التعليم مبادرة "النيل الدولية" تلبي احتياجات الطلاب بالمراحل التعليمية المختلفة    من هو إبراهيم العرجاني؟    «سيدا»: مصر ستصبح رائدة في إنتاج الهيدروجين الأخضر بسبب موقعها الجغرافي    مسئول بغرفة الجيزة التجارية: الدواجن المجمدة أرخص سعرا وآمنة صحيا أكثر من الحية    وزير الإسكان: قطاع التخطيط يُعد حجر الزاوية لإقامة المشروعات وتحديد برامج التنمية بالمدن الجديدة    «سلامة الغذاء»: تنفيذ 17 مأمورية رقابية على فروع منشآت السلاسل التجارية    النائب مصطفى سالم: مصر تستعيد ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    تطبيق قانون التصالح في مخالفات البناء من الثلاثاء.. وتلقي الطلبات حتى 6 أشهر    قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل 25 فلسطينيا بينهم فتاة وأطفال من الضفة الغربية    قاضٍ مصرى: نتنياهو يستخدم الدين لمحو فلسطين ويدمر 215 مسجدًا وكنيسة    الجيش الأوكراني يعلن مقتل وإصابة أكثر من 474 ألف جندي روسي منذ بداية الحرب    بعد احتفال علي معلول بارتدائها مع الأهلي.. ما شارة القيادة؟    وزارة الرياضة تكلف لجنة للتفتيش على نادي الطيران    صباح الكورة.. غياب صخرة البايرن عن موقعة الريال وميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع انتر ميامي    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    «الأرصاد» تحذر من رياح مثيرة للرمال والأتربة على القاهرة وبعض المحافظات    رفع حالة الطوارئ بمستشفيات بنها الجامعية لاستقبال أعياد الربيع    مواصفات امتحانات الصف الرابع الابتدائي الترم الثاني.. اعرف أهم الأسئلة    «جوزها اتفق مع صديقه لاغتصابها».. تأجيل نظر طعون قاتلي شهيدة الشرف بالدقهلية على حكم إعدامهم    بعد انفصال شقيقه عن هنا الزاهد.. كريم فهمي: «أنا وزوجتي مش السبب»    بالتزامن مع ذكرى وفاته.. محطات في حياة الطبلاوي    منسق جناح الأزهر بمعرض أبوظبي: نشارك بإصدارات تكافح التطرف والعنصرية وتعزز حب الوطن    الليلة.. أمسية " زيارة إلى قاهرة نجيب محفوظ.. بين الروائي والتسجيلي" بمركز الإبداع    رئيس هيئة الرعاية الصحية يبحث تعزيز التعاون مع ممثل «يونيسف في مصر» لتدريب الكوادر    صحة المنيا: انتشار الفرق الطبية والعيادات المتنقلة أثناء الاحتفال بعيد القيامة وشم النسيم    «لو مبتاكلش الفسيخ والرنجة».. 5 أطعمة بديلة يمكن تناولها في شم النسيم    «الداخلية» تنظم حملة للتبرع بالدم في جنوب سيناء    همت سلامة: الرئيس السيسي لا يفرق بين مسلم ومسيحي ويتحدث دائماً عن كوننا مصريين    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الإثنين 6-5-2024، السرطان والأسد والعذراء    في يومه العالمي، الضحك يساعد على تخفيف التوتر النفسي (فيديو)    حسام عاشور: رفضت الانضمام للزمالك.. ورمضان صبحي "نفسه يرجع" الأهلي    العثور على جثة عامل ملقاة في مصرف مياه بالقناطر الخيرية.. أمن القليوبية يكشف التفاصيل    فاينانشال تايمز: الاتحاد الأوروبي يضغط لاستبعاد قطاع الزراعة من النزاعات التجارية مع الصين    أخبار الأهلي: شوبير يكشف عن تحديد أول الراحلين عن الأهلي في الصيف    وزير المالية: 3.5 مليار جنيه لدعم الكهرباء وشركات المياه و657 مليون ل«المزارعين»    ضبط دهون لحوم بلدية غير صالحة للاستهلاك الآدمي في البحيرة    وفاة كهربائي صعقه التيار بسوهاج    رئيس الوزراء الياباني: ليس هناك خطط لحل البرلمان    قصف مدفعي إسرائيلي على الحدود اللبنانية    مختار مختار يطالب بإراحة نجوم الأهلي قبل مواجهة الترجي    «شوبير» يكشف حقيقة رفض الشناوي المشاركة مع الأهلي    يصل إلى 50 شهاباً في السماء.. «الجمعية الفلكية» تعلن موعد ذروة «إيتا الدلويات 2024» (تفاصيل)    يعود لعصر الفراعنة.. خبير آثار: «شم النسيم» أقدم عيد شعبي في مصر    سرب الوطنية والكرامة    رئيس جامعة بنها: تلقينا 3149 شكوى وفحص 99.43% منها    وزير التنمية المحلية يهنئ البابا تواضروس الثاني بعيد القيامة المجيد    البابا تواضروس خلال قداس عيد القيامة: الوطن أغلى ما عند الإنسان (صور)    ارتفاع أسعار الدواجن اليوم الأحد في الأسواق (موقع رسمي)    المديريات تحدد حالات وضوابط الاعتذار عن المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية    أثناء حضوره القداس بالكاتدرائية المرقسية.. يمامة يهنئ البابا تواضروس بعيد القيامة المجيد    إنقاذ العالقين فوق أسطح المباني في البرازيل بسبب الفيضانات|فيديو    كريم فهمي: مكنتش متخيل أن أمي ممكن تتزوج مرة تانية    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماضى توفيق الدقن: عندما مات محمود المليجى قال: أشم رائحة الرحيل
نشر في الوفد يوم 06 - 08 - 2016


- ستوب!
- من الأول يا أستاذ، والأساتذة هنا هما الفنان القدير «محمود المليجى»، وأمامه الفنان الصاعد الواعد «توفيق الدقن»، والمشهد من فيلم «أموال اليتامى» بطولة الراحلة سيدة الشاشة العربية «فاتن حمامة».
من الأول يا أساتذة، أرجوك «ركز» فى الدور يا أستاذ «توفيق»، وتدور الكاميرا، مرة واثنين، وثالثة، والمخرج غير راضٍ عن أداء «الدقن» أمام العملاق محمود المليجى، وفى هذه اللحظة - بإحساس الفنان وخبرة السنين - يدرك «المليجى» أن هناك شيئًا ما «يؤرق» الدقن، ويجعله متوترًا أكثر من اللازم، وبالتالى لا يؤدى المشهد بالصورة التى يجب أن يكون عليها!
وهنا يأخذ «المليجى» دور المخرج ويطلب راحة للغداء، حتى ينفرد «بالدقن» ويعرف سر ارتباكه المتواصل أمامه.. وما توقعه وجده!
فى حجرة «المليجى» جلس «الدقن» يحكى ويقول: سبب ارتباكى أمامك هو انت، وقبل أن يسأل المليجى يكمل الدقن قائلاً «يا أستاذ محمود عليك أن تعلم أن والدتى هى التى وقفت بجوارى حتى أعمل بالتمثيل، أبى كان رافضًا أن أمتهن هذه المهنة، كان يريد أن أكون أزهريًا مثله. لكن والدتى ساعدتنى، ووقفت بجوارى، وكان لها شرط وحيد لكى تدعمنى، وتواصل الوقوف بجوارى، سأله محمود المليجى.. وما هو هذا الشرط؟ قال: أن أكون مثل محمود المليجي! بس كده..
اعتبر نفسك يا راجل محمود المليجى نفسه.. هيا بنا نكمل المشهد.. وبالفعل جاء المشهد، وكأنه مباراة فى التمثيل بين نجمين يصعب تكرارهما فى الفن المصرى.. ليظلاً معًا نجمين فى التمثيل.. وصديقين فى الواقع!
- «أحلى من الشرف مفيش»!
جملة تعد علامة من علامات الجمل الحوارية فى السينما المصرية، تجدها مكتوبة وأنت تسير فى الشوارع على زجاج سيارات الميكروباص، وعلى خلفية «التوك توك» فى مصر المحروسة، وهى جملة بألف جملة، وفيها معنى بألف معنى، ورسالة بألف رسالة، وهى - وغيرها من الجمل الشهيرة - إبداع «نحته» الدقن، وتعد إبداعًا فى حد ذاته، ورسالة ضمن رسائل بعث بها هذا الفنان للمجتمع، تذكرهم بأن «الشرف» ليس كلمة تقال، ولكنه منهج حياة، الوطنية شرف، والكلمة شرف، والإبداع شرف، حتى الخصومة فيها أيضًا شرف.
«توفيق الدقن» لم يكن فنانًا.. كان فيلسوفًا، شخصًا، وحدد، وأشار إلى نقاط الضعف التى من الممكن أن تكون سببًا فى ضياع الأمم، وأخطر هذه النقاط هو انهيار الأخلاق.. فيصبح الشرف سلعة تباع، رغم أنه - أى الشرف - على حد وصف «الدقن» - أحلى منه مفيش - غير أن الكثير منا فى هذا الزمان ليس له فى «الحلو نصيب»!
لماذا «توفيق الدقن» فى سلسلة حوارات «أبى.. الذى لا يعرفه أحد»، سؤال وجدته يطاردنى، أثناء الإعداد للحوار؟ هل لأنه كان نموذجًا متميزًا للشرير الجميل؟ وللانتهازى النبيل، وللبلطجى المهذب؟ فى زمن أصبح فيه الشر قبيحًا، والانتهازية سفالة والبلطجة - على طريقة فن محمد رمضان - قبحًا وانحطاطًا.. هل من أجل ذلك دارت أفكارى، واتجهت نحو «الدقن»؟ ممكن!
اتصلت بابنه «ماضى» - يعمل محاميًا وموسيقيًا - حتى أعود معه إلى زمن وعالم أبيه، إلى مكتبه بوسط البلد وصلت فى الموعد المحدد بيننا، انتظرت بعض الوقت، قدم لى موظف مكتبه «فنجان شاى» وقال: الأستاذ عنده «قضية» وأمامه خمس دقائق بالضبط، ويكون معاك، بعد دقائق خرج من مكتبه، بعدما انصرف أصحاب «القضية» وعلى وجهه ابتسامة، قلت: «استر يا للى بتستر» على رأيى الراحل الأستاذ توفيق، فرد وهو يضحك قبل أن نجلس معًا للحوار قائلاً: «صلاة النبى أحسن»! قالها ونحن ننظر معًا لصورة بجواره لأبيه بالأبيض والأسود.. من أيام الزمن الجميل، ونظرة عيون «الدقن» فى الصورة ترسل لنا بالحروف كلمات ليست كالكلمات يقول فيها: «يا آه.. يا آه.. آلوه يا أمم.. آلوه يا أمم» لكن لا أحد فى «الأمم» يجيب!
قلت للابن: من اختار اسمك؟ قال: أبى.. هو الذى اختار الاسم، واسم «ماضى» هو يعنى فى اللغة «السيف القاطع»، ومن ناحية أخرى، هذا الاسم كان يحمله «جدى لأمى» وشاء القدر أن يموت جدى قبل ميلادى، فحزنت أمى حزنًا شديدًا لفراقه، فأراد أبى أن «يفرح» قلبها، فأطلق اسمى، حتى أكون امتدادًا له، ثم قال وهو يضحك ويكفى أن اسمى أصبح «ماضى توفيق الدقن» فقلت: وما أجمله من ماضي!
اسمه توفيق أمين محمد الدقن، ولد فى 3 مايو 1924م فى قرية «هورين» مركز «بركة السبع» محافظة المنوفية، ثم انتقل مع والده إلى محافظة المنيا، عشق الفن منذ طفولته، التحق بالدفعة الثانية فى معهد التمثيل عام 1947 ضمن عمالقة التمثيل «صلاح منصور وعبدالمنعم مدبولى وسعد أردش وزهرة العلا». بدأ حياته الفنية بدور صغير «كومبارس» دور فلاح صغير ثم بعدها شارك فى فيلم «ظهور الإسلام» مع الراحل فريد شوقى 1951. وافته المنية يوم 26 نوفمبر 1988.
عدت إلى الابن وقلت له: ماذا أخذت من أبيك؟
أخذت منه الجدية فى العمل، والإصرار على النجاح، وأن تكون شخصية مؤثرة، في المحيط الذى تعمل فيه، قلت: أنت "محامى".. فهل هو الذى اختر لك ذلك؟ قال: نعم.. هو.. الذى اختار أن يكون لى مهنة، أبى بذكائه الفطرى كان يدرك أن الفن لوحده، إذا كنت تتحدث عن فن أصيل، هذا الفن لن يكفيك، ولن يجعلك تعيش حياة «مستورة»، لذلك كان حريصًا على أن تكون لنا مهنة أخرى غير الفن، إذا أردنا أن نعمل فى الفن يوم ما، قلت: ألم يكن آمنًا على حياته وحياة أسرته المعيشية فى ظل التمثيل فقط؟ قال: نعم.. التجربة علمته، أن الفن فى حد ذاته لن يجعلك تأكل وتشرب وتلبس وتعلم أولادك بالصورة التى تليق بك، وهو كان يعانى من ازدواجية الفن، فالفن أحيانًا - بسبب سلوك البعض فيه - قد يعطى لمن لا يستحق ما لا يستحقه، وفى نفس الوقت يسحب ممن يستحق ما يستحقه. وأنا كان لديّ ميول ناحية الموسيقى وقلت له ذلك، قال: الفن يأتى بعدما يكون لك مهنة تعيش من دخلها، وهو الذى اختار لى مهنة المحاماة وكان رأيه أننى فى هذه المهنة سوف أستطيع أن يكون لى دور مؤثر فى محيط الحياة. قلت: والموسيقى ماذا فعلت بها؟ أو بمعنى أدق ماذا فعلت بك.. رد قائلاً: هذه حكاية أخرى.
تعلمت من الحياة ودرست فنونها، بالقدر الذى أعطانى القدرة على ترجمة ذلك فى الفن، كان هذا رد الفنان الراحل توفيق الدقن على سؤال طرحه عليه الكاتب الراحل محمود السعدنى فى حوار سجله معه للإذاعة يومها سأله «السعدنى»: هل أنت راضٍ عما قدمت من أدوار الشر؟ قال: لا.. لم أكن راضيًا عن أغلب هذه الأدوار، لكن الظروف أجبرتنى على تمثيل أدوار ما كنت أحب أن أقدمها، سأله «السعدنى»: ولماذا تقبل تأدية أدوار غير راضٍ عنها؟ قال: وأعيش منين؟ أنا راتبى - كموظف بدرجة فنان - فى المسرح القومى لا يتبقى لى منه بعد الضرائب والدمغة والمواصلات والسجائر إلا 20 جنيهًا فقط، فهل هذا المبلغ يكفى حتى تعيش به أسرتى.
الحياة كانت قاسية بعض الشىء عليه فى بداية حياته، هكذا يقول الابن «ماضى»، الأب ينتقل لظروف عمله من المنوفية إلى المنيا ثم فجأة يرحل أباه، فيجد نفسه فى سن مبكرة مطلوب منه أن يعمل مهنة يكسب منها قوت يومه حتى يستطيع أن يصرف على أخواته الذين أصبحوا اليوم أمانة بعد رحيل أبيه، فى نفس الوقت ما زال التمثيل حلم حياته يداعبه فى خياله ويقلق منامه ومن حسن حظه كانت والدته هى السند له سواء على الحياة العادية أو سنده حتى فى حلمه بالتمثيل، واستطاع بثقته فى نفسه وبالذكاء الفطرى الذى كان يتمتع به أن يحقق لنفسه المعادلة الصعبة وينجح فى حياته العامة، وحياته الفنية، ثم فجأة ماتت أمه وكان رحيلها صدمة عنيفة عليه، وأمى قالت لى إنه عندما علم بنبأ رحيلها كان يجرى فى الشوارع غير مدرك بنفسه وغير مقتنع أن أمه أحب إنسان إلى قلبه ماتت، لكن والدتى استطاعت أن تكون له أمًا وزوجة وفرغته لفنه واحتوت الفنان بداخله حتى يعمل وينجح ويبدع، وينحت للفن جملاً وكلمات ما زالت عالقة فى أذهان الناس مثل: «أحلى من الشرف مفيش، العلبة دى فيها إيه؟، يا عينى على الصبر، آلو يا همبكة».
فى منتصف السبعينيات خرج علينا الشيخ الراحل عبدالحميد كشك مهاجمًا الفنان توفيق الدقن قائلاً: «اللغة السيئة التى تجتاح الشارع اليوم واللى تودى فى داهية.. اللغة بتاعة توفيق الدقن.. اللى بوظت أخلاق عيالنا». هكذا قال الراحل عبدالحميد كشك، رغم أن فن توفيق الدقن، هو فن فيه مضمون، وله معنى وجمله، التى كان يقولها ولغته التى كان يخاطب أسماعنا بها عندما نضعها اليوم بجوار ما يعرضه الفن سنجدها قمة فى الرقى، والتحضر وفى إيقاظ الوعى، فالرجل كان يحذرنا من غياب الشرف والضمير، ونحن لم نستمع، كان يقدم لنا أدوار الشر وكأنها فن ودرس وعلم فى حد ذاتها.
هذا الفن هو الذى جعل قامة ثقافية مثل نعمان عاشور يختاره هو ليجرى معه حوارًا إذاعيًا عام 1972 لبرنامج بعنوان «ريبورتاج مع النجوم» معتبرًا وقتها أن الفنان الذى يستحق أن يحاوره نعمان عاشور هو فقط توفيق الدقن. هذا هو توفيق الدقن الذى عمل 5 شهور فى معمل ألبان. وسنوات كاتب فى نيابات المنيا، ثم أكثر من 10 سنوات موظفًا فى السكة الحديد حتى يستطيع أن يعيش وتعيش أسرته بشرف.. وب«لقمة حلال» قبل أن يحترف الفن صورة كاملة.
قلت للابن: هل تذكر أيامه الأخيرة قبل الرحيل.. قال: كان عمرى 27 سنة يوم رحيله، وقبلها كان أصابه المرض بعض الوقت وهذا على المستوى الجسدى، أما على المستوى النفسى، فكان رحيل أصدقاء العمر محمود المليجى ورشدى أباظة وعبدالمنعم إبراهيم، سببًا فى حالة إحباط أصابته، ووقتها بدأت أسمعه يقول: يا ماضى يا ابنى.. خلاص.. أنا شامم رائحة الرحيل قادمة! ثم مات وأنا فى أشد الاحتياج له، مات وأنا فى بداية حياتى العملية، وكان نفسى يكون معى بعض الوقت، ليعيش فرحته بى، وبأخواتى هالة وفخر. قلت له: هل كان له طريقة معينة فى تربية أولاده؟ يقول: علمنا دون أن يفرض علينا رأيه. وقام بتربيتنا دون أن يضرب حد منا، أو يكون معنا عنيفًا. ترك لنا حرية الاختيار، وساعدنا فى أن نخرج بقدر معقول من الثقافة والثقة بالنفس والاجتهاد فى العمل، فأنا مثلاً أشعر أننى لم آت للحياة لإضاعة الوقت، فالحياة اجتهاد وليست «هزارًا» كما يتصور البعض.
36 جنيهًا هى ما يتبقى لى من راتب المسرح القومى فى الشهر.. ومطلوب منى أن أعيش وأعلم أولادى وأهتم بحياتى العائلية، وأدفع إيجار مسكنى، وأدفع أجرة التاكسى من بيتى فى العباسية حتى المسرح كل ليلة، وأدفع للميكانيكى أجرة إصلاح السيارة التى تمشى يوم وتركن يوم آخر.. هذا حال توفيق الدقن يا أستاذ وجدى. كان هذا هو جزء من برنامج إذاعى شهير اسمه «منتهى الصراحة» قدمه فى السبعينات الراحل وجدى الحكيم.. وكان ضيفه وقتها القدير توفيق الدقن. توفيق الدقن عبقرى التمثيل الذى قدم للمسرح القومى وجميع مسارح الدولة عشرات المسرحيات التى كانت تهدف إلى إيقاظ الوعى وتنقية الفساد الفكرى، وبث أفكار تنويرية وثقافية. هذا الفنان أو هذا المبدع.. كان دخله الشهرى لا يتعدى ال50 جنيهًا، وكانت سيارته «تمشى» يومًا و«تركن» عند الميكانيكى يومًا آخر، ورغم ذلك قدم فنًا يرتقى بالذوق العام، قدم فنًا يصنع أمة، ولم يقدم فنًا يهدم الأخلاق ولا يهدم الذوق ولا يهدم ما تبقى من الأمة مثلما نرى اليوم. فنان عاش ومات وهو على يقين بأن ما ينفع الناس هو الذى يمكث فى الأرض.
عدت للابن وسألته: هل الجمل التى عرفناها عنه، واتحفرت فى وجدان الناس بعده، هل هى من عنده هو؟ أم أنها كانت توضع له فى السيناريو؟
قال: لا.. هذه من أفكاره هو، وملكيتها الفكرية، له هو. أبى كان فنانًا بنى مقوماته الفنية بالقراءة والثقافة، والأعمال المسرحية التى قدمها خاصة المترجمة منها أصقلت فكره، وبلورت ثقافته، وصنعت بداخله حالة «مزاجية» وفكرية معينة نتج عنها تلك الجمل التى هى فى حد ذاتها حكاية «لوحدها»! ونحن الآن –أو الدولة- فى طريقها لإقرار تشريع قانونى يحفظ للفنانين حق الأداء العلنى، لأن هذا الحق لم يكن متاحًا إلا للمنتج فقط، أما الفنان فلم يكن له أى حقوق.
قلت له: حدثنا عنه فى المنزل.. كيف كان يقضى يومه؟ قال: إذا لم يكن عنده شغل.. كان يقضى اليوم فى البيت وغالبًا كانت القراءة هى هوايته المصاحبة معه. قبل ذلك فى مرحلة الشباب كان يلعب كرة القدم والبوكس فى نادى السكة الحديد فى شبابه طبعًا. فى البيت تجده هادئًا، لا يرفع صوته، وإذا طلب شيئًا، فطلبه يكون بهدوء ودون ضجيج، وكان خجولاً جدًا أمام الناس.
ويخجل من السلام على الناس بمن فيهم الجيران.. وأحيانًا كنت أسأله وأقول له: ربما الناس تعتقد أنك «متكبر» عليهم.. فلماذا لا تسلم؟
فكان يضحك ويقول: أنت تعتقد حد فيهم هيعرفنى.. ده فيهم ناس لا تعرف ربنا.. تفتكر هيعرفوا توفيق الدقن؟! ثم يكمل كلامه الضاحك قائلاً: يا راجل خليها ع الله..!
قلت له: هل كان حزينًا من الفن فى أيامه الأخيرة قبل الرحيل؟ قال الابن ماضى وهو ينظر إلى سقف الحجرة التى نجلس فيها وكأنه يتذكر لحظات قاسية رآها بعينيه ثم قال: نعم.. قبل رحيله بفترة قام بالاشتراك فى فيلم «وداد الغازية» وكان معه الفنان محمود ياسين وكان المتفق عليه فى العقد أن يكتب اسمه بالاشتراك مع الفنان القدير.. لكن المخرج طبع الأفيش ووضع اسمه بشكل لا يليق بتاريخ وإبداع وفن الدقن. وعندما رآه تأثر جدًا، وشعر بحزن شديد، وقتها -وكنت فى شبابى- قلت له ارفع قضية عليهم. رفض وقال: الجمهور هيدخل الفيلم.. ويعرف أنا فين؟.. ثم قال: المهم أن تكون فى قلوب المشاهد وليس على أفيش الفيلم. قلت له وأنا أجمع أوراقى وأستعد للمغادرة: إذا ما أردت أن ترسل له رسالة.. ماذا تقول له؟ قال: أقول له.. ما قدمته للناس من فن وإبداع ما زال مثل النهر يجرى. ومن عاندوك وأحزنوك، وحاولوا تجهيل تاريخك لم يبق منهم شىء. قال أقول له.. يا أيها الأب الجميل.. يوم رحيلك من 30 سنة يعيش معى حتى الآن.
لا أنسى هذا اليوم ولا تلك اللحظات.. كم كانت قاسية ومؤلمة على نفسى، لكنها سنة الحياة. أقول له: المخرج الذى رفض أن يضع اسمك على الأفيش بالشكل اللائق لتاريخك وفنك.. هذا المخرج انتهى تاريخه وفنه بالسجن! فلا تحزن الأيام دول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.