أتوقف أمام مقولة بيرم التونسى: «الأغنية مدرسة تستطيع أن تعطينا قيماً سليمة.. أو تدس لنا سموماً خبيثة»، وعلى بساطة الكلمات فإنها تحمل نفس الرسالة المطلوب تكرارها فى يومنا هذا.. وكأننا لم نتطور وكأننا كما نحن بل نتراجع.. أقرأ قصائد بيرم وأحس بأنه يكتبها اليوم دون مزايدة أو نقصان.. فى قصيدة «فى الطريق.. أربع عساكر جبابرة يفتحوا برلين، ساجين بتاعة حلاوة جاية من شربين، شايلة على كتفها عيل عينيه وارمين، والصاج على مخها يرقص شمال ويمين، إيه الحكاية يا بيه؟، جال خالفت الجوانين؟ اشمعنى مليون حرامى فى البلد سارحين؟ يمزعوا فى الجيوب ويفتحوا الدكاكين، اسأل وزير الشئون ولا أكلم مين؟». قصيدة ناطقة بالأزمة كأنها تكتب اليوم.. بيرم ولد فى 23 مارس 1893 فى الإسكندرية من أصول تونسية، ربطت صداقة بينه وبين سيد درويش وكتب له عدة أغان أصدر صحيفة «المسلة» بعد ثورة 1919 التى اتسمت بالنقد اللاذع، وكتب فيها «أنا المصرى كريم العنصرين بنيت المجدين الأهرمين جدودى أنشدوا العلم العجيب ومجرى النيل فى الوادى الخصيب»، ولكن السلطان أمر بمصادرة جريدة «المسلة» بعد أن نشر بيرم قصيدة «البامية الملوكى والقرع السلطانى» ويؤكد فيها أن وريث العرش الجديد وهو الملك فاروق ولد بعد أربعة شهور فقط من الزواج، وبعد ثلاثة أسابيع من توقف «المسلة» أصدر بيرم صحيفة «الخازوق» واستمر فى نقده اللاذع لكل ما هو فاسد وصولاً إلى رأس الدولة، ولم يجد السلطان حلاً سوى أن يتصل بالقنصلية الفرنسية التى كانت تتدخل فى شئون مصر بزعم حمايتها للأجانب وقد اعتبر السلطان بيرم التونسى أجنبياً لأن أصوله تونسية نسبة إلى أبوالجد وغير مصرى ولم يحصل على الجنسية المصرية وبهذا يكون تحت الحماية الفرنسية وبالتالى تم طرده يوم 25 أغسطس عام 1920 وترحيله إلى تونس، دون أن يسمح له بوداع أهله، وكان عمره «27 عاماً»، ثم بعدها ذهب إلى فرنسا، وقال عن غربته قصيدته الشهيرة: «غلبت أقطع تذاكر وشبعت يا قلبى غربة»، وظل بيرم غريباً فى وطنه مصر حتى منحه الرئيس جمال عبدالناصر الجنسية المصرية عام 1954 بعد أن تسلم حكم مصر.. وكان عمر بيرم 61 عاماً، وفى عام 1960 منحه ناصر جائزة الدولة التقديرية ثم رحل فى 5 يناير 1961 عن عمر 67 عاماً، تاركاً تراثاً هو الرائد والفاتح لمدرسة شعر العامية المصرية.. متجاوزاً كل الكلاسيكيات.. والتى منها تفرعت إبداعات العمالقة صلاح جاهين وفؤاد حداد وسيد حجاب والأبنودى وفؤاد قاعود وغيرهم. أما أغانيه فلاتزال تتجدد لصدقها الفنى العجيب، وكانت صداقته القوية بالموسيقار زكريا أحمد دافعاً لدفع أشعاره للغناء فقد وجد فى زكريا خير من يحافظ على أغانيه ويقدمها بأعلى مستوى، كتب بيرم لأم كلثوم التى قالت عنه «هو أمير شعراء الزجل» وغنى له عبدالوهاب وفريد الأطرش وغيرهما، وكتب المونولوجات الانتقادية مثل «هتجن ياريت يا اخونا مارحتش لندن واللا باريس».. و«يا أهل المغنى دماغنا وجعنا».