روسيا عشية تنصيب بوتين كان خطاب بوتين أمام أعضاء مجلس الدوما (البرلمان الروسي) أهم حدث في الحياة الداخلية الروسية في نيسان، وهنا يقفز سؤال على الخاطر يفرض نفسه وهو لماذا وجد الرئيس المنتخب لزاما على نفسه الخطابة لمدة ساعتين تقريبا والإجابة كرئيس للوزراء على أسئلة نواب برلمان محتقن؟ شكليا يمكن القول أنه بذلك يثبت إلزامية التقارير السنوية للحكومةأمام البرلمان– ولكن هذا التبرير غير مقنع،فبوتين يعرف أن هناك حربا شاملة معلنة ضده، من قبل تحالف أعداء خارجيين وداخليين، وفي هذه الظروف، كان يمكنه ببساطة القفز على مثل هذه الشكليات. ومع ذلك، إذا عد هذا الخطاب تقريرا، فإنه بالنسبة لبوتين شخصيا حمل طابعا خاصا. في السياق النفسي هذه أول مرة تكون فيها الانتخبات على هذه الدرجة من الدراماتيكية والصعوبة بالنسبة لبوتين، فقد وجهت ضربات موجعة للغاية له ولسمعته، ولتقديره لذاته، بما في ذلك ضربات لم يكن يتوقعها، وقد اعتبر شخصيا أنه لوث بقذارة، وكان قد بدأ – في مرحلة ما – فقدان الثقة بالنفس. لكن فوزه بجدارة في هذه الانتخابات، وحصوله على تأييد واسع من قبل بسطاء وعامة الشعب ( الأمر الذي أقر به حتى الغرب المعادي) أوجد منه بوتي ن اً جديدا إلى حد كبير. ذهب بوتين إلى البرلمان "وكر الدبابير" كي يثبت تفوقه النفسي على خصومه العلنيين والخفيين. انه بحاجة إلى تجربة نفسه في دور جديد تماما. حتى أن أسلوبه في الخطاب شابه إلى حد كبير خطاب أمين عام للحزب الشيوعي السوفيتي في جلسة للجنة المركزية لمناقشة بعض القضايا الاجتماعية والاقتصادية. ومن هنا جاء هذا اللجوء المتكرر في خطابه للتاريخ السوفياتي الغابر. وليس من المهم ما الذي قاله بالتحديد في كلمته: الأهم أن بوتين يستعرض ثقته المطلقة بالنفس. السياق السياسي خطاب بوتين في مجلس الدوما أضحى رسالة هامة موجهة إلى 4 شرائح مختلفة. الأولى، أنها المرة الأولى منذ انتخابات مارس يخاطب ويشكر ناخبيه في جميع أنحاء البلاد عبر خطاب يبث عبر وسائل الإعلام، مؤكدا مرارا أن الأولوية الرئيسية بالنسبة له كانت، ولازالت وستكون رفع مستوى المعيشة لغالبية السكان الروس، و "رفاهية الأسرة الروسية" بالمعنى الأوسع للكلمة، مقرا في الوقت نفسه بأن "المشكلة الرئيسية الكبرى – هي الحاجة إلى تحسين دخل مواطني روسيا الاتحادية". الثانية، توجه في خطابه إلى ميدفيديف والمحيطين به أنه كرئيس للوزراء، يجب أن يتابع مسار الأولويات الخمس التي تم تحديدها من قبل بوتين وإلا .. فإن " الحصان لا يحتمل اثنين". الثالثة، توجه في خطابه إلى (حاشيته) المقربة المنافسين المحتملين ل ميدفيديف الساعين وراء منصب الوريث، بأن معايير الوراثة قد حددت مسبقا. وأخيرا الرابعة، خطاب بوتين أضحى رسالة مباشرة للغرب. اسلوب جديد ونهج جديد - هو، أولا وقبل كل شيء، الدفاع عن السيادة الروسية والعظمة الروسية بكل الوسائل الممكنة: "روسيا يجب أن تكون قوية"، "تعزيز مكانة روسيا في العالم"، والخبر الأسوء للمؤسسة في واشنطن - ومهمة التكامل مجددا مع دول الفضاء السوفيتي السابق. إن أعلن بوتين هذا بعد تنصيبه رئيسا للبلاد، فإن رسالته ستفقد جزء كبيرا من بلاغتها ودلالاتها. في سياق الاستراتيجية أولا بالنسبة لبوتين، الأكثر فائدة أن يتم الإعلان عن انتهاء مرحلة " ما بعد الاتحاد السوفياتي" فيما لا يزال رئيسا للوزراء، وبناء على ذلك، سينطلق شيئ ما مختلف جذريا مع بدء ولايته الرئاسية. ثانيا، تعزيز دور الدولة، بالدرجة الأولى في مجال الإعداد التعبوي: " سوف تستثمر الدولة مباشرة في مجالات تطوير التكنولوجيا ودعم الصناعات الحيوية المهمة". ثالثا، ينطلق بوتين من حقيقة أن التحديث والتطوير التكنولوجي المتسارع لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التنمية المتسارعة للمجمع الصناعي العسكري. ومن هنا جاءت عبارته الواضحة: "الابتكار (الاختراع)- بشكل رئيسي من خلال تنفيذ المتطلبات الدفاعية". رابعا، الإشارة إلى التشدد في المسار المستقبلي في ظل ارتفاع الغموض الاستراتيجي. ومن هنا، جاء تركيزه الخاص: "سوف نوقف بحزم التجاوزات في هيئة التصنيع العسكري: فالفساد في هذا المجال غير محتمل على الإطلاق" (واضح هنا تهديده ل روغوزين* و"عصابته" – إياكم والسرقة!). مثال آخر: "يجب ان نعطي مسألة الفجوة في دخول المواطنين بين الأغنى والأفقر أكبر قدر من الاهتمام. حيث توجد هنا مخاطر كبيرة - اجتماعية، وسياسية، واقتصادية ". خامسا، إذا كانت الميزانية المستقبلية ستبنى من خلال عدد معين من البرامج الحكومية، فإنه عاجلا أو آجلا، سيطرح سؤال عن مركز السيطرة على برامج الدولة هذه. سادسا، للمرة الأولى خلال كل هذه السنوات الاثنتي عشرة، يذكر بشكل متعمد ويشدد على موضوع بالغ الأهمية: "... إن لم نستعد العلاقات التقليدية في القيم الأخلاقية الأساسية، فإنه لا يمكن لأي تدابير من السياسات الاقتصادية والاجتماعية أن تحقق نتائج ثابتة." على خلفية هذا الخطاب البوتيني فائق الأهمية فإن الأسابيع الأخيرة المتبقية لميدفيديف في منصب الرئيس الروسي لم تثير سوى الضحك والشفقة في أوساط النخب. الرجل الذي لم يستطع منع الحرب الشرسة بين سفيتلانا ميدفيديفا وتيماكوفا، أدلى بتصريحات عديدة، ليس فقط كرئيس للوزراء في المستقبل، ولكن كما لو كان الوريث الشرعي الوحيد. عدد كبير من تصريحاته أشبه بهذيان حقيقي، تبين أن ميدفيديف محروم ليس فقط من ملكة التفكير الاستراتيجي، ولكن أيضا لديه فكرة خاطئة جدا عن القواعد الفعلية للصراع الداخلي. بالنسبة لبوتين من المفيد جدا في الوقت الراهن إظهار ميدفيديف كرئيس وزراء ضعيف القدرات، لأن مهمته الرئيسية – هي الحيلولة دون حدوث شرخ أو انقسام حاد في الدائرة المقربة منه. وقد التقى علنا مع ياكونين، الذي يدخل في هذه الدائرة، والتقى سرا مع بعض المقربين الآخرين. رسالة بوتين السرية واضحة: ميدفيديف – لن يعين خلفا (وريثا) لوقت ما، وستكون قواعد اللعب واحدة للجميع. وسيفوز في النهاية، من سيساعد بوتين في الوصول لهدفه الاستراتيجي الرئيسي. بداية أبريل/نيسان ... في موسكو، جرت مراسم الجنازة والوداع المهيب لليونيد شيبارشين – أحد أبرز وأذكى رجال المخابرات السوفياتية، الرجل الذي عرف عن كثب كيفية استخدام تقنيات التفكير الاستراتيجي والتخطيط الاستراتيجي. شيبارشين كان يدرك تماما أن الصراع الحقيقي في التاريخ، والزمن التاريخي كان دائما على المستوى الاستراتيجي، كان رجلا وطنيا حقيقيا من الذين حاربوا بصدق من أجل بلادهم، ورحل كوطني غير راض عن الذل والمعاناة الذي تعرضت له بلده روسيا. اتجاهات بوسط أورآسيا آسيا الوسطى هي إحدى أهم الجوائز في اللعبة الاستراتيجية طويلة الأمد. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تطلعت جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة للولايات المتحدة باعتبارها شريكا رئيسيا يمكن أن يساعدهم في الحصول على وضع دولي جديد. لكن بعد 20 عاما، تغير الوضع في المنطقة. وأعلنت روسيا البوتينية عن المنطقة باعتبارها منطقة مصالح حيوية لروسيا. التنافس بين الصين والهند ينتقل تدريجيا إلى آسيا الوسطى. كما أن إيران تظهر بوضوح مطامحها في حصة. ولكن، في المحصلة، ستفوز تلك القوى الإقليمية والعالمية التي تكون قادرة على إقامة اتصالات وثيقة مع جماعات النخب المتنافسة في آسيا الوسطى. في الوقت الذي تتكثف فيه الصراعات بين الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى (أوزبكستان - طاجيكستان وأوزبكستان - قيرغيزيا، اوزبكستان - كازاخستان)، فضلا عن نشاطات عصابات مافيا الهيرويين الأوروآسيويةالقوية جدا في هذه المنطقة، فإن التوترات الداخلية المتزايدة في العامين المقبلين يمكن أن تؤدي إلى حرب إقليمية كبيرة جدا. كالسابق تبقى أفغانستان نقطة الانطلاق الرئيسية للهجمة الأمريكية على آسيا الوسطى. في 22 أبريل تم الفراغ نهائيا من اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين واشنطن وحكومة قرضاي. وتعهد الامريكان لكابول بمساعدات مالية تبلغ 2.7 مليار دولار سنويا حتى العام 2024م. وستشرف الولاياتالمتحدة كذلك على إعداد الجيش والشرطة الافغانيين، وفي المقابل ستحصل على حق استخدام القواعد العسكرية الرئيسية في أفغانستان، لا سيما في الشمال. يشير الاتفاق إلى أنه بالإضافة إلى المدربين العسكريين ستتواجد في هذه القواعد قوات عسكرية خاصة، لها كامل الحق في إجراء عمليات خاصة في جميع أنحاء أفغانستان، وستربض في مطار باغرام مجموعة من الطائرات بدون طيار. وهكذا، فإن الأميركيين سيحصلون على قاعدة عسكرية تخولهم التدخل مباشرة، ليس فقط في أفغانستان، في حالة حدوث تطورات سلبية، بل للسيطرة على المدى الطويل على كل آسيا الوسطى المضطربة. وبالإضافة إلى ذلك، تلقت واشنطن عاملا إضافيا هاما في مواجهة خطة بوتين في إقامة الاتحاد الأوراسي. وأخيرا، فإن إصرار الولاياتالمتحدة بشكل خاص على استمرار وجودها في شمال أفغانستان تحديدا، يؤكد التكهنات بشأن الصلات المتينة التي تربط بين بعض النخب الأمريكية وكارتيلات (عصابات)الهيروين. كما قال احد المحللين الأمريكان المختص بشؤون آسيا الوسطى: "نحن نعرض دفع ثمن رخيص جدا من أجل الإبقاء على نفوذنا في المنطقة، وعدم ترك هذا البلد كما فعل الاتحاد السوفياتي سابقا". بعد ساعات قليلة من الاعلان عن توقيع الاتفاق، وزعت حركة "طالبان" بيانا خاصا، اتهمت فيه كرزاي بخيانة المصالح الوطنية، جاء فيه " بإصرارهم على توقيع الاتفاقية فإن الاميركيين يريدون توفير وصول آمن إلى حقول النفط في آسيا الوسطى وبحر قزوين، والحيلولة دون قيام حكومة إسلامية حقيقية، وتثبيت الليبرالية في أفغانستان وقواعد السلوك العلمانية ". على ما يبدو، فإن الجزء الأكبر من النخب الباكستانية ينجرف أكثر فأكثر باتجاه النفوذ الصيني. ربما ستحمل الأشهر القليلة القادمة، انفصالا نهائيا في العلاقة بين قيادة الجيش والنظام في إسلام آباد، والتي تم بناؤها أصلا بواسطة الأميركيين. ووفقا لتقارير سرية، فإن باكستان عرضت على طهران الدعم الدبلوماسي والعسكري في حالة المواجهة مع القوى الغربية، وأكدت أنه لن تسمح باستخدام القواعد العسكرية الامريكية التي على أراضيها للهجوم على ايران. العلاقة بين البلدين تتعزز على الصعيد الاقتصادي: يجمعهم مشروع انابيب الغاز المشترك، الذي سيمر بأراضي إيرانوباكستان والهند والصين. والأهم أن تنفيذ هذا المشروع سيتم بمشاركة مالية روسية. حكومة طاجيكستان، بدورها، لا تنوى الخضوع لإملاءات واشنطن الاقتصادي الموجهة ضد إيران، والتي يمكن أن توجه ضربة خطيرة للاقتصاد الطاجيكي. فهذا البلد الفقير ببساطة لا يمكنه الاستغناء عن العلاقات الاقتصادية مع أحد شركائه التجاريين الرئيسيين. وفي الوقت نفسه تبحث ايران بعد تعرضها لضغوط اقتصادية غربية بنشاط عن خيارات جديدة من شأنها أن تسمح لها بالهروب من القمع الاقتصادي الغربي. طهران تقدم الآن ل دوشانبيه (عاصمة طاجيكستان) مشاريع في السكك الحديدية والطاقة والمياه، ويمكنها أيضا الاعتماد على دعم باكستاني. أذربيجان وجورجيا تشهدان وضعا مختلفا كليا. فقد حافظت باكو دائما على علاقة مميزة مع إسرائيل، والتي كان أساسها تبادل النفط مقابل السلاح. بعض أعضاء الإدارة الأمريكية أعلن بأن إسرائيل سوف تمتلك إمكانية الوصول للقواعد العسكرية في أذربيجان التي يمكن أن تكون نقطة ارتكاز هامة للهجوم على ايران. نفت الحكومة الأذربيجانية نفت رسميا هذه المعلومات. أما بالنسبة لجورجيا، فيقول فلاديمير بوتين في مقالته المنشورة في فبراير قبل الانتخابات الرئاسية صراحة أن " الصراع على الحدود الروسية، جاء بمبادرة غربية"... وهكذا، فإن الأميركيين في هذه المنطقة على الأغلب يتراجعون أكثر مما يحققون مكاسب. على سبيل المثال، إيران تبدأ في لعب دور متزايد في العديد من المشاريع المتنوعة، بما في ذلك النقل والطاقة. ومهما بدا عليه الأمر فإن العقوبات الحالية ضد إيران لا تبدو فعالة بشكل خاص. الهند، التي تسعى الولاياتالمتحدة للعب على وتر تنافسها مع الصين، لم تتخل عن شراء النفط الإيراني، مسددة ثمنه بالذهب. مؤخرا حذرت كل من موسكو وبكين حلف شمال الأطلسي من أي محاولات للتدخل العسكري في إيران، فيما كان بيان الرئيس الروسي المنتخب حديثا فلاديمير بوتين بمثابة تهديد مباشر: "إن حدث هذا، فإن العواقب ستكون كارثية حقا..من المستحيل أن نتخيل مداها الحقيقي ".