الميلاد مع محمد على.. والقفزة مع عبدالناصر.. التراجع مع السادات.. والخوف مع مبارك بدأت الطبقة الوسطى تتكون فى مصر خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر مع بدء النهضة المصرية فى عهد محمد على، وهو ما تزامن مع تغير الظروف السياسية والاقتصادية، وتحول الملكيات من الزراعية إلى الفردية، وكان أغلب المنتمين للطبقة الوسطى، فى بدايتها من كبار التجار وملاك الأراضى، ثم انضم إليهم الملتحقون بالجيش المصرى، وكانت هذه الطبقة تولى التعليم والتعلم أهمية كبرى، ولهذا كانت حريصة على أن تلحق أبناءها بالمدارس التى أقامها محمد على. ولعبت تلك الطبقة دوراً كبيراً فى مسيرة الحركة الوطنية المصرية فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية منذ أواخر العشرينات من القرن الماضى، فكانت هى وقود كل الثورات المصرية منذ 1919، وحتى ثورة 1952، وكان أغلب هذه الطبقة يعيش حياة أقرب إلى الثراء، فكان لكل منهم فى منزله خدم وخادمات، ولكل أسرة مصيفها السنوى داخل مصر أو خارجها، وفى ميزانيتها مخصصات ليست قليلة، لشراء الكتب وللذهاب إلى السينما والمسرح. وخلال النصف الثانى من القرن الماضى، تسببت مجانية التعليم، والتحاق أبناء الطبقات الدنيا بالكليات العسكرية، وقرارات الإصلاح الزراعى، والتوسيع الصناعى الذى شهدته مصر فى الستينات.. أدى ذلك كله إلى زيادة هائلة فى عدد الطبقة الوسطى، وكان قوامها الأساسى من موظفى الحكومة. وشهدت السبعينات حالة حراك اجتماعى كبير، بسبب تنامى الفكر الرأسمالى وانفتاح الاقتصاد المحلى على العالم الخارجى، وسفر البعض إلى دول الخليج النفطية مما أدى إلى التوسع فى الميل للاستهلاك وتنامى ظاهرة تقليد الغرب فى أنماط الإنفاق المختلفة، ومن هنا بدأ تغير كبير يطرأ على القيم الحاكمة لأبناء الطبقة الوسطى. ويجمع الخبراء على أن الطبقة الوسطى بدأت تنهار عقب الانفتاح الاقتصادى وبدء الحكومة فى رفع الدعم عن السلع عام 1977 استجابة لشروط صندوق النقد الدولى فارتفعت أسعار السلع الأساسية، واندلعت مظاهرات الغضب، وكان شعارها «أين الفطور يا بطل العبور» ووقتها تراجع السادات عن رفع أسعار السلع، ولكن سياسته ظلت تتجه إلى الانفتاح الاستهلاكى، مما زرع فى ملايين المصريين شراهة استهلاكية، وهو النبت الذى شب بسرعة فى الأراضى المصرية، وجذب ملايين المصريين خلال سنوات قليلة. فى كتابه «الطبقة الوسطى والتغير الاجتماعى فى مصر» يؤكد الدكتور أحمد حسين حسن أن الطبقة التى تمثلها شرائح الفنيين والعلميين والإداريين زادت أحجامها بشكل كبير منذ منتصف السبعينات وحتى السنوات الأولى من القرن الحالى، فى حين انخفضت القاعدة، الأحجام النسبية لأصحاب الأعمال الكتابية والعاملين فى مجال الخدمات، وهو ما يدعم القول بحدوث عمليات فرز وإحلال داخل التكوين الطبقى للمواقع الوسطى على حساب الشرائح الدنيا (ذات التعليم المتوسط ودون المتوسط والعمالة المكتبية من صغار الموظفين فى أجهزة الدولة) وهى الشرائح التى يتواضع مستوى تعليمهم ولم يحققوا مهارات أو خبرات تلحقهم بفرص عمل أفضل، ومن ثم تتراجع إمكانية حراكهم لصالح الشرائح ذات التعليم العالى والمهارات الفنية والإدارية الأفضل التى يحتاجها فعليا سوق العمل لا سيما مع التوسع النسبى للمشروعات الخاصة الصغيرة والمتوسطة. ويقول الباحث «حدث تراجع واضح فى حجم شريحة أصحاب الأعمال الذين يعملون لحسابهم الخاص وليس لدى الغير، وهو التراجع الذى صب فى خانة الزيادة فى الحجم النسبى للعاملين بأجر فى مؤسسات الدولة أو فى القطاع الخاص المنظم وغير المنظم على السواء. وكأن هذا السحب كان من نصيب الذين يعملون بشكل مستقل، وأصحاب المشروعات الإنتاجية والخدمية الصغيرة والمتوسطة، ليضافوا إلى نصيب العاملين الأجراء من أبناء المواقع الوسطى، وهى الشريحة التى زادت من 10.5% فى منتصف السبعينات لتبلغ 33.1% فى السنوات الأولى من القرن الحالى. وهو موقف له دلالته حيث يعنى عدم جرأة أبناء المواقع الوسطى (موظفون وتجار ومهنيون وتكنوقراط وغيرهم) على العمل المستقل خوفا من ضراوة منافسة المشروعات الاحتكارية، كما أن غلبة العاملين بأجر نقدى لدى الغير من المواقع الوسطى يدلل على مزيد من التراجع فى مفردات وعيهم الطبقى، فأصحاب الرواتب من المواقع الوسطى يقتربون بشكل أكبر من العمالة الأجيرة فى مواقعهم فى علاقات إنتاجهم وملكيتهم من علاقات السوق، وكذا من حيث حيازة السلطة وممارستها وحيازة الاستقلال فى العمل، ودرجة الخضوع للاستغلال، وهذه كلها معايير من المفترض أنها محددات أصيلة للموقع الطبقى المتوسط على وجه الخصوص. وأكد الباحث أن المستوى الإجمالى لكل المواقع الوسطى شهد على مدار السنوات العشر الفاصلة بين عامى 1996 2006 تراجعاً شديداً فى الحجم الكلى للطبقة الوسطى وفى حجمها النسبى الإجمالى لقوة العمل مقارنة بالموقع العمالى، فرغم تضاعف الحجم الإجمالى لهذه الطبقة خلال عشرين عاما من 31% إلى 61% فيما بين 1976 و1996 تراجع بمقدار 20% خلال السنوات العشر الأخيرة.