أصدر المستشار محمود أبو شوشة عضو اللجنة المكلفة من قبل المستشار حسام الغرياني عضو مجلس القضاء الأعلي لإعداد مشروع قانون السلطة القضائية المعروفة ب"لجنة مكي" مذكرة إيضاحية حول معيار الأقدمية بين القضاة في تولي الوظائف مؤكدا علي أن الأقدمية ليست معيارا أساسيا وانما معيارا ترجيحيا عند تساوي الكفاءات. وتنشر بوابة الوفد نص المذكرة التي حصلت علي نسخه منه وجاءت نصا: "يردد البعض أن الأقدمية كانت دائما هي معيار الاختيار للمناصب القضائية ، حتى بالغ البعض في ذلك القول إلى حد وصفها بأنها من التقاليد القضائية الراسخة التي توارثها القضاة. والحقيقة أنني كلما تأملت هذا القول لا أجد له أي سند من الواقع.. فلا الأقدمية كانت معيارا لتولي المناصب القضائية ، و لا هي من التقاليد القضائية الراسخة؛ بل هي لا وجود لها تقريبا سواء في ممارسة القضاة لعملهم ، أو عند اختيارهم لتولي الوظائف. فالأقدمية لا تعدو أن تكون وسيلة للترجيح بين من تساوت كفايتهم ، فالكفاءة تأتي دائما في المقام الأول ثم تأتي الأقدمية كمرجح عند تزاحم الكفاءات . ففي ممارسة القضاة لأعمالهم ، نجد أن رئيس الدائرة - رغم أقدميته - لا يستطيع أن يفرض رأيا لا يوافقه عليه باقي أعضاء الدائرة و لو كانوا أحدث منه بعشرات السنين . بل إن القاضي الأحدث قد يكون في المحكمة الأعلى و يلغي بموجب اختصاصه أحكاما صادرة من قضاة أقدم منه في المحكمة الأدنى ، كما إذا ألغى قضاة محكمة النقض أحكاما صادرة من قضاة أقدم منهم في محكمة الاستئناف ، أو ما إذا ألغى قضاة محكمة ابتدائية بهيئة استئنافية أو محكمة جنح مستأنفة أحكاما صادرة من قاض أقدم منهم بالمحاكم الجزئية ، حتى في النيابة العامة نجد وكيل النيابة الكلية يراجع - بموجب اختصاصه - تصرفات زملائه الأقدم منه بالنيابات الجزئية في القضايا و يقترح إلغاءها . فأين الأقدمية إذن !! ومتى كان لها دور في ممارسة العمل القضائي؟ حقيقة إن العكس هو الصحيح ، فأكثر ما يميز السلطة القضائية عن غيرها أن القاضي فيها لا رئيس له ، فالأقدمية لا معنى لها في ممارسة هذه السلطة ، فكل قاض لا سلطان لأحد عليه إلا الله و ضميره و القانون ، و هذا ما يميز هذه السلطة عن المؤسسات التي تلتزم بنظام التسلسل الرئاسي . و كما أن الأقدمية ليس لها أي دور في ممارسة القاضي لمهنته؛ فإنها ليس لها دور أيضا في توليه وظيفته ، فلا يوجد منصب في السلطة القضائية يتولاه شخص بموجب أقدميته سوى منصبي رئيس محكمة الاستئناف العامل و عضو مجلس القضاء الأعلى . أما الغالبية العظمى من المناصب فجميعها بالاختيار و مثالها : منصب رئيس محكمة النقض ، ومنصب النائب العام ، و نواب رئيس محكمة النقض ، و قضاة محكمة النقض، ومساعدي وزير العدل ، ومدير التفتيش القضائي ،وأعضاء التفتيش القضائي ،وأعضاء تفتيش النيابات ، ورؤساء المحاكم الابتدائية ، و النواب العامين المساعدين ، والمحامين العامين الأول ، والمحامين العامين ، و رؤساء النيابة العامة ، و رئيس المكتب الفني بمحكمة النقض ، ورئيس نيابة النقض ، وأعضاء المكتب الفني بمحكمة النقض ، وأعضاء نيابة النقض ، والمعارين بالخارج ، والمنتدبين للعمل داخل وخارج السلطة القضائية ، كل أولئك يتولون مناصبهم بالاختيار من بين أقرانهم و ليس بالأقدمية ، فأين ذلك التقليد الراسخ الذي يدعيه البعض !!! فحتى الترقي لا يكون بناء على الأقدمية و إنما تشترط فيه الكفاءة ؛ فمن لم يسمح تقرير كفايته بالترقي لا تشفع له أقدميته ويسبقه زملاؤه الأحدث منه . كما أن الدوائر بالمحاكم لا تشكل بالأقدمية وإنما يختار القاضي من يعمل معه ، و لا يوزع العمل على القضاة بالأقدمية ، فعلى سبيل المثال عندما تكون هناك دائرة بالمحكمة يتزاحم عليها قاضيان فهل نختار لرئاستها القاضي الأقدم ( و لو كان قد قضى عمره كله بعيدا عن منصة القضاء ) أم نختار لرئاستها القادر على إدارتها ؟؟ كذلك فإن صوت أقدم قاض في الجمعيات العمومية يتساوى وصوت أحدث قضاتها . بل إن أندية القضاة ذاتها ليس الممثلون فيها لكل فئة هم الأقدم من هذه الفئة ، و إنما من يقع عليهم اختيار زملائهم ، والأمثلة على ذلك لاتنتهي. إن لكل منصب قضائي اشتراطات فلا يجب أن يسند المنصب إلى من ينوء بحمله ؛ و إنما يكلف به القادر عليه ، و كل ما علينا هو أن نضع ضوابط لحسن الاختيار بحيث يكون الشخص مؤهلا لشغل هذا المنصب ، و أن نحيطه بضمانات تؤكد نزاهته وحيدته و تباعد بينه و بين كل وسائل التأثير . و هذا هو ما انتهجته لجنة مراجعة قانون السلطة القضائية برئاسة شيخنا الجليل أحمد مكي ، فاللجنة لم تهدر الأقدمية في شغل أي منصب كما يدعي البعض؛ فالأقدمية في الأصل لم تكن تحكم الاختيار في الغالبية العظمى من المناصب القضائية . وإنما ما قامت به اللجنة هو أنها نزعت من السلطة التنفيذية اختصاصها باختيار بعض شاغلي المناصب العليا (كوظيفة النائب العام و مدير التفتيش القضائي ورؤساء المحاكم الابتدائية) وأسندته إلى جماعة القضاة ؛ حتى تكون جميع شئون القضاة بأيديهم . بل إن اللجنة ضيقت من دائرة الاختيار التي كانت متاحة للسلطة التنفيذية وحددت في القانون القضاة الذين يتم الاختيار من بينهم ؛ حتى تتفادى تنافس القضاة على الترشح لمنصب معين كما يجدث عادة في الانتخابات ، وتتفادى أيضا عيوب الأقدمية و التي قد تأتي بغير القادر على تولي المسئولية المسندة إليه . و جعلت القاعدة في التصويت هي السرية حتى لا يكون هناك حرج في الاختيار . و لا شك في أن ما سلكته اللجنه لا يحول بين القضاة المؤمنين بمبدأ الأقدمية وبين اختيار الأقدم إن شاؤوا ؛ فكل ما هنالك أنهم لم يحرموا من الحق في استبعاد من يرونه غير قادر على تولي المنصب .. و لن يكون ذلك بالطبع إلا لأسباب وجيهة يقدرها القضاة .. أي ان الأقدمية صارت اختيارا متاحا للقاضي ، ولا أعرف سببا يجعل المؤمنين بها يسقطون حقهم في اختيارها و يأبون إلا أن تفرض عليهم . إنه من اللافت للنظر أن قضاة لم يعترضوا يوما على أن يختار أحد ممثلي السلطة التنفيذية من يتولى المناصب العليا في سلطتهم القضائية نراهم اليوم منزعجين من منح القضاة حق الاختيار . و كأنهم ألفوا حكم الفرد و استسلموا له ، أو كأن ثقتهم في قدرة السلطة التنفيذية على الاختيار أكبر من ثقتهم بأنفسهم ، و هم يشككون في قدرة القضاة على الاختيار رغم أن التقدير هو أساس عمل القاضي . فهل المداولة سوى تقدير لوجهات النظر المختلفة ثم اختيار لما تراه الأغلبية أصوب !!!. إن الاختيار لتولي أي منصب لابد أن يكون للأكفأ، لا للأقدم و لو كان غير كفء ، و إلا ضاعت الأمانة . فلقد روي أن رجلا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه و سلم- يسأل عن الساعة فقال له -صلى الله عليه و سلم- " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ، قال و كيف إضاعتها؟ قال إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة " ، و لا أعتقد أن هناك ما هو أفضل من أن يسند إلى قضاة اختيار زملائهم ، فمن أحرص منهم على هيئتهم !! فتلك هي الشورى التي يجب أن يحتكم إليها ، و التي اختارها الله تعالى اسما لإحدى سور القرآن الكريم ووصف فيها المؤمنين بأنهم" أمرهم شورى بينهم " ، فالأمة لا تجتمع على باطل ، فما بالكم بقضاة هذه الأمة ، و قد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول لصاحبيه لو اجتمعتما على رأي ما خالفتكما ، وذلك بالطبع إعلاء لقيمة الشورى التي يرفضها البعض . فهل لنا أن نعيد النظر في ترديد عبارة " الأقدمية مبدأ قضائي؟ ".