شاع تعبير «ثورات الربيع العربي» في وسائل الإعلام العربية والأجنبية، للدلالة على موجة الحراك الشعبي غير المسبوق الذي تشهده المنطقة العربية منذ نهاية سنة 2010م، وما زالت فصوله وأحداثه تتوالى حتى الآن. وبالتدقيق في الأمر، يلاحظ أن الثورات الحقيقية هي تلك التي حدثت في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا على التوالي. فقد كانت الثورة التونسية أو ثورة «الياسمين» أولى الثورات العربية حدوثا، وكانت الثورة المصرية أو ثورة «اللوتس» ثانيها في التسلسل الزمني، ثم تبعتها الثورة في الدول العربية الثلاث الأخرى. والملاحظ فيما يتعلق بالدول آنفة الذكر أنها تنتمي إلى النظام الجمهوري. ومع ذلك، فقد شهدت هذه الدول مخططات لتوريث الحكم، اقتباسا واستنساخا لتجربة انتقال السلطة في كوريا الشمالية من الأب الزعيم الأعظم «كيم إيل سونج» إلى ابنه الرفيق العبقري «كيم تشونج إيل» سنة 1994م. وكانت سوريا أولى الدول العربية التي شهدت توريثا للحكم في نظام جمهوري عربي، حيث تولى «بشار الأسد» الحكم في سنة 2000م، خلفا لوالده الرئيس الراحل «حافظ الأسد». وفي مصر، ورغم النفي المتكرر من الرئيس السابق، لم يكن خافيا على أحد أن مخططا لتوريث الحكم إلى نجل الرئيس يجري تنفيذه على قدم وساق، وإلا فبماذا نفسر الدور المتزايد لجمال مبارك في شؤون الحكم، وظهور صورته في وسائل الإعلام – جنبا إلى جنب – مع صورة الرئيس السابق، وهما يدليان بصوتيهما في مدرسة مصر الجديدة ؟ ولم يكن الأمر متعلقا بصورة واحدة لشخصين يدليان بصوتيهما في آن واحد، وإنما يدلي كل واحد منهما بصوته على حده. ومع ذلك، كانت وسائل الإعلام المعروفة بالقومية تنشر الصورتين معا، بحيث كانت صورة نجل الرئيس تأتي دائما على يسار صورة الرئيس. كذلك، كان نظام الحكم في اليمن عائليا بامتياز، حيث كان يجري التخطيط لكي يرث «أحمد عبد الله صالح» والده في الحكم. ومن المعروف أن «أحمد عبد الله صالح» يشغل حاليا قيادة الحرس الجمهوري اليمني. أما ابن شقيق الرئيس، ويدعى «يحيي صالح»، فيشغل منصب قائد قوات الأمن المركزي. وفي ليبيا، جرى الترويج منذ فترة للمدعو «سيف الإسلام القذافي» باعتباره الوريث المحتمل لوالده العقيد «معمر القذافي». وفي تونس، وبالنظر لصغر سن نجل الرئيس السابق، كانت عائلة «الطرابلسي»، وهي العائلة التي تنتمي إليها زوجة الرئيس، تخطط لوراثة الحكم. أما الدول العربية الجمهورية الأخرى، والتي لم تشهد مخططات لتوريث الحكم إلى نجل الرئيس، فقد بقي الوضع فيها هادئا، دون أن تشهد تحركات تذكر، كما هو الحال في جمهورية السودان وجمهورية موريتانيا الإسلامية. أو على الأقل لم تشهد هذه الدول تحركات كبيرة، كما هو الشأن في العراق والجزائر. وبناء على ذلك، يمكن وصف ثورات الربيع العربي بأنها «ثورات ضد التوريث». وإذا كانت الشعوب العربية في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن قد أفصحت بوضوح عن رفضها للتوريث الأكبر، المتمثل في منصب رئيس الجمهورية، فهي ترفض أيضا التوريث الأصغر، المتمثل في توريث بعض الفئات وظائفها لأبنائها، ولاسيما في الجامعات والخارجية والقضاء والكليات العسكرية والشرطة. والعجيب أن من يدافع عن توريث الوظائف في هذه الجهات هم أنفسهم قد تم تعيينهم، دون أن يتوافر لديهم شرط المستوى الاجتماعي الذي يتشدقون به الآن. فأغلب هؤلاء قد تم تعيينه في ظل ثورة يوليو، والتي قامت على أساس العدالة الاجتماعية والقضاء على الفوارق بين الطبقات. ويكفي أن نذكر هنا بأن «جمال عبد الناصر» نفسه قد التحق بالكلية الحربية في دفعة تكميلية، بعد أن تم رفضه في الدفعة الأساسية. كذلك، نود أن نذكر هؤلاء بأن تطبيق شرط المستوى الاجتماعي على الرؤساء السابقين، «جمال عبد الناصر» و«أنور السادات» و«حسني مبارك»، كان من شأنه أن يؤدي حتما إلى استبعادهم من الالتحاق بالكلية الحربية أو بغيرها من الجهات التي يعتمد الالتحاق بها حاليا على توافر مستوى اجتماعي معين. وفي الختام، إذا كانت الحكمة العربية تقول بأن «الذكي من اتعظ بغيره، والغبي من اتعظ بنفسه»، فالمأمول أن يعي الجميع الدرس، فلا يعيشوا في ذات البرج العاجي الذي وضع «حسني مبارك» و«زين العابدين بن علي» أنفسهما فيه، حتى إذا قامت الثورة قال: «فهمتكم» أو «أعي تطلعاتكم المشروعة». فهل يعي القائمون على الأمر في مصر الثورة الدرس؟ اللهم بلغت.. اللهم فاشهد. أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة