كأنها أعلنت احتجاجها القاتل على تدمير العراق في الذكرى الثالثة عشرة لغزوه برحيلها الفاجع, فالمعمارية العالمية زها حديد، ابنة بغداد، طالما حلمت بإعمار العاصمة التي خربتها قنابل وصواريخ الحروب الأمريكية المتواصلة وانتهت في مارس 2003 بغزو العراق واحتلاله في التاسع من أبريل. ولم تجد سبيلا إلى بلاد كان والدها محمد حديد، أسس مع مجموعة من الديمقراطيين التنورين مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، أول حركة مجتمع مدني أطلقت على نفسها الحزب الوطني الديمقرطي، كافحت الحكم الملكي إلى أن أسقطه العسكر في الرابع عشر من يوليو 1958، فاتحة الطريق امام سلسلة انقلابات أوصلت العراق الى الاحتلال. تتسم تصميمات "حديد" بالانسيابية والغرابة والإغراق في الخيال الحر أحياناً، وهو ما يمكن لمسه في الكثير من الصروح التي تحمل أسمها في العالم. لكن قصة نجاحها مرت بالعديد من المحطات. شقت طريقها إلى العالمية متغلبة على كل المصاعب والتحديات التي واجهتها في بيئة ذكورية، لكنها تفوقت بإبداعها وفنها في هذا الوسط الذي يربط بين الجمال والهندسة والأرقام والمعادلات الحسابية، فنالت شهرة عالمية فيه,تركت بصمتها على معمار أوروبا بل والعالم أجمع. قال عنها أحد النقاد المعماريين : "مشروعاتها تشبه سفن الفضاء تسبح دون تأثير الجاذبية في فضاء مترامي الأطراف، لا فيها جزء عال ولا سفلي، ولا وجه ولا ظهر، فهي مباني في حركة انسيابية في الفضاء المحيط، ومن مرحلة الفكرة الأولية لمشاريع زهاء إلى مرحلة التنفيذ تقترب سفينة الفضاء إلى سطح الأرض، وفي استقرارها تعتبر أكبر عملية مناورة في مجال العمارة. تتألق تصميمات" حديد" كجواهر نادرة أسطورية أينما وجدت، حيث وصفها معماريون ومصممون بالمعمارية العظيمة و"سوبر ستار", و تعد محطة إطفائية فيترا في مدينة فايل أم راين الواقعة بولاية بادن- فرتمبيرج الألمانية أولى الأعمال التي أنجزتها وساهمت في شهرتها العالمية وقالت عن هذه المحطة :"مبنانا يعمل مثل الطربوش يغطي الموقع ويعطيه تعريفا. ولكن عندما تتحرك خلال المبنى، فإنه يبدو كما لو كان جهاز عرض. لقد تم تصميمه لكي تدرك التغيرات الفراغية والحسية بالكامل بينما تتحرك عبر المناطق المختلفة للحيز". وفي مدينة سينسيناتي الواقعة بولاية أوهايو الأميركية قامت بتصميم مركز روزنتال للفن المعاصر وهو أول بناء المهندسة العراقية في أمريكا. (لم يكن طريقها إلى النجاح سهلاً، فقد أصيب مسارها العملي بعدة إنتكاسات، من أهمها وقوف النزاع السياسي الداخلي حائلاً دون استكمال تصميمها الحديث لدار "كارديف باي" للأوبرا في ويلز بالمملكة المتحدة عام 1995. إلا أن ذلك لم يفقدها العزيمة والإصرار لتحقيق طموحاتها، حيث حصلت على جائزة بريتزكر في التصميم المعماري و كانت أول وأصغر امرأة تنال تلك الجائزة التي تعتبر معادلة في قيمتها لجائزة نوبل في العلوم والآداب، والتي يرجع تاريخها لنحو 25 عاماً, بالإضافة إلى العديد من الجوائز العالمية المرموقة، كما حصلت على وسام التقدير من الملكة البريطانية واختيرت كرابع أقوى امرأة في العالم في عام 2010، حسب تصنيف مجلة التايمز لأقوى مائة شخصية في العالم, كما نالت جائزة متحف لندن للتصميم لعام 2014، وذلك لتصميمها مركز حيدر عليف في باكو عاصمة أذربيجان وأيضاً مما جعلها أول امرأة تفوز بالجائز الكبرى في المسابقة التي دشنت منذ سبع سنوات. (لم تفرض زها نفسها على حكام العراق القادمين مع الاحتلال؛ لأنها تعرف أنهم لن يلتفتوا إلى العمارة في البلد المخرب بفعل فسادهم أيضا, ولم تسع إلى دخول الوطن المبتلى بالعنف والإرهاب والصراع بين الطوائف السياسية المتنازعة على السلطة, ولم يكن في حسابات من يعرف المعمارية العالمية عن كثب أنها سترحل هكذا فجأة. فقد بنت زها مدنا أشبه بالخيال. مدنا تحلق في الفضاء، فازت بها على أساطين العمارة في العالم مثل بناية" مركز أبحاث الشرق الاوسط" بجامعة اوكسفورد والذي افتتح قبل أسابيع من رحيلها. ماتت زها حديد معلنة احتجاجها الأخير على تدمير وطن كان عامرا بمبدعيه فتشردوا في بقاع الأرض وظلوا لامعين حتى الرمق الأخير, لم يحتمل قلبها الضعيف رؤية المدينة تموت لتصل إلى شاطئ نهر ملوث يحمل كل يوم جثث المغدورين والمنتحرين جوعا وقهرا فقررت مغادرة الحياة.