الغرق فى مستنقعات التعصب الدينى والتفتت الاجتماعى وشيوع السلاح والفوضى والبغضاء، كل ذلك الذى يحدث عندنا فى مصر الآن، حدث قبل أربعين عاماً فى لبنان، وقد اتخذ ذلك الكابوس صورة حرب أهلية كتب لها أن تستمر زهاء عشرين عاماً، استحل أثناءها إزهاقاً رواح مسيحيين ومسلمين، دون وجه حق فى البلد العربى الشقيق، وما أن انتهى الكابوس، وخرج لبنان من نفقه المظلم، حتى وجدناه بلداً آخر، أشبه بأرض خراب، كل هذا الهول ذكرنى به فيلم كندى اسمه «حرائق» 2010، شاهدته قبل بضعة أيام، وبداية فالفيلم كان واحداً من الأفلام الخمسة المرشحة لجائزة أوسكار لأفضل فيلم أجنبى 2011 وصاحبه «دينيس فيلنيف» مخرج كندى، منحدر من أصل فرنسى، وسيناريو الفيلم مستوحى من مسرحية شعرية للأديب اللبنانى «وجدى موواد»، وهى مسرحية تقطر حزناً، تحكى مأساة الفتنة الطائفية التى هبت رياحها العاتية على لبنان، فأضعفته، حتى كادت تفقد الشعب الوعى بضرورة المواطنة، بحكم أنها جعلته جاهلاً بمغزاها، تائهاً فى ظلمات الطائفية، مسكوناً بالكراهية للآخر، لمجرد أنه مختلف ديناً أو عنصراً أو أسلوباً فى الحياة. والفيلم لا يقول صراحة إن أحداثه مكانها لبنان ومع ذلك نخرج منه، ونحن على يقين أن لبنان وليس بلداً آخر، وهو مكان الفواجع التى كادت تحطم حياة بطلة الفيلم «نوال مروان» وتؤدى دورها «لبنى عزابال» التى سبق لنا مشاهدتها فى الفيلم الفلسطينى «الجنة الآن» هذا، وبعد مشهد رعوى لنخيل فى جو صحراوى تعقبه لقطات لأطفال، يبرز من بينهم طفل وجهه غاضب، وبكعب قدمه ثلاثة ندوب. تبدأ الأحداث فى مكتب محام بمدينة مونتريال، حيث كانت تعمل «نوال»، إلى أن جاءها الموت، وأمام المحامى يجلس التوأم «جان» و«سيمون» ابنة وابن المتوفاة، وقد علت الدهشة وجهيهما، وهما يستمعان له، وهو يقول لهما وصية الأم ثم وهو يسلم الابنة رسالة من الأم إلى أبيها الذى لم تكن تعرف لا هى، ولا شقيقها التوأم، إنه لايزال حياً يرزق. ويستلم الابن هو الآخر رسالة إلى أخ لم يكن عنده، ولا عند شقيقته أية فكرة عن وجوده وبدءاً من ذلك الاستهلاك الغريب كل الغرابة تسافر «جان» تنفيذاً لوصية الأم إلى بلد عربى «لبنان» بحثاً عن أبيها لتسليمه الرسالة وبعدها بقليل يسافر شقيقها «سيمون» هو الآخر، إلى نفس البلد العربى، بحثاً عن أخيه ومن خلال رحلة «جان» نكتشف معها أن أمها نوال ولدت مسيحية، ووقعت فى حب لاجئ فلسطينى مسلم ولأن مثل هذا الحب كان فى ذلك الزمن الحالك السواد حباً مستحيلاً، انتهى الأمر بالحبيب مقتولاً وبها هاربة فى رحلة عذاب، ذاقت فيها الأمرين من الأهوال، فالناس من حولها الذين لم يكن من طبيعتهم العدوان تحولوا إلى مجرمين يمارسون القتل فى كلا الجانبين المسيحى والمسلم، باسم السماء وعندما حصد الموت آلاف الأرواح استغنوا عن مساندة السماء، مستمرين فى ذبح الأبرياء، استجابة لنداء الثأر والانتقام. أما كيف نجحت جان هى وشقيقها التوأم «سيمون» فى الوصول إلى الأب والأخ، فذلك لن أحكيه، لا إيجازاً، ولا تفصيلاً، لأن حكيه يطول، فضلاً عن أنه يفسد على القارئ، مفاجأة الاكتشاف، وهى مفاجأة مذهلة، غير متصورة مهما شطح الخيال، فى حالة إذا ما أتيح له أن يشاهد الفيلم فى مصر، وهو أمر مستبعد فى المستقبل القريب كل ما فى وسعى أن أقوله هنا إن المفاجأة تكشف النقاب عما ارتكب فى الحرب الأهلية اللبنانية من جرائم يشيب من هولها الولدان.