناجم كافية ولكن الشيء الذي نتميز به هو الموارد البشرية التي يجب أن تتحول لقوي منتجة بتوظيف عناصر التكنولوجيا والصناعات التحويلية وإذا لم يكن لدينا رؤية صناعية بعد ثورة يناير فإن كل ما فعلناه أو ما سنفعله سيكون عمليات ترميم ذات عمر قصير لا أكثر ولا أقل . الكثير من الخبراء يحذرون من تعرض مصر لأزمة اقتصادية نتيجة لكثرة الاحتجاجات الفئوية وتباطؤ حركة السياحة والاستثمار بها .. فما تحليلك لهذا الموقف؟ كل ذلك ينطوي علي مبالغات زائدة علي الحد فنحن نتكلم عن فترة شهر أو شهرين وما حدث هو نوع من أنواع تعطل النشاط الاقتصادي وهو ما يحدث في أي دولة في العالم إما لثورات أو لأحداث طبيعية كالعواصف أو الزلازل ولكن هذا لا يجعلنا نتجاهل الحقيقة وهي أنه حدثت بالفعل خسائر لكنها في نظري تتضاءل أمام قدرتنا علي الإطاحة بنظام سييء لم يكن أبدا في مقدروه أن يمنح مصر دفعة للأمام ومن هنا ليس هناك مانع من تحمل بعض الخسائر . تراجع حصة مصر من مياه النيل بعد توقيع بوروندي علي اتفاقية حوض النيل كيف سيؤثر علي اقتصادنا؟ هذه ليست قضية بسيطة وإنما يجب أن يتم حلها في إطار خطة استراتيجية تعيد وجهنا لإفريقيا بعد أن اعطيناها ظهرنا فنحن بحاجة لمناقشة هذه القضية في إطار القانون الدولي علي مستوي علاقتنا بمنظمة الدول الإفريقية . حضرتك قلت في مرةإن مصر لم تستغل مقوماتها الاقتصادية منذ عهد محمد علي حتي الآن .. كيف ذلك؟ من الناحية الاقتصادية نجد أن مصر في عهد محمد علي كانت تقريبا من أوائل الدول التي بدأت عهدا صناعيا خارج أوروبا حتي قبل اليابان ثم أجهضت هذه المحاولة ثم حدثت محاولة أخري لم تكن قائمة علي التصنيع وإنما كانت قائمة علي التحديث والمدنية وذلك في عهد إسماعيل وكانت موارد مصر في تلك الفترة تعتمد علي أسعار القطن ثم كانت ثورة 1919 ونشوء بنك مصر وبداية ظهور الاقتصاد الوطني والصناعة المحلية حتي أن إسماعيل صدقي فرض ضريبة جمركية لحماية المنتجات المصرية ثم حدثت ثورة يوليو وما تلاها من أحداث وحتي الآن مصر لاتزال عندها مقومات جيدة لكن عليها أولا أن تتخلص من ركام العهد القديم وتنظفه قبل أن تنطلق والنهضة حاليا تحتاج دولة قائمة علي العدالة ونظام تعليمي غير فاسد كالذي نراه الآن فنحن إذن أمام فرصة جيدة ولكننا سنأخذ وقتا حتي نقف علي قدمينا ويكفي أننا تخلصنا من نظام كان قائما علي الفساد والكذب وعدم المساواة وتوريث المناصب . هل من مشروع قومي اقتصادي للنهوض بالوطن من جديد؟ لا أدعي وأقول إن هناك مشروعا اقتصاديا لكن مصر عندها عدة أمور خطيرة فهي أولا تعاني ضغطا سكانيا هائلا حيث سيتضاعف عدد السكان كل 28 سنة تقريبا وبالتالي نحتاج سياسة سكانية غير تقليدية وإلا سننجرف إلي الهاوية أيضا . مصر دولة فقيرة في مواردها الطبيعية والحل زيادة انتاجية المواطن المصري بالتكنولوجيا والتصنيع وهذا يتطلب عمالة مدربة علميا وتقنيا وهناك عنصر مهم وهو العقول المهاجرة خارج الوطن وأنا أقول إن الأمل في خدمة البلد بات قائما وأحد أسباب نهضة الصين أنه كان لديها 50 مليون عالم مهاجر في الدول الأجنبية وهؤلاء عندما كانوا يعودون كانوا يساعدونها علي التقدم بأفكارهم .