«ومش باقى منى غير شوية دمّ متلوثين بالهَمّ.. مُرين وفيهم سِمّ».. كلمات عبر بها الشاعر جمال بخيت عن حال الشقيانين فى المحروسة، ولكنها أكثر تعبيرًا عن آلاف العاملين بمنطقة مصانع عرب أبوساعد، بدونهم لن يفتتح الرئيس عبدالفتاح السيسى المشروعات، بدونهم لن يبنى مستشفيات تعالج أمراض أهالينا، بدونهم لن يبنى مدارس لتعليم أولادنا، بدونهم لا يستطيع الوزراء وكبار رجال الدولة ونواب مجلس الشعب أن يبنوا قصورًا وفيلات فارهة يقيمون فيها، عمال مصانع الطوب بدونهم تعود بنا الحياة لعصر البناء بالطين. مشاكل متعددة تشكو منها مصانع الطوب الطفلى بمنطقة عرب أبوساعد الحائرة بين مدينتى الصف وحلوان التابعة لمحافظة الجيزة، مما انعكس بالسلب على العمل داخل غالبية المصانع، التى يزيد عددها على 1200 مصنع، وتقدم لسوق الإسكان فى مصر نحو 80% من احتياجات الطوب سنويًا، ويعمل فيها ما يزيد على ربع مليون عامل من محافظات مصر المختلفة. ولذلك بدأ أصحاب المصانع فى تسريح العمالة، وغلق أبوابها أمام العاملين، لعدد من الأسباب من أهمها: «رفع الدعم عن المواد البترولية التى تعتبر العمود الفقرى الذى تقوم عليها مصانع الطوب، وارتفاع سعر الدولار». فى عام 2003 طالبت الحكومة من أصحاب مصانع الطوب بتحويل مصانعهم من استخدام المازوت، والمتسببة فى العديد من العوادم التى تضر البيئة، إلى استخدام الغاز الطبيعى المعروف بالطاقة النظيفة صديقة البيئة، وبالفعل استجاب عدد من أصحاب المصانع لطلب الحكومة، واكتمل المشروع فى بداية عام 2013، إلا أن سعر الدولار قفز من 2 دولار إلى 5 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، وهو ما أدى لخسائر كبيرة لأصحاب هذه المصانع، واضطر أغلبهم للغلق وتشريد العمالة، أما الآن وبعد زيادة سعر الدولار أغلق أغلب المصانع التى تعمل بالغاز الطبيعى، ولم يتبق منها سوء القليل الذي أيضاً يعاني من تخفيف ضخ الغاز الطبيعى إلى معدلات تعيق العملية الإنتاجية، مما أجبر المصانع على العمل ب25% من طاقتها الإنتاجية، مع استمرار باقى المصانع التى تعمل بالمازوت. وكأن المشاكل البيئية التى تعانى منها المنطقة غير كافية، حتى يزيد سوء التنظيم الإدارى، والقرارات المتضاربة، من مأساة العاملين، وإهمال المسئولين لهم، من قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير حتى الآن، على أى حال إذا كنت تزور مصانع الطوب الطفلى بمنطقة عرب أبوساعد للمرة الأولى، فإنك بالتأكيد ستصاب بحالة من الكآبة الشديدة، مصحوبة بنوبة من السعال، بفعل مئات المداخن التى تحيط بالمنطقة، والتى تطلق سمومها فى سماء أبوساعد الرمادية يوميًا. يعتبر العمل فى مصانع الطوب مهنة الغلابة بمصر، حيث إن كل من لم يتعلم مهنة فى الحياة، يستطيع بسهولة إيجاد فرصة عمل داخل هذه المصانع، وذلك لكونها بها أشكال من الأعمال لا تحتاج إلى خبرة أو حرفة، ولكن يجب أن تعلم عند دخولك هذه المنطقة أنك سوف تصاب بعدد من الأمراض منها: «الفشل الكلوى والصدر والربو والحساسية»، إلى جانب «كوكتيل» من الأمراض التى تقتل على مهل وبلا شفقة. هؤلاء العمال الذين لا سند لهم فى الدنيا إلا صحتهم التى وهبها الله عز وجل لهم، تحاصرهم الأمراض من جميع الجهات، سواء كان الهواء الذى يتنفسه، أو حتى مياه الشرب لم تجد إلا مياه الترع المليئة بالملوثات وتلال القمامة وفضلات الماشية، وإذا قرر العمال أن يتناولوا طعاماً لن يجد إلا فاكهة ترويها مياه الصرف الصحى، علاوة على عمل البعض منهم داخل أفران الطوب التى ترتفع درجة حرارتها على 3000 درجة مئوية. «يعد طفلاً كل من لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، ويحظر تشغيل الطفل قبل تجاوزه سن إتمام التعليم الأساسى، كما يحظر تشغيله فى الأعمال التى تعرضه للخطر».. المادة رقم 80 المتعلقة بعمالة الأطفال بالدستور المصرى لعام 2014، ولكن فى الواقع جميع القوانين الخاصة بالأطفال سوف تجد أنه مجرد حبر على ورق لم ولن يتم تفعيلها. معظم العاملين فى هذه المصانع أطفال لم تتجاوز أعمارهم أربعة عشر عامًا، اضطرتهم قسوة الحياة إلى النزول مبكرًا لسوق العمل ليعينوا أسرهم على مواجهة أعباء المعيشة، هؤلاء الأطفال هم ضحايا الفقر والظروف القاسية، يبدأون يومهم مع ضوء الفجر وحتى نهاية ضوء الغروب، بعد أن أجبرهم الآباء والأمهات على العمل بمصانع الطوب، لفترة طويلة وسط الجبل والصحراء، ليحصلوا على 40 جنيهًا يوميًا. يقوم الطفل منهم بوضع حامل خشب على ظهره يسمى «العصفورة» وزنه لا يقل عن خمسة كيلو، يحمل عليه ما لا يقل عن 40 قالب طوب، وينقل الطوب من على ظهره من الفرن إلى السيارات، والبعض منهم يقود سيارة مقطورة بين الجبال والصحراء بدون تردد. وقال أحمد مصيلحى المحامى بالنقض، ورئيس شبكة الدفاع عن الطفل بنقابة المحامين، إن المادة رقم 80 بالدستور المصرى تحرم عمل الطفل الأقل من خمسة عشر عامًا، نظرًا لصغر سنه وعدم إتمامه مرحلة التعليم الأساسية، لافتًا إلى أن هناك بعض المهن حددتها منظمة العمل الدولية يمنع عمل الطفل بها مطلقًا مثل المناجم والمدابغ، وقد تصل أحكام القانون عقاب كل من يخالف هذه المادة ويستغل الأطفال إلى الإعدام. وأضاف مصيلحى، فى تصريحات خاصة، ل«الوفد»، أن سبب انتشار ظاهرة عمالة الأطفال، نظرًا لعدم وجود رقابة من قبل وزارة القوى العاملة على هذه المصانع، وإهمال من قبل المجلس القومى للطفولة والأمومة، مضيفًا أنه يوجد قوانين كثيرة تحرم عمل الأطفال ولكنها غير مفعلة على الإطلاق، وذلك لسوء إدارة الدولة وإهمالها للأطفال، وانشغالها بقضايا سياسية أخرى. وتابع رئيس شبكة الدفاع عن الطفل بنقابة المحامين، أن وزارة القوى العاملة لا تقوم بدورها للحد من تلك الظاهرة، عن طريق التفتيش من خلال المكاتب الخاصة بها فى مختلف المحافظات تحت إشراف المجلس القومى للأمومة والطفولة. يعمل عمال مصانع الطوب، فى ظروف سيئة، يتعرضون خلالها كل يوم لإصابات أثناء العمل قد تصل فى بعض الأوقات إلى العجز الكلى أو الجزئى، وبالتالى يفقدون العمل دون تعويض من أصحاب المصانع أو تأمين من وزارة القوى العاملة، وفى بعض الأوقات الأخرى قد تصل إلى الموت بين صخور الجبل، أو داخل أفران الطوب، باختصار شديد «إللى بيموت فى عرب أبوساعد ملوش دية». أسوأ ما فى الأمر أن غالبية العمال لا يمتلكون أية حقوق لدى صاحب المصنع وهم أشبه ما يكونون بملك يمين صاحب المصنع، يحركهم كيفما شاء ويستغلهم فى أى وقت دون تأمينات اجتماعية أو صحية ويومياتهم متدنية للغاية على عكس ما يقومون به فى يومهم. فيما طالب خالد أبوغريب، الأمين العام لنقابة عمال مصانع الطوب، رئيس مجلس الوزراء بانقاذ عمال مصانع الطوب، بعد ازدياد أعداد الوفيات والإصابات للعاملين، موضحًا أن العمال غير مؤمن عليهم فى المصانع اجتماعيًا ولا صحيًا، وفى حالة تعرضهم للوفاة لن يكون لهم أى مستحقات مالية ولا معاش يعول الأسرة من بعدهم. وتساءل أبوغريب، فى تصريحات خاصة، ل«بوابة الوفد»، قائلاً: «أين وزير القوى العاملة، وما دور وزارة القوى العاملة هنا؟، وأين موظفو التأمينات الاجتماعية وهل يقومون بعملهم ويزورون المصانع ليتأكدوا من التأمين على العمال أم أنهم لا رقابة عليهم فيتهربون من مسئوليتهم؟»، مشيرًا إلى أنهم سيستمرون فى الضغط لأعلى مسئول بالدولة حتى يتم الاستجابة لهم فى تحقيق كافة حقوقهم المشروعة. بينما قال وليد سيد عامر، عضو مجلس نقابة عمال مصانع الطوب، إن كل الأموال التى كانوا يتقاضونها من عملهم قبل غلق المصانع؛ قد انتهت وأصبحت جيوبهم خالية وليس معهم الآن ما ينفقونه على أسرهم، مؤكدًا أن حكومة المهندس شريف إسماعيل تنظر إليهم وكأنهم حشرات أو هاموش ليس لهم حقوق. وأشار عامر، فى تصريحات خاصة، ل«الوفد»، إلى أنه إذا استمر الوضع على نفس الحال سوف نبدأ فى التصعيد الذى سيكون فيما بعد اعتصاما أمام مجلس الوزراء مرتدين الأكفان، لنعلن أمام الرأى العام أن العمال قد توفوا بالفعل. وأوضح علاء سمانى، عضو مجلس النقابة، أننا فى الفترة الأخيرة نعمل فقط ثلاثة أيام من كل أسبوع، والمبالغ التى كنا نتقاضاها لا تفتح بيوتنا، وقد وصل بنا الحال إلى ذروة الأزمة، قائلاً: «من أين ننفق على أولادنا؟.. وأمرنا أولادنا أن يجلسوا من المدارس لعدم وجود أموال ننفق عليهم، وأصبح حالنا فى الوقت الحالى نعيش على السلف من أهالينا ممن يعملون فى الشركات الحكومية». وطالب سمانى، فى تصريحات خاصة ل«الوفد»، من حكومة المهندس شريف إسماعيل بإنقاذهم قبل أن يضربوا عن الطعام بشكل كامل ويضعوا الحكومة فى ورطة دولية أمام كافة الأنظمة العالمية، متابعًا أنهم إذا استمر الحال على ما هو عليه سنلجأ إلى مقاضاة الدولة بتهمة قتل ربع مليون عامل بالعمد. تحاول «الوفد» عرض مشاكل بعض الحالات بمصانع الطوب بمنطقة عرب أبوساعد، لنتعرف على مشاكلهم وأحلامهم البسيطة فى الحياة بعد ثورتين، عسى أن نكون لنا دور فى عرض هذه المشاكل على المسئولين. فى البداية يقول الحاج نور جمال مكى، صاحب مصنع طوب إن الحكومة تهدم أكبر مشروع حضارى صديق للبيئة بمنطقة أبوساعد، وهو مصانع الطوب العاملة بالغاز الطبيعى، قائلاً: «نحن نواجه العديد من المشاكل ومنها مشكلة أملاك الدولة، التى تريد رفع قيمة الإيجار السنوى من 1 إلى 12 جنيهًا للمتر الواحد، والمصانع ذات مساحة كبيرة لا تقل عن 30 ألف متر للمصنع الواحد، ولا يستطيع صاحب المصنع دفع هذه المبالغ الكبيرة، وهذا يعنى أن اليوم الواحد يزيد على ألف جنيه إيجار حتى فى حال توقف المصنع، فكل جهة فى الدولة تريد جمع أكبر قدر من المال من صاحب المصانع، فمن أين نأتى بكل هذه الأموال فمصانع الطوب قليلة الربح وليست كمصانع الحديد أو الأسمنت فالجميع يريد ذبح صاحب المصنع». وأضاف الحاج عبدالتواب أبوناصر، صاحب مصنع طوب، أن صناعة الطوب الطفلى بمنطقة عرب أبوساعد مهددة بالانهيار بسبب ارتفاع التكلفة الشهرية للغاز الطبيعى، نتيجة تحرير سعر الصرف بالدولار؛ مما يؤدى إلى انعدام التنافس مع باقى مصانع القطاع العاملة بالمازوت ذات السعر الثابت والملوث للبيئة.