أكتب هذا الكلام صباح يوم الخميس قبل أن تحسم بشكل نهائي المناقشات، والحوارات التي تسعي للتوصل الي نصوص بديلة للنصوص المختلف عليها في مسودة «وثيقة المبادئ الإنسانية لدستور الدولة المصرية الحديثة» وقبل أن تحسم القوي الرافضة للوثيقة من حيث المبدأ وهي قوي التيار الإسلامي موقفها النهائي من الدعوة الي المليونية التي كان يفترض أن تعقد أمس، وإن كان الموقف الثابت للذين دعوا الي هذه المليونية حتي اللحظة التي أكتب فيها، هو أنهاستنعقد سواء جري تعديل الوثيقة، أو لم يجر، لأن الهدف من الدعوة الي هذه المليونية ليس لرفض الوثيقة فقط ولكن كذلك الدعوة الي تسليم السلطة الي حكومة مدنية قبل 30 أبريل القادم. المشكلة الجوهرية في هذا الموضوع - كما كتبت الأسبوع الماضي - هي أن موقف هؤلاء والتيار الإسلامي بكل فصائله الذي يسعي الي تصعيد المواجهة مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة هو الرفض القاطع لمبدأ التوافق الوطني وليس لوثيقة السلمي. وصحيح أن من يقولون إن المليونية كغيرها من أشكال التجمع الشعبي، هي وسيلة من الوسائل الديمقراطية للتعبير عن الرأي، ولكنها في الموضوع الذي نحن بصدده ليست وسيلة من ذلك، فنحن أمام خلاف حول نصوص تتعلق بمبادئ دستورية،وبمسائل فنية يجري البحث عن نصوص وبدائل لها، ممايتطلب حوارا بين الفرقاء الذين يعنيهم أمرها ويستطيعون البت فيها عبرممثلين متخصصين لكل فريق وعبر جولات من الحوار، تسعي للتوصل الي صيغ بديلة ترضي عنها أو تقبل بها كل الأطراف، وهوأمر يصعب إتمامه في ظل حشد جماهيري ضخم مشحون ومعبأ بأفكار لا نصيب لها من الحقيقة، ولا يحيط كل المشاركين بالموضوع المختلف عليه، وليسوا مؤهلين للحديث عنه، ويصعب بل ربما يستحيل أن يتناقشوا فيه أو يتحاوروا حوله، أو يتوصلوا الي مشترك بينهم، وفي مثل هذه الحالة فإن أي شكل من أشكال التظاهر الجمعي لا يصلح إلا كأسلوب لإبداء رأي بالقبول أوبالرفض. وجوهر الدعوة الي مليونية، أو تظاهرة تتعلق بالموضوع المختلف عليه، هو حشد من أجل التعبير عن رأي بالقبول أو بالرفض للموضوع كله وهو ما سبق للداعين الي مليونية أمس، أن فعلوه في مليونية 29 يوليو، التي عرفت بمليونية قندهار، ووصفت آنذاك بأنها جمعة تمزيق الشمل، وكانت إشارة الي معظم فصائل التيار الإسلامي ممن يدعون الي دولة إسلامية علي النمط الأفغاني أو السوداني، إذا أعلن الذين شاركوا فيها بوضوح، رفضهم لأي شكل من أشكال التوافق الوطني، وإصرارهم علي أنهم هم وحدهم الذين يمثلون الأمة، وأن علي من يختلف معهم أن يبحث له عن مهجر يغادر إليه! وبصرف النظر عنأي خلاف مع البنود الواردة في مسودة وثيقة إعلان المبادئ الأساسية لدستور الدولة المصرية الحديثة، فجوهر الأمر أن فصائل التيار الإسلامي يصرون علي أنهم وحدهم أصحاب هذا البلد، وأنهم لا يقبلون إلا أن ينفردوا وحدهم باعتبارهم الممثلين الشرعيين الوحيدين للأغلبية أن يضعوا هذه المبادئ، وأن من هم غيرهم ليس لهم حق في إبداء الرأي في هذا الأمر، لأنهم من الأصل ليسوا مواطنين في هذا البلد! ذلك استخلاص تؤكده الأقوال والتصريحات والأحاديث والخطب والهتافات والمقالات والمداخلات التليفزيونية والفتاوي التي صدرت قبل وأثناء وبعد مليونية جمعة قندهار، وتكررت في الأيام العشرة السابقة، ضمن حملة الحشد لمليونية أمس، فهي كما قالوا دعوة لإظهار قوة التيار الإسلامي، وللدفاع عما يسمونه «هوية الأمة» باعتبار أنهم، دون غيرهم هم أصحاب هذه الهوية وهي وسيلة للدعاية الانتخابية لمرشحيهم في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وهم يستعدون لها بنفس الأساليب. أتوبيسات تنطلق عند الفجر من كل أنحاء البلاد لتحمل أنصارهم الي 21 ميدانا من ميادين التحرير في العاصمة، وعواصم المحافظات، وتنتظرهم حتي تعود بهم، ودعوات الي تحويل المليونية الي اعتصام مفتوح، يستمر لمدة نحو تسعة أسابيع بين 18 نوفمبر حتي 25 يناير القادم حتي يسلم المجلس الأعلي للقوات المسلحة، الحكم قبل 30 أبريل القادم الي سلطة مدنية، وهو مايعني أن تجري الانتخابات التشريعية في ظل ما يشبه العصيان المدني العام. وبصرف النظر عن طبيعة وحجم وعن مصدر الأموال التي سوف ينفق منها علي كل هذه الاستعدادات اللوچستية بما فيها نقل المعتصمين وإعادتهم، فإن دعوة من هذا النوع هي دعوة للفوضي الشاملة، تنطوي علي مغامرة ربما تؤدي الي شكل من أشكال الاحتراب الأهلي، بالتوازي مع حالة الانفلات الأمني القائمة، ومع التوترات التي يشهدها عدد من المحافظات، وتخلق مناخا يصعب معه أن يتحاور أحد مع الآخر، أو أن يتوصل معه الي توافق حول البنود المختلف عليها في مسودة إعلان المبادئ الدستورية، وبذلك تتحول من أداة ديمقراطية للتعبيرعن الرأي، الي أداة لفرض الرأي ولإرهاب المجتمع ولتهديد السلم العام، تأكيدا للفكرة المحورية التي ينطلق منها المتشددون الإسلاميون، وهي أنهم أصحاب البلد والممثل الشرعي والوحيد له، وعلي الجميع أن يضعوا أقفالا من حديد علي أفواههم، وبذلك تقع ثمار الثورة بالكامل في يدهم، وكأن المصريين قد قاموا بهذه الثورة لكي يستبدلوا استبدادا باستبداد! والدليل علي ذلك أن الذين يراوغون منذ البداية، في التوقيع علي أي وثيقة تتعلق بالمبادئ الدستورية استندوا دائما الي أسباب شكلية، من نوع إرادة الأمة التي تم التعبير عنها في الاستفتاء، مع أن المادة الخاصة بهذا الشأن في الاستفتاء، لم تنص صراحة علي أن تنفرد الأغلبية البرلمانية لتشكيل الهيئة التأسيسة لوضع الدستور الجديد من بين أعضائها، ومع أنهم يقرون نظريا بأن وضع الدستور يتم بالتوافق وليس بالأغلبية البرلمانية، إلا أنهم من الناحية العملية يصرون علي رفض هذا التوافق، عند كل محاولة تجري لإتمامه ويرفضون أي مناقشة في التفاصيل التي وردت في مسودات هذه الوثائق، ويتهربون من تحديد النقاط التي يعترضون عليها، وبدلا من أن يقدموا بدائل لها، يكتفون بالاعتراض عليها من حيث المبدأ، ولأسباب تتعلق بالشكل وحده، وكل ما اتخذوه مبررا لموقفهم الأخير، هو المادتان التاسعة والعاشرة من مسودة إعلان المبادئ الدستورية، وهو ما اتفق معهم فيه بقية الفصائل، لكنها علي عكس مما فعلوا سعت ؟؟؟؟؟؟ الفصائل - لوضع نصوص بديلة توفق بين آراء كل الأطراف. أماهم فإنهم يخفون جوهر ما يعترضون عليه، ولكن كل تصريحاتهم تكشف عنه، وهو اعتراضهم علي أن تكون مصر دولة مدنية أوأن ينص الدستور علي حقوق المواطنة، وعلي احترام حرية الرأي والعقيدة، وعلي أن تكون الأمة مصدر السلطات، لأنهم يسعون لإقامة دولة دينية، تتيح لهم أن يكونوا ظل الله علي الأرض وأن يفرضوا آراءهم ومشروعهم علي الآخرين، وكأن الله عز وجل، قد منحهم صكا وتفويضا يحكمون بمقتضاه هذه البلاد! وحتي الآن فإن ما تسرب من الوفود المشاركة في الحوار حول الوثيقة مع الدكتور السلمي أو رئيس الوزراء د. عصام شرف يؤكد أن من الممكن مع استمرار الحوار، التوصل الي توافق بشأنها وما رشح من الصياغات المعدلة يؤكد نفس المعني، إذ تمت الاستجابة لمطلب حذف الإشارة الواردة في الوثيقة الي أن الجيش يحمي الشرعية الدستورية، وألغي النص علي موافقة المجلس الأعلي للقوات المسلحة، علي أي تشريع يتعلق بالقوات المسلحة، وتم تعديله الي إبداء الرأي بدلا من الموافقة، والغالب أن هذا التعديل سيطول بدوره المادة الخاصة بموافقة المجالس العليا للهيئات القضائية علي القوانين المتعلقة بها، وستعدل الي إبداء الرأي وليس الموافقة، ونقل الي مجلس الدفاع الوطني الذي يتشكل من رئيس الجمهورية وعدد من الوزراء المختصين ووزير الدفاع وبعض القادة العسكريين الاختصاص ببحث ميزانية القوات المسلحة، بعد أن انضم اليهم في التعديل رؤساء اللجان الدائمة في مجلس الشعب، وهي التعديلات التي استجابت لمطالب تعديل المادتين التاسعة والعاشرة من الوثيقة. وإذا كان المجلس الأعلي للقوات المسلحة، سوف يستحدث مادة في الإعلان الدستوري تسمح للمصريين في الخارج بالتصويت في الانتخابات، فلماذا لا يستحدث مادة أخري تؤكد أن الدستور لا تكتبه أي أغلبية برلمانية، بل يكتب طبقا لتوافق وطني عام.