جولات وحكايا مثيرة، خاضها الدكتور نبيل العربي، أمين عام جامعة الدول العربية، خلال مفاوضات تحرير طابا عام 1989، والتي تحل ذكرى استردادها من الاحتلال الإسرائيلي اليوم، حيث عاصر مراحل التفاوض والتحكيم الدولي التي خاضتها مصر ضد إسرائيل، إلى أن وصل مرحلة التحرير واسترداد الأرض كاملة. ووثق العربي، ذلك التاريخ الطويل الذي عاصره، في مذكرات له نشرها عام 2012، تحت عنوان: "من النكسة إلى إرهاصات كامب ديفيد"، وفي ثمان فصول، تحدث العربي عن حرب 1967، مرورًا باتفاقية كامب ديفيد، والتفاوض من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، حتى أوراق تحرير طابا. وتستعرض "الوفد" في التقرير التالي، مذكرات العربي الخاصة بتحرير طابا، والتي احتلت الجزء الثامن منها، تحت عنوان: "أوراق طابا.. النزاع فالتفاوض فالتحكيم". بداية الازمة وتولي العربي "لا شك أن النجاح فى مسئولية ملف استعادة طابا يمثل أهم إنجاز في حياتي المهنية".. بتلك الكلمات افتتح العربي حديثه عن مفاوضات تحرير طابا، بعدما أمضى خمس سنوات كاملة مسئولًا عن هذا الملف، منذ 1983 حتى 1988، وبالتحديد يوم صدور الحكم لصالح الجانب المصري في 29 سبتمبر 1988. وظهرت أزمة طابا، في 25 أبريل 1982، وهو الموعد الذي كان تقرر لانسحاب إسرائيل من سيناء بالكامل، وبدأ تدخل العربي في التعامل المباشر، وصولًا للإشراف على إدارة مصر لهذه الأزمة، في عام 1984 عندما طلب منه، الدكتور عصمت عبدالمجيد، وزير الخارجية المصري آنذاك، الانضمام إلى هيئة التفاوض المصري. وبدأت الاجتماعات في فندق سونستا، شرق القاهرة، وبعد يومين لم تفض إلى شيء؛ لأن إسرائيل لم تكن تتحرك في الاتجاه السليم. محاولات إسرائيلية لطمس السيادة المصرية ويوضح العربي، أنه لم يكن يعرف في البداية طبيعة الخلاف حول طابا، وارتباطه بنقاط ترسيم الحدود بين مصر وفلسطين، وهي النقاط التي تلاعبت فيها إسرائيل بعد احتلالها للأراضي الفلسطينية، وسيناء في هزيمة 1967، وأنها غيرت طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي من نزاع على وجود، إلى نزاع على حدود. وأكد العربي، في مذكراته أن استعادة طابا كان مرتبط برفض التفريط في تراب الوطن، وتأكيد ضرورة انسحاب إسرائيل الكامل، كما أن وثيقة كامب ديفيد كانت قد أقرت هذا المبدأ. ولفت إلى أن العلامة 91، هي آخر علامة لخط الحدود بين مصر وفلسطين طبقًا لاتفاقية 1906، وهذه العلامة تقع فوق هضبة شرق وادي طابا، وتطل على خليج العقبة، وبدأ ترقيم علامات الحدود عام 1906 من رفح في الشمال انتهاءً برأس طابا في الجنوب على خليج العقبة. وتحدث عن محاولات إسرائيل تضليل الرأي العام العالمي، بمحاولة إزالة معالم تلك العلامة، وإخفائها عن عمد جزء من هضبة شرق وادي طابا سرًا؛ لتشق طريقًا يربط طابا بميناء إيلات على الجانب الإسرائيلي من الحدود مع مصر. رفض إسرائيل للتحكيم الدولي وعن أهداف الجانب الإسرائيلي، يقول العربى، إن تل أبيب لم تكن فقط ترفض الانسحاب من طابا، بل كانت ترفض اللجوء للتحكيم الدولي، وسعت لحسم مصير الخلاف حول طابا من خلال التفاوض. وأحد المقترحات التي طُرحت هو قبول إسرائيل الموقف المصري كاملًا حول طابا، على أن تقوم مصر بالموافقة على تأجير طابا والفندق الذي كانت إسرائيل قد بنته عليها، للحكومة الإسرائيلية لمدة 99 عام. وهو الاقتراح الذي رفضه العربي دون الرجوع للقاهرة؛ لأن مبدأ التأجير يتعارض مع سيادة مصر من جهة، وتخوفًا من الانزلاق إلى هاوية المساومة حول مدة التأجير. صعوبات في طريق التفاوض وشرح العربي، أسباب الصعوبات التي واجهت الفريق المصري المًكلف بالتفاوض، وهو أن هذا الجزء من الأراضى المصرية كان موقعًا للقوات الدولية في مرحلة ما بعد العدوان الثلاثي، فالقوات المسلحة المصرية لم تطأ أقدامها الشريط الحدودي على الجانب المصري منذ عام 1956، وكانت المعلومات المتوفرة لديها ضئيلة ولم يتم تحديثها. وتطلب الأمر البحث عن الضباط عملوا في ذلك الوقت على تلك الأرض، في إطار القوات الدولية، وكان من بينهم ضباط من الدانمارك ويوسوغلافيا، ولكنهم ولم يتعاونوا مع مصر كثيرًا. محاولات استرداد طابا ووفقًا لمذكرات العربي، فأن استرداد طابا من خلال التحكيم الدولي، لم يكن قاصرًا على تجميع الخرائط والمستندات السليمة، والحجج القانونية، ولكنه ارتبط كذلك باستغلال جميع الموارد البشرية المتاحة، سواء المصرية أو الأجنبية، لتقديم ملف مصري مُحكم الصياغة، ومدعم بالأدلة الكاملة التي تمكنت من دحض الأحاجي الإسرائيلية، والمحاولات الأمريكية لاختراق عمل المحكمة الدولية. جاء ذلك، من خلال تقديم عروض سياسية توفيقية بين الموقفين المصري والاسرائيلي رفضتها مصر على الفور، كما رفضت عروضًا إسرائيلية طرحت في مراحل مختلفة، مثل أن تشترك إسرائيل مع مصر في إقامة مشروعات مشتركة في المنطقة من بينها بناء مستشفيات متخصصة، ومنشآت سياحية تدر دخلًا كبيرًا للطرفين، وكلها رفضها الجانب المصري. إسرائيل ترضخ للتحكيم الدولي ورضخت إسرائيل للقبول بالتحكيم، إلا أنها حاولت التلاعب بشروط التحكيم لاستدراج المحكمة لابداء رأي في العلامات المحددة للحدود الدولية بين مصر وفلسطين، وبعد تسعة أشهر سعت خلالها إسرائيل عبر الولاياتالمتحدةالأمريكية لتغيير دفة الأمور، كما سعت من خلال القيادة السياسية المصرية لنفس الأمر، ثم حاولت استخدام علاقات لها في مصر؛ للتأثير على فريق العمل الذي رأسه العربي. هيئة التحكيم الدولي تثير خلاف ويتذكر العربى، أن تشكيل هيئة التحكيم كان مثار مناقشات طويلة، وخلافات عميقة بين مصر وإسرائيل استغرقت عدة شهور، فالقواعد المتعارف عليها لتشكيل هيئات التحكيم هي أن يختار كل طرف مُحكمًا عنه، ثم يتفق الطرفان على أسماء المًحكمين المحايدين الثلاثة. ودأبت إسرائيل على رفض كل الأسماء التي كان الوفد المصري يتقدم بها، وبالمثل استمرت مصر في رفض قبول الأسماء التي اقترحتها إسرائيل، حتى وصل أعداد الأسماء المرفوضة من الطرفين إلى 44 اسمًا على مدى ستة أشهر. وقام المحكمان المتفق عليهما بتسليم الجانبين ورقة عليها أسماء سبعة محكمين ليقرر كل طرف على حدة الأسماء التي يقبلها، ليتم الاتفاق على هيئة التحكيم. عقب ذلك يروي العربي، تفاصيل بدء مرحلة إعداد المذكرات، التي يتم عرضها من قبل الجانبين المصري والإسرائيلي على المحكمة، التي اطلعت على المذكرات واستمعت إلى المرافعات الشفوية، وقامت باستجواب الشهود، وأصدرت حكمًا في أحقية الجانب المصري باسترداد طابا. تنفيذ الحكم ثم ينتقل العربي إلى الصعوبات التي واجهت مصر بعد النطق بالحكم في صالحها، وهي رفض إسرائيل تنفيذ الحكم، وبعد مفاوضات ومحاولات مصرية قابلتها إسرائيل بالتعنت الشديد، قرر الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، توجيه تصريح شدد اللهجة يطالب إسرائيل بالانسحاب الفوري، وأن مصر لن تقبل استمرار المماطلات والمناورات الإسرائيلية، وأنها قد تلجأ إلى التخلص من جميع المنشآت في طابا. دموع العربي على أراضي طابا وفي الفصل الأخير من مذاكرته، يروي العربي الدعوة التي تلقاها من رئاسة الجمهورية؛ للمشاركة مع باقي أعضاء وفد الدفاع؛ التوجه إلى طابا للمشاركة في الاحتفال، برفع علم مصر على أرض طابا يوم 19 مارس 1989 ، بعد أربعة أيام من الانسحاب الإسرائيلى. "بعد أن رُفع العلم إعلانًا باستعادة طابا، اغرورقت عيناي بالدموع، وأنا أنظر إلى الوراء وأتذكر المشاكل والمتاعب التي مررت بها خلال السنوات السابقة، وقفنا جميعًا بانتظار أن يتكرم الرئيس، بتحيتنا وشكرنا ولكن بعد أن حيا سيادته بعض الشخصيات غادر الاحتفال، وعدنا بعد ذلك إلى القاهرة، بعد إسدال الستارة على قضية طابا"... هكذا اختتم العربي مذكراته وشهادته حول مفاوضات استعادة طابا.