يعتمد الاقتصاد الاسرائيلي على عاملين مباشرين؛ العامل الأول هو هجرة اليهود الى اسرائيل. والعامل الثاني هو الانتشار اليهودي في العالم. يحمل المهاجرون اليهود الى اسرائيل علوماً وخبرات، اضافة الى رؤوس أموال تضخ في تطوير الاقتصاد الاسرائيلي ودفعه الى الأمام. ويفد معظم هؤلاء المهاجرين من دول متقدمة علمياً ومتطورة صناعياً. وعلى سبيل المثال، فانه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، هاجر الى اسرائيل نحو المليون يهودي روسي. كان من بينهم علماء وأطباء ورجال مال وأعمال وفّروا قوة دفع قوية للاقتصاد الاسرائيلي. ثم ان القانون الاسرائيلي الذي يعتبر كل يهودي في العالم مواطناً بمجرد ان تطأ قدماه أرض اسرائيل، يمنح الملاذ الآمن لرجال الاعمال اليهود الذين يواجهون مشاكل وصعوبات في دولهم الأصلية. فيهاجرون الى اسرائيل حاملين معهم أموالهم وعلاقاتهم الدولية وخبراتهم. ثم ان كثيراً من رجال الاعمال اليهود في أوروبة والولاياتالمتحدة الذين يتمتعون بازدواج الجنسية، يضعون رِجْلاً في اسرائيل ورِجْلاً في دولهم الوطنية الاخرى، مما يوفر مصدر اغناء للاقتصاد الاسرائيلي. اما يهود الدياسبورا والذين لا يزيد عددهم كثيراً على عدد يهود اسرائيل، فان انتشارهم في العالم (وبخاصة في العالم الغربي: الولاياتالمتحدةكنداروسيا الاتحاد الأوروبي وبعض دول أميركا اللاتينية) يشكل رأس جسر للعلاقات الاسرائيلية مع هذه الدول. وهم يلعبون دور المروّج للانتاج الاسرائيلي، ودور المشجع للاستثمار في اسرائيل، اضافة الى الادوار السياسية والاعلامية العديدة الاخرى. ولذلك فبقدر ما تشجع اسرائيل اليهود على الهجرة اليها، فانها تشجع في الوقت ذاته على التواصل الدائم مع اليهود المنتشرين في العالم (الدياسبورا). يحتاج الاقتصاد الاسرائيلي، كأي اقتصاد آخر، الى التوظيفات المالية والى الخبرات الفنية للانتاج، كما يحتاج الى الأسواق لتصريف هذا الانتاج. ولأن القدرة الاستهلاكية الاسرائيلية محدودة، اذ ان عدد سكان اسرائيل لا يزيد على سبعة ملايين ونصف المليون، فان اسرائيل تبحث دائماً عن أسواق فيما وراء البحار. كان للرئيس الاسرائيلي الحالي شيمون بيريز نظرية للتسوية السياسية في الشرق الأوسط تقوم على أساس يوفق بين التقدم التقني الاسرائيلي والوفرة المالية العربية (من عائدات النفط)؛ أو على اساس ما سماه التكامل بين 'الانتاج الاسرائيلي' و'الاستهلاك العربي'. ولكن فشل كل المشاريع السياسية للتسوية حتى الآن، أسقط هذه النظرية. ومع استمرار المقاطعة العربية لاسرائيل، كان لا بد من التوجه الى الاسواق البعيدة. ومن هنا برز دور الجاليات اليهودية في العالم للترويج للانتاج الاسرائيلي من جهة، ولتشجيع الاستثمار في المشاريع الصناعية الاسرائيلي من جهة ثانية. وتحتل اسرائيل المرتبة الأولى في العالم من حيث نسبة الاستثمارات الخارجية الى عدد سكانها. ففي الولاياتالمتحدة مثلاً التي تشجع كثيراً على الاستثمار، تبلغ حصة الفرد الواحد من هذه الاستثمارات 75 دولاراً. أما حصة الفرد الواحد في اسرائيل فتصل الى 170 دولاراً. ويعود الفضل في ذلك الى دور يهود الدياسبورا والى التزامهم باسرائيل وبمشاريعها الانمائية. وهو التزام يأخذ طابعاً دينياً وليس وطنياً فقط. وهذا ما يفسر اتخاذ عدد من الشركات العالمية من اسرائيل مقراً لها، مما يوفر عشرات الآلاف من فرص العمل. وبالمقارنة مع هذا الواقع، فان ثمة سؤالاً يفرض نفسه حول علاقة المهاجرين العرب بدولهم الأم. وعلى سبيل المثال، فان أغنى رجل في العالم (استناداً الى دراسة مجلة فوربس) هو مكسيكي يتحدر من أصول لبنانية. ولكنه لا يستثمر في لبنان قرشاً واحداً. ويقدر عدد المغتربين اللبنانيين في العالم بثلاثة أضعاف سكان لبنان البالغ عددهم أربعة ملايين، الا ان هؤلاء يعانون انقطاع التواصل مع وطنهم الام، فكيف بمساعدته على التطوير والنهوض؟ علماً بأن لبنان ينوء تحت عبء من الديون تزيد الآن على الخمسين مليار دولار. وما يقال عن المغتربين اللبنانيين يقال عن المغتربين السوريين والمصريين ايضاً. وحدهم المغتربون المغاربيون (من المغرب والجزائر وتونس) يتواصلون مع دولهم الأم التي تحرص على ادارة شؤونهم العائلية والدينية في بلاد الاغتراب، مما يشجعهم على التواصل، ومن ثم على الاستثمار في مشاريع اقتصادية واجتماعية في أوطانهم. ومما يساعد في ذلك ربما، قصر المسافة بين شمال افريقيا وأوروبة الغربية. فيما يذهب الاغتراب اللبناني والسوري الى أقاصي المعمورة في استراليا والبرازيل والارجنتين. تحاول الدولة اللبنانية مد جسور جديدة مع ملايين المغتربين من خلال قوننة حقهم في المشاركة في الانتخابات البرلمانية والبلدية عن طريق السفارات والقنصليات اللبنانية المنتشرة في العالم. كما تحاول تشجيعهم على الاستثمار في مشاريع زراعية وصناعية منتجة، الا ان التجاوب محدود جداً. وهو يكاد ينحصر في الاستثمار في العقارات ليس الا. وهو الاستثمار المفضل لدى اللبنانيين العاملين في دول مجلس التعاون. وبالمقارنة أيضاً، فان اسرائيل تستقدم العلماء والفنيين ورجال المال والأعمال من اليهود وتشجعهم على العمل فيها ولحسابها، اما لبنان فانه يصدر مثل هذه الكفاءات الى الخارج لعدم قدرة اقتصاده الضعيف على استيعابهم. كذلك فان اسرائيل توظف يهود العالم ليلعبوا دور 'رجل العلاقات العامة' سياسياً ومالياً واقتصادياً واعلامياً، اما لبنان فانه يهدر الثروة البشرية الضخمة والنافذة المنتشرة في شتى أصقاع العالم. وباستثناء القطاع المصرفي فان لبنان يكاد يخلو من أي مؤسسة وطنية اقتصادية كبرى؛ اما في اسرائيل فان شركة واحدة مثلاً، 'تيفا' للتقنيات، تتمتع برأسمال قدره 43 مليار دولار!. هناك عدة حوافز تشجع اسرائيل على استثمار الهجرة اليهودية اليها، والانتشار اليهودي في العالم. هذه الحوافز هي الصراع، بل العداء مع العالم العربي. وقد أدى هذا الحافز الى البحث عن أسواق في العالم؛ كما ادى الى تطوير الصناعات العسكرية وصناعة الالكترونيات المتخصصة في التنصت والمراقبة. وأصبحت الصادرات الاسرائيلية من هذه الأجهزة تحتل المركز الأول في حجم وقيمة صادراتها. ومن هذه الحوافز أيضاً، شح المياه في اسرائيل. مما شجع العلماء اليهود المستقدمين من الدول المختلفة على تطوير اسلوب 'الري المقنن'، وبالتالي الاستثمار الزراعي حتى في الأراضي الصحراوية؛ ويبيع الاسرائيليون التقنية التي طوروها بأعلى الأسعار مادياً وقبل ذلك سياسياً، وخاصة في بعض الدول الافريقية !! 'يقال 'ان الحاجة أم الاختراع'، وحاجة اسرائيل الى الأمن مكّنها من اختراعات آلات قتل حديثة. وحاجتها الى الأسواق علّمتها كيف تستثمر الانتشار اليهودي في العالم لفتح أسواق الدول التي يقيمون فيها أمام الانتاج الاسرائيلي؛ وحاجتها الى المال لتطوير مشاريعها الصناعية الالكترونية الحديثة مكّنتها من استقطاب العلماء اليهود ومن استدراج رؤوس أموالهم وأموال شركائهم للاستثمار في الاقتصاد الاسرائيلي؛ وحاجتها الى المياه مكّنتها من ابتداع أساليب جديدة للري. ولكن اسرائيل 'المدنية' بدأت تتحول الى اسرائيل 'الدينية'، حيث الغلبة والسيطرة فيها للمتدينين المتشددين الذين يُعرفون باسم الحريديم. وهؤلاء لا يعملون. فالحكومة الاسرائيلية تدفع لهم رواتب مالية مقابل دراسة التوراة فقط لا غير. وهم يقضون كل أوقاتهم في الدراسة والإنجاب. وفي الوقت الحاضر يشكل هؤلاء خمسين في المئة من نسبة اليد العاملة أو التي يفترض أن تكون عاملة. وكانوا في عام 1960 يشكلون 15 في المئة فقط. ومن المقدر أن ترتفع نسبتهم في عام 2050 الى ما يزيد على 78 في المئة من القوة العاملة (التي لا تعمل)!! معظم المستوطنين من هؤلاء. ذلك ان عائلاتهم تتضخم باستمرار (بين عشرة واثني عشر فرداً في الأسرة الواحدة)، ولذلك يبادرون الى توسيع منازلهم أو الى الحصول على منازل جديدة بمصادرة أراضي الفلسطينيين وبيوتهم على النحو الذي يجري في القدس ونابلس تحديداً. ومع تنامي قوة الحريديم وتأثيرهم على القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الاسرائيلي، هل يستمر تدفق المهاجرين من العلماء وأصحاب رؤوس الأموال ؟ وهل يستمر تفاني يهود الخارج في خدمة يهود الداخل؟ -المستقبل اللبنانية-