ذكر اسمه يذكرك بالله، وسماع صوته، وهو يتلو آيات الله يجبرك على خشية الله، ورؤيته دعوة إلى الله تقرأ فى وضاءة وجهه آيات الرضا والسماحة والقبول، وفى أناقته وعطره الشذى يذكرك بمصعب بن عمير عندما كان فتى قريش المدلل والمنعم، وسفراته فى شتى البقاع يشدو بآيات الوحى الكريم دعوة إلى الله وصورة صادقة صافية للإسلام فى شموخه ورفعته. كان رحمه الله، شديد الاعتناء بمظهره وأناقته، ويقول إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، كما فى الحديث الشريف وكان حريصاً على الاهتمام بصحته وتربيته البدنية حتى حصل على لقب أفضل مصارع فى مصر إيمانًا منه أن المؤمن القوى أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وتحقيقًا لمعنى الترابط والإخاء بين المسلمين كانت البسمة لا تفارق وجهه وكان دائم النظر إلى آثار رحمة الله كان يراها فى الوجوه والأنعام والأشجار، وفى كل مخلوقات الله، عز وجل، كما يراها فى نفسه حقيقة خالدة، فكان دائم الذكر والتسبيح، كانت عقيدته أن السعادة فى طاعة الله، لذا رضى بالقليل فأعطاه الله وأوفى له الكيل، وكانت فلسفته فى الحياة «أن السعة سعة الخلق لا سعة المال، وأن الفقر فقر الخلق لا العيش»، لذا كان موقفه يوم أن تطاول عليه أحد المقرئين الجدد وأقامه من مقعده، وهو يقرأ بدعوة من الرئيس السادات شخصيًا فى ميت أبوالكوم، وقال له: أنا قارئ رئيس الجمهورية!! فما كان من الشيخ إلا وقف موقف المتربى على مائدة القرآن الكريم والمتخلق بأخلاق السلف الصالح رضوان الله عليه فانصرف فى أدب وسكينة ووقار ونظرات المصلين تثنى عليه وتودعه بالدموع والإعجاب، بينما تنظر بعين الازدراء والسخرية من الشيخ المتفرنج حتى إن بعضهم غادر المسجد إلى مسجد آخر. ولد الشيخ محمود على البنا فى قرية (شبرا باص) مركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية يوم السبت الحادى عشر من جماد الآخرة سنة 1345 هجريًا الموافق 17/12/1926 وكان أكبر إخوته وقد نذره والده للقرآن الكريم، فألحقه بالكتاب، فأتم حفظ القرآن الكريم وهو فى العاشرة من عمره، ثم التحق بمعهد المنشاوى بطنطا وكانت مدينة طنطا فى تلك الحقبة تموج بطلاب العلم والشيوخ الكبار، ووجد الشيخ الصغير بغيته فى الشيخين عبدالفتاح الشعشاعى ومحمد السعودى، فكان لهما تأثير كبير فى طريقة تلاوته فيما بعد، ظل الشيخ محمود على البنا يتلقى علوم القراءات بجانب دراسته فى المعهد حتى عام 1946 وقد عرف من ضمن القراء الجدد، حيث كانت إحدى الليالى التى خرج فيها النور المكنون من الحنجرة الماسية، فأحيا الشيخ حفلاً لجمعية الشبان المسلمين بشبرا، وكان ضمن الحاضرين صالح باشا حرب رئيس الجمعية، فأعجب بصوته وطريقته الفريدة فى التلاوة فتعاقد معه قارئًا لجمعيات الشبان المسلمين وفى إحدى الحفلات التى كان يحييها تصادف وجود الشيخ محمد عبداللطيف دراز، وكيل الأزهر وقتها ووكيل جمعية الشبان المسلمين، وعلى باشا ماهر رئيس الوزراء، ومحمد بك قاسم رئيس الإذاعة المصرية والأمير عبدالله السنوسى والأمير عبدالحكيم الخطابى وأجمعوا أن صوت البنا فريدًا فى التلاوة وتم اعتماده فى الإذاعة، فكان الثانى بعد الشيخ أبوالعينين شعيشع يدخل الإذاعة حديث السن، حيث كان فى الثانية والعشرين من عمره، وفى استوديو علوى باشا بشارع الشريفين قدمته الإذاعية القديرة السيدة صفية المهندس فى أول قراءة له عام 1948 حيث قرأ من سورة هود فى السابعة صباحًا لمدة نصف ساعة، وعلق بذهن الناس منذ الوهلة الأولى وترقبوه بشوق ولهفة مستمعين لآيات الوحى من فمه الذكى. ثم عين قارئًا للسورة بمسجد الملك بحدائق القبة لمدة خمس سنوات، ثم انتقل إلى مسجد الرفاعى، فكان سببًا فى عمارة المسجد وزيادة رواده، ثم انتقل بعد ذلك إلى المسجد الأحمدى بطنطا الذى كان من أحب المساجد إلى قلبه وظل فى المسجد الأحمدى قرابة اثنين وعشرين عامًا، إلا أن قلبه كان يهفو إلى مسجد الإمام الحسينى بالقاهرة، حيث كان ملتقى أهل الذكر والعلم فانتقل إليه قارئًا للسورة وظل به إلى آخر حياته، وقد استطاع الشيخ خلال رحلاته إلى جميع البلدان أن يثبت لدنيا البشر أن الوحى كان وما زال يقتر سلسلاً من سلاسل وأسرار الكتاب المكنون ما زالت تفيض مع الأيام بألوان شتى من المعجزات وكان الشيخ البنا قد أوتى مزمارًا من مزامير داود فكتب اسم الشيخ البنا بأحرف من نور فى سجل السلسلة الذهبية. فى الحرم المكى الشريف قرأ الشيخ البنا آيات الله لأكثر من ساعتين متواصلتين والحجيج من كل فج عميق وقوف تقتر أعينهم من الدمع مما سمعوا من الحق. كان يومًا مشهودًا ذكرهم بقراءة عبدالله بن مسعود فى حضور النبى (صلى الله عليه وسلم) وسط قريش. وفى مسجد النبى (صلى الله عليه وسلم) فى المدينةالمنورة جلس الشيخ البنا يقرأ فى الروضة الشريفة وحوله جموع المسلمين من كل مكان وبعد أن افتتح الشيخ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم انعقد لسانه عن الحركة ولم يستطع أن ينطق بحرف واحد وارتجف قلبه وأخذت الناس الدهشة، وأخذت دموعه تنهمر على خديه، ثم انطلق مهرولاً إلى الحجرة النبوية الشريفة، وأمسك بنافذة الحجرة، وأخذ ينادى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويقول: ائذن لى يا رسول الله أن أتلو عليك القرآن.. ائذن لى يا رسول الله أن أتلو لحضرتك آيات الله، فأنا خادم كتاب الله، ثم عاد إلى مكانه وجلس يقرأ بطريقة لم يألفها ولم يعاهدها عن نفسه من قبل حتى أذهل العقول وأطار القلوب وهو يتلو: (يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا... إلخ) ولم تشهد المدينة منذ موت النبى (صلى الله عليه وسلم) يومًا ذكرهم به (صلى الله عليه وسلم) مثل ذلك اليوم حتى ظن بعض الناس من جنسيات أجنبية أن النبى (صلى الله عليه وسلم) هو من يتلو القرآن وتزاحموا بعضهم على بعض، وقال بعضهم سبحان الله ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك يتلو كتاب الله من الحجرة النبوية، وكانت ليلة مشهودة. سافر الشيخ البنا إلى معظم الدول العربية والأوروبية والأمريكية وطاف مشارق الأرض ومغاربها فكان أفضل سفير للوحى وأعظم بشير لكلمات القرآن الكريم وكان رحمه الله حلو المعشر حسن الشمائل، صديقًا حميمًا لكل قراء عصره لم يحمل حقدًا لأحد وكان يوقر الكبير ويرحم الصغير ولم يكن ينادى الشيخ مصطفى إسماعيل إلا بقوله عمى الشيخ وتوسط لدفن الشيخ مصطفى إسماعيل فى بيته تحقيقًا لوصيته بعد أن اعترضت الأجهزة الأمنية على دفن الشيخ فى منزله فاتصل الشيخ البنا بالرئيس السادات وكان صديقًا حميمًا له وتوسط لديه فأمر بأن يدفن فى بيته تحقيقًا لوصيته. رزق الشيخ البنا بخمسة ذكور وبنتين، أكبرهم اللواء شفيق وأحمد القارئ المشهور وأوصى الشيخ بأن يدفن فى قريته بجوار مسجده الذى أسسه قبل وفاته وأشرف على تشييده وكانت وصيته أن تدفن معه رفيقة عمره السيدة زوجته ولقى الشيخ ربه الكريم فى الثالث من ذى القعدة سنة 1405 هجرية الموافق 20/7/1985 ميلادى. (سجل هذا الحديث مع المحاسب أحمد محمود على البنا القارئ الشهير نجل الشيخ).