طوابير وزحام فوق الأرصفة، وفى مختلف الطرق المؤدية الى «الطوارئ» والعيادات.. كل ينتظر سماع اسم ابنه أو ابنته أو حفيده فى قوائم الانتظار التى تضم الآلاف.. جاءوا أفرداً وجماعات، قطعوا آلاف الكيلومترات من النجوع والقرى، من بحرى وقبلى ومن شرق مصر وغربها، بعضهم يبحث عن لوكاندة أو أحد أقربائه ليبيت لديه قبل أن يتجه فجراً الى المستشفى، والآخر يضطر الى النوم فى الشارع أو على الرصيف أمام بوابة مستشفى أبو الريش للأطفال أو كما قالوا لنا «مستشفى الجحيم» وحتى يتخذوا موقعاً متقدماً فى طوابير العذاب الصباحية ويتمكنوا من حجز تذكرة الكشف مبكراً. أطفال فى عمر الزهور، تتحرك لها القلوب المتحجرة إلا هؤلاء الذين يستقبلونهم فى هذا المستشفى الذى يعانون فيه الأمرين حتى يحصلوا على العلاج أو يتمكنون إجراء جراحة عاجلة. فإذا وجد أهلهم أكياس الدم الذين يشترونها بأعلى التكاليف لا يجدون الدواء واذا حضرت الممرضات يغيب الأطباء.. و«الدنيا سايبة» والمسئولون وكأنهم فى غيبوبة والنتيجة استنزاف لأموال المرضى الفقراء، وزيادة أوجاعهم وآلامهم.. وعذاب مستمر لمرضى الشلل الدماغى والاعاقة الحركية وفيروس «سى». زحام شديد بمجرد أن تنظر إلى الشارع المحيط بمستشفى «أبو الريش اليابانى» للأطفال، ذلك الصرح الكبير التابع لكلية طب القصر العينى جامعة القاهرة، ستجد العديد من المرضى، يفترشون مداخل وسلالم المبانى والطرقات والأماكن المواجهة لشباك التذاكر، ومن لم يجد له مكاناً افترش الأرض بانتظار دوره فى طابور طويل، وظهرت عليهم جميع أعراض اليأس والإرهاق من كثرة السعى وراء الحصول على رعاية صحية وعلاجية مناسبة، والزحام الرهيب، وقبل الكلام مع بعض المرضى أردت لقاء مدير المستشفى.. فمنعنا أفراد الأمن من الدخول.. وقالوا: إنه مشغول، وتعلل بعدم وجود تصريح رسمى من وزارة الصحة. غلابة بدون علاج «الوفد» استمعت لصرخات العديد من المرضى المترددين على المستشفى، لتقترب أكثر من الصورة، وتعرف ماذا يجرى معهم.. وماذا ينتظرهم من مصير مجهول بحثاً عن العلاج المجانى. جمال طلبة، «56 عاماً»، من محافظة الشرقية، ألتقيناه ساعة قدومه للكشف بمستشفى أبو الريش للأطفال، قال: وصلت إلى المستشفى الساعة 4 فجراً لحجز مكان فى شباك التذاكر، فحفيدى يعانى من قصور الدورة الدموية للمخ، وبعد بهدلة وذل امتد لشهور طويلة على أبواب المستشفيات الحكومية، طالبنى المسئولون بالتوجه إلى مستشفى أبو الريش الجامعى. وأكد أن أغلب الأدوية التى يضعها له الأطباء يضطر لشرائها من الخارج، بخلاف التحاليل العادية التى بلغت 75 جنيها، وهذا يفوق طاقته. ويضيف جد الطفل «أحمد»: اضطررت إلى الاستدانة من الأهل والأصحاب، للإنفاق على الخدمات الصحية من التشخيص والأشعة والتحاليل المعملية، والإقامة داخل المستشفى لعلاجه. ويواصل الجد.. نحن فى مأساة: «هنجيب منين، والحياة مرتفعة الثمن، حتى الرعاية الصحية مش هتوفرها لنا الدولة.. دى حاجة لا ينفع السكوت عليها.. والنتيجة استنزاف أموال المرضى الفقراء».. ويتساءل : هل تحولت مهنة الطب إلى تجارة؟ إجراءات تعجيزية «ندى»، زهرة بريئة تفتحت أوراقها قبل 7 أشهر، الأب يعمل فلاحاً باليومية، ولا يوجد له مصدر رزق ثابت يساعدهم على مواجهة مصاعب الحياة. الطفلة ندى، تعانى ضموراً فى المخ، بسبب نقص الأكسجين منذ ولادتها، ثم تدهورت حالتها بشدة، وأصيبت بآلام شديدة بأطراف اليد والقدم، وأظلمت الدنيا أمام « والد » الطفلة، الذى لم يجد أمامه، إلا التوجه إلى المستشفى، لعلاج طفلة الشلل الدماغى. وسكت والد «ندى» للحظات.. وعاد قائلاً: «مستشفى أبو الريش هى آملنا الوحيد للشفاء، فأنا خائف من نفاد الفلوس المتبقية معى.. ماذا سأفعل وقتها؟! حالة استياء والتقط خيط الحديث محمد إبراهيم على، «إخصائى اجتماعى»، والد الطفلة الرضيعة «ريتال»، التى تبلغ من العمر 4 أشهر، مريضة بالتهاب فى المفاصل منذ ولادتها، وتحتاج حالتها إلى تجبير عظام الذراعين والساقين، مرة كل أسبوع، وهو ما يتطلب عناية طبية مستمرة. وقال «الأب»: إننى أنتظر فى طابور طويل مليء بالأمهات والآباء من الساعة الثالثة فجراً حتى الساعة الثامنة والنصف لحجز تذكرة بسعر 5 جنيهات، لكى يتم الكشف على ابنتى المريضة لبدء علاج تثبيت العظام، لكن حتى الآن لم يفتح شباك التذاكر، كما أن أمن المستشفى يمنعنا من الدخول، وأنا أعانى وزوجتى وابنتى من كثرة التعب والمشقة والمرض. ماذا نفعل! ومن طنطا جاء مصطفى محمد، والد الطفل «أحمد»، عمره سنتان، يعانى من كسر فوق الركبتين، وأمله الحصول على الجهاز اللازم لمساعدتها فى الحركة.. وقال: الحياة أصبحت صعبة ولا تطاق، فالمستشفى لا يقوم بتوفير الرعاية الصحية والعلاجية الملائمة. وكفانا بقى كلاما ووعودا مزيفة ظاهرها الشفقة وباطنها العذاب والمرار، فأنا لم أقدر على تحمل أعباء نفقات العلاج المكلفة، فى ظل ظروفى المعيشية الصعبة، وخاصة أننى أعول 4 أبناء منهم 3 بنات مازالوا صغاراً.. لذا نطالب وزير الصحة بتوفير الرعاية الصحية والعلاجية اللازمة لإنقاذ أبنائنا المرضى، بعدما أصبحت حياتهم مهددة بخطر الموت، ولابد من إيجاد حل سريع لمشكلاتنا . ويتدخل فى الحديث سيد أحمد (من محافظة القليوبية)، والد الطفل «أحمد»، ذو ال «7 أشهر»، مصاب بالمياه الزرقاء على العين، حكى الأب معاناة ابنه الصغير مع المرض وأعينه تفيض بالدموع.. قائلاً بآسى شديد: ذهبت إلى مستشفى النيل للتأمين الصحى بشبرا الخيمة، حتى أعالج ابنى الذى يحتاج إلى كشف وتشخيص جيد لحاله فقد الرؤية لديه، لكنها حولتنى بخطاب رسمى إلى مستشفى أبو الريش الجامعى، لإجراء فحص العينين، وعملية جراجية بسرعة قدر الإمكان، ومازالت أنتظر دورى على أبواب المستشفى منذ قدومى الساعة السابعة وحتى الساعة العاشرة صباحاً. وأضاف والد الطفل «أحمد»: أنا موظف بسيط لا يزيد دخلى على 400 جنيه شهرياً، ولا يمكننى الإنفاق على ابنى المريض، وأوفر له الرعاية الصحية والعلاجية على حسابى الخاص، لذا أتحمل مشقة الانتظار. مطلوب الرحمة أما منى محمود، أم ل «ولد وبنت»، من محافظة القليوبية، فأزمتها فاقت كل الحدود، فقد أصيبت ابنتها بورم فى الثدى، وكانت تحتاج إلى أشعة، تمهيداً لاستئصال الورم، لكنها ظلت تنتظر الدخول من الساعة السابعة والنصف إلى العاشرة صباحاً، من غير فائدة كما قالت. معاناة عم «كمال» الرجل السبعينى، ليست الوحيدة فى مستشفى أبو الريش الجامعى، المزدحم بالمرضى القادمين من شتى محافظات مصر، لعلاج ابنته المصابة بفقر الدم، حيث نصحه الأطباء بإجراء عدة فحوصات منها: فحص نبضات القلب والتنفس وفحص حجم الكبد والمرارة، من خلال التصوير بالموجات الفوق صوتية، من أجل معرفة نوع فقر الدم. ويقول الأب المرهق: أنا جئت لكى أكشف على ابنتى من الساعة السابعة صباحاً، إلى أن تم الكشف عليها فى تمام الساعة الحادية عشة، مما أسفر عن ضياع معظم ساعات النهار . عذاب مريضة الكبد الوبائى بعد رحلة كفاح طويلة مع مرض الالتهاب الكبدى الوبائى «سى» توفى الأب منذ عامين، وكان يعمل بائعاً متجولاً، ترك خلفه أسرة مكونة من زوجة وأربع بنات، تزوجت منهن اثنتان والثالثة «هدى» ترعى والدتها، وأختها الصغيرة المريضة بنفس المرض. وتتنهد « الأم » قليلاً.. ثم تقول: أتقاضى معاشاً قدرة 130 جنيهاً أدفع من 50 جنيهاً إيجاراً للغرفة المقيمين فيها فوق سطوح إحدى العقارات بمنطقة مصر القديمة، بخلاف فواتير المياه والكهرباء، ومصاريف علاجها. هذه الظروف الحياتية الصعبة للغاية، تضطرنا إلى اللجوء إلى المستشفى لمساعدتنا العاجلة فى العلاج قبل فوات الأوان، كما تناشد أصحاب القلوب الرحيمة تقديم يد العون لهم من أجل مواجهة أعباء الحياة. طوابير فى كل مكان الطفلة «ريم»، عمرها 5 سنوات، تعانى من مرض انيميا البحر الأبيض المتوسط، مصاحبة لآلام فى البطن والصدر، وفى بعض المفاصل، وطفح جلدى، مع ارتفاع فى درجة الحرارة. وقال والد الطفلة «ريم»: ابنتى تحتاج إلى كشف دورى، وفحوصات معملية سريعة، للسيطرة على نوبات الألم المتكررة، وعلاجها من المرض نهائياً. ومن قرية إيتاى البارود بمحافظة البحيرة، جاء عبد الحكيم محمد، «43 عاماً»، الذى أخبرنى أنه جاء إلى المستشفى، بعد أن ظهر على ابنه «جهاد»، عمره 13 عاماً، أعراض برد وسخونة مستمرة، ناجمة عن التهاب الأعصاب وتمزق فى بعض الأوتار. وقال والد الطفل «جهاد»: رغم أننى جئت فى السادسة صباحاً، إلا أنه حتى التاسعة.. ولم أستطع الكشف على ابنى المريض الذى يحتاج إلى إجراء عملية تطويل أوتار الأرجل، بسبب الزحام وحالة الطناش داخل المستشفى. وأشار إلى أن مستشفى «أبوالريش» طالبنى بالتوجه إلى مستشفى قصر العينى الفرنساوى لشراء أكياس الدم الذى سيحتاجها ابنى، فى جراحة العظام، وهى بمقابل مادى كبير، حيث يصل تكلفة شراء كيس الدم لنحو 350 جنيها للكيس الواحد، وإنما نحتاج توفير كيسين دم بتكلفة 700 جنيه، بالإضافة إلى أن المستشفى تلزمنى أيضاً بالتبرع بالدم، بخلاف إجراء الأشعات التليفزيونية، والتحاليل العادية على حسابى الخاص.. وكل ذلك ليس فى استطاعتى القيام به. الإنتظار صعب «تقى»، طفلة لا يتعدى عمرها 12 شهراً، حملتها جدتها، وطافت بها على جميع المستشفيات العلاجية طالبة علاج أعين صغيرتها المصابة بالمياه البيضاء، التى تؤدى إلى ضعف الرؤية، ونصحها أطباء جراحة الأطفال بإجراء عملية فى أقرب وقت ممكن، زرع عدسات، كما طلبوا منها عمل أشعة تليفزيونية وتحاليل دم. وتقول «الأم» وتدعى أمينة شعبان، البالغة من العمر «20 عاماً»، رغم عنائنا فى الدخول فى تمام الساعة الحادية عشرة صباحاً، وقدومى أمام شباك التذاكر المزدحم بآلاف الأمهات والآباء من الساعة الثامنة والنصف، إلا أننا نرحب بمزيد من الآلام والأوجاع فى سبيل إنقاذ ابنتى «الكفيفة». وعندما سألنا والدة «تقى» عن تكاليف العملية اكتشفنا أنها ستتكلف 20 ألف جنيه، وهى ابنتها الوحيدة، وحالتها الاجتماعية لا تمكنها من جمع هذا المبلغ الكبير.. فحملت صغيرتها وجاءت بها إلى مستشفى «أبوالريش اليابانى» للأطفال، طالبة مساعدتها لإجراء جراحة لصغيرتها، بعد أن طافت بجولة على المستشفيات والعيادات، وعلمت أن هناك جراحة ستجرى لها. أمراض خطيرة ومن البدرشين، جاءت صباح محمود، والده الطفل «سيف»، البالغ من العمر 10 سنوات، ويعانى من إلتهاب سحائى. أكدت أم «سيف»: أن العلاج المجانى أو بنظام مالى بسيط، مهما كانت إجراءاته طويلة أفضل للمواطن الفقير، الذى يتطلب علاجه أموالاً كثيرة لا تتوافر مع غالبية المواطنين البسطاء. حق دستورى ولكن هل فى إمكاننا الآن أن نتعامل - فعلياً – فى ظل رؤية واضحة للتطوير والتحديث لقطاع الصحة فى مصر، فيجيب علينا الدكتور محمد حسن خليل، رئيس لجنة الحق فى الصحة، قائلاً: إن العلاج المجانى هو حق دستورى لكل مواطن بأن تتكفل الدولة بتقديم الخدمات الصحية والتأمينات الاجتماعية لجميع المواطنين، طبقاً لبنود دستور 2016، كما أن ميزانية الصحة تقدر بمبلغ 74 مليارا و 600 مليون جنيه حسب خطة ميزانية الدولة للعلاج على نفقتها. وأوضح «رئيس لجنة الحق فى الصحة»: هناك قصور واضح فى قطاع الصحة الأمثل، مطالبا بتطوير العنصر البشرى، وإيجاد حلول حقيقية لإنهاء مشاكلهم، وزيادة موارد الصحة، وتقديم الدعم المناسب للأنظمة المالية والإدارية والفنية، فى المجال الطبى بكافة أنواعه، والتنسيق مع جميع مستشفيات ومراكز الرعاية الطبية فى القرى والمدن، على ان تكون هناك خدمات صحية متميزة وعالية المستوى، ونسعى إلى علاج التقصير.