تمر ذكرى نكبة فلسطين، واغتصاب الوطن وتهجير معظم أهله. قد تتغير بعض تجليات النكبة، لكن حقائقها عنيدة تستعصي على الطمس والإنكار. فمن ناحية، لا يزال الأحياء من اللاجئين وأبنائهم يعيشون في مناطق الشتات الفلسطيني متشبثين بمفاتيح وكواشين طابو (وثائق ملكية) منازلهم بانتظار يوم العودة إلى الوطن الذي اختلط ترابه منذ آلاف السنين بعظام أجدادهم وعرق آبائهم، واكتسب ملامحهم وانطبعت بصماتهم وخطواتهم وأنفاسهم في رباه ووهاده وحقوله ونسماته. ومع هؤلاء نحو ملايين من الأبناء والأحفاد الذين لم يستنشقوا يوما عبير البلاد ولم تكتحل عيونهم برؤية مدنها وقراها ومنازلها، لكنهم لا يرون لأنفسهم هوية أو مصيراً أو مستقبلاً غير ذلك الوطن. مآزق الاستيطان! من ناحية أخرى، يواجه مشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين مأزقاً تاريخياً مشتركاً مع كل مشروعات الاستعمار الاستيطاني التي فشلت في القضاء على الشعوب الأصلية بمناطق الاستيطان؛ فقد كان التفكك مصير هذه المشروعات بالجزائر وروديسيا (زيمبابوي) ونظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا. وفي العصور الوسطى، تفككت وانهارت مشروعات الاستيطان الأوروبي في الشرق العربي، والتي سماها الأوروبيون "حملات صليبية"، وسماها العرب "حروب الفرنجة"؛ فهي لم تكن أكثر من حروب همجية في سبيل النهب والاستيطان، ولا علاقة لها بالصليب أو بأي مقدس. ولا يبدو في الأفق التاريخي والاستراتيجي ما يستثني المشروع الصهيوني من ذات المآل، بصرف النظر عن المساحة الزمنية التي يستغرقها الفعل التاريخي. فقد نما شعب فلسطين سكانياً داخل وخارج وطنه، فتجاوز عديده عدد الإسرائيليين بملايين. وحتى داخل حدود فلسطين التاريخية، يفوق عدد الفلسطينيين عدد اليهود، مما يشكل أزمة ديموغرافية مستمرة لإسرائيل، تنعكس بوضوح في برامج وسياسات حكوماتها في السنوات الأخيرة. كذلك، يتمتع الفلسطينيون كشعب بمستويات تعليم عالية، وقدرة على الصمود والتكيف، وحركة وطنية متجددة بتعبيرات فكرية متعددة، وتراكم خبرات سياسية ونضالية مركبة، وجذور ممتدة في العمق العربي والإسلامي والإنساني، وانتماء لأمة تتسع قدراتها على الإبداع والمقاومة. يضاف إلى ذلك قدرة الشعوب على الاستجابة للتحديات التاريخية، والتكيف معها، واسترداد زمام المبادرة والفعل التاريخي. ورغم الديباجات التي قدمتها الصهيونية كمبررات لمشروعها الاستيطاني: الوعد الإلهي (أرض الميعاد)، والحق التاريخي لليهود، وأرض بلا شعب لشعب بلا أرض، والتعويض عن الاضطهاد الأوروبي والمحرقة النازية؛ لم يكن لهذا المشروع أن يتحقق خارج سياق وغايات ومصالح المشروع الامبريالي الأنجلوأميركي. ويظل الارتباط بين المشروع الصهيوني والامبريالية بمعظمه ارتباطاً مصلحياً وظيفياً، وليس عضوياً. كذلك، لم يكن للكيان الصهيوني الاستيطاني أن يتحقق بدون قدر هائل من العنف المتراوح بين الإبادة والردع. وهكذا يبقى الكيان الصهيوني النظام الفاشي الوحيد في العالم، والمستند أساساً إلى "قوة القهر" أو "القسر" المميزة للنظم الفاشية عموماً، كما يقرر جوزيف ناي، المفكر الأميركي المحافظ. ويمثل الاحتلال الصهيوني الاستيطاني آخر ما تبقى في العالم من الإرث البشع لقرني الاستعمار (الثامن عشر والتاسع عشر)، وأخذ ينهار بنهاية الحرب العالمية الثانية، وانهارت معه أوهام التفوق العرقي الأوروبي، وأعباء الرجل الأبيض للارتقاء بشعوب الملونين. يفاقم أزمة المشروع الصهيوني افتقاده لمبررات الاستمرار التاريخية والحضارية خارج نموذج الصراع والنفي الدارويني (البقاء للأقوى)، وخارج سياق الهيمنة الامبريالية حيث يتموضع كمخلب قط ضمن مثلث الخطر والتهديد والابتزاز، فإسرائيل بامتياز "الدولة الوظيفية" أو "دولة القاعدة الاستعمارية". يدفع ذلك بالمؤسسة الصهيونية للقفز إلى الأمام بمزيد من المجازر والاغتيالات والقمع والاقتلاع وهدم المنازل وتجريف الحقول والحصار والتجويع. لكن كل الركام والأنقاض لن تفلح في دفن أو إخفاء مآزق الاستيطان الصهيوني. ويظل التحدي الأكبر لهذا الكيان في تحقيق قبول عام به في المحيط البشري العربي حوله، وخصوصا داخل الوعي الجمعي لشعب فلسطين وحركته الوطنية. وهذا ما لم يتحقق أبداً. ويبقى العنف المتصاعد سبيلاً وحيداً لاستمرار هذا الكيان، وهو مأزقه الأول كذلك. هل تعيش إسرائيل 100 عام؟ في ذكرى قيام الكيان الصهيوني منذ بضعة أعوام، كتب المثقف اليهودي الأميركي، بنجامين شوارتز، مقالاً مفصلياً بمجلة "أتلاتنك منثلي"، بعنوان "هل تعيش إسرائيل مائة عام؟"، شكك فيها الكاتب بإمكانية نجاح تسوية على أساس الدولتين، وطرح التهديدات والأخطار التي قد تحول دون أن تكمل إسرائيل عامها المائة. تضم هذه التهديدات الخطر الديموغرافي الفلسطيني، والخطر الإيراني، وخطر المقاطعة الاقتصادية والثقافية والأكاديمية، وخطر الصراع العلماني الديني، وخطر تمرد المتدينين الصهيونيين على خطط الدولة تجاه الاستيطان ورسم الحدود أحادياً. فالصراع الفلسطيني-الصهيوني (بتعبير شوارتز) عميق الجذور، وسيبقى متفاقماً حول قضايا الأرض والسكان. وإن كان مؤسسو الصهيونية قد رفعوا شعاراً لافتاً في غبائه "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض،" بيد أنهم كانوا مدركين أن تحويل أرض عربية إلى دولة يهودية يقتضي قلب الواقع الديمغرافي بزراعة كتلة سكانية أجنبية ضخمة، ثم بلغة العصر "ترانسفير" أو طرد أعداد كبيرة من سكان فلسطين الأصليين، طوعاً أو قسراً، من المناطق المستهدفة للدولة اليهودية... ولا يزال رفض أي دولة يهودية في فلسطين هو المحدد الأهم للحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشأتها في 1920 وحتى بداية التسعينات. ويعتقد كثير من الإسرائيليين أن هذا الرفض لا يزال يشعل تلك الحركة حتى الآن. ووفقا للمؤرخَيْن الإسرائيليين باروخ كيمرلنغ وجول ميغدال، يبقى المبدأ الأساس للفكرة "الفلسطينية" هو حق العودة لحوالي سبعمائة ألف لاجئ فلسطيني شتتوا من الأرض "الإسرائيلية" في 1948 وذراريهم، وهم الآن كتلة سكانية قد تبلغ نحو 5 ملايين فلسطيني)، وهذا إن وقع فعلا يعني نهاية الأغلبية اليهودية في إسرائيل. يرى شوارتز أنه حتى لو أمكن الوصول إلى تسوية شاملة، فإن آفاق إسرائيل بعيدة المدى تبدو بائسة، ... فدولة فلسطينية مستقبلية محشورة بين الخط الأخضر والأردن وفي قطاع غزة ستواجه نمواً سكانياً فلكياً. فسكان غزة يتضاعفون كل جيل [20 عاماً]، ويبدو مؤكداً حدوث تدفق هائل للاجئين يعيشون في البلاد العربية، معظمهم الآن في الأردن وسوريا ولبنان، إضافة إلى ندرة المياه والظروف الاقتصادية الصعبة. وستغلق تماماً وبالقوة فرص وصول العمالة الفلسطينية لإسرائيل؛ وإلا ستطيح الهجرة الفلسطينية الزاحفة إلى إسرائيل، على نمط الهجرة المكسيكية للولايات المتحدة، بجهود الحفاظ على يهودية الدولة. بل إن عددا من المراقبين الواقعيين للشأن الإسرائيلي، ومنهم الجنرال غيورا إيلاند مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، يتشكّكون بوجود ما يكفي من الأرض والموارد بين نهر الأردن والبحر الأبيض، لاستدامة دولتين سياديتين قابلتين للحياة. وفي أماكن قليلة بالعالم، تستدعي الظروف تطوير علاقة تكافلية بين شعبين؛ لكن فرصها هناك أبعد ما تكون عن التحقق. يجادل شوارتز بأن الدولة الفلسطينية المستقبلية التي ستواجه اقتصاداً كارثياً وازدحاماً حاداً، سينتهي بها الأمر نحو محاولة استرداد الأرض "الإسرائيلية". فالقادة الفلسطينيون الساعون إلى مراجعة أوسع لتوزيع الأرض سيجادلون - بلا شك- بأن الخط الأخضر ليس إلا خط وقف إطلاق النار، وليس حدودا دولية؛ وأنه يكافئ إسرائيل بأراض كسبتها في الحرب؛ وأنها لا تطابق حدود قرار الأممالمتحدة بالتقسيم والذي تأسست عليه الدولة اليهودية. وكان دافيد بن غوريون دائما يحث شعبه على القبول بأصغر دولة يهودية، تقوم بدور نقطة الانطلاق للتوسع المستقبلي. وقد رأى بن غوريون أن فلسطين تؤخذ على مراحل. واليوم يشعر الإسرائيليون بخوف (مفهوم) من أن تُسترَد منهم فلسطين، وبنفس الطريقة قطعة فقطعة، عن إرادة وتصميم أو استجابة لضرورات. هل يهودية الدولة حتمية؟ يخلص شوارتز إلى أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي -ببساطة- "غير قابل للحل." فعند مستوى معين، يبدو أكثر الإسرائيليين وعياً مدركين لهذه المخاطر المستقبلية. وفي الحقيقة، ومن خلال المحادثات مع إسرائيليين في اليسار واليمين "المعتدل"، في الأوساط الأكاديمية والعسكرية والأمنية والحكومية، تفاجأ بتصريحاتهم المتشائمة حول انعدام الأفق أمامهم كشعب، ومخاوفهم إزاء مستقبل الدولة التي سيعيش فيها أبناؤهم. ولكن أكثر ما يفاجئك هو تكرار عبارة يقولونها –رغم وطنيتهم- بحسرة وأسى: "كان يجب أن نقبل بأوغندا!" (التي عرضها البريطانيون على القيادة الصهيونية في 1903). يبين التاريخ أن كثيراً من المشكلات لا حل لها، وهي حقيقة لا يستطيع الأميركيون سبر غورها. بيد أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الممتد لقرن هو قصة شعبين، لكل منهما "مزاعمه المعقولة"، بتعبير شوارتز، تجاه نفس قطعة الأرض؛ وكل جانب في تلك القصة تقريباً يؤشر على أنه في النهاية، ولأجل أن تتحقق خسارة وتعاسة الشعبين معاً وإقليمهما أيضاً وربما العالم كله، فإن تطلعاتهما وغاياتهما لا تجنح نحو حل وسط. يشاطر مارك فولمان، معلق يهودي آخر، شوارتز تشاؤمه حول آفاق قيام دولة فلسطينية ناجحة بموازاة إسرائيل نظرا لكثير من الأسباب التي أوردها شوارتز. لكن ذلك لا يعني أن المشكلة كما يرى شوارتز "غير قابلة للحل" بالضرورة. وربما لم يناقش مقال شوارتز إمكانية قيام دولة واحدة، فهذا الحل سيعني نهاية دولة الأغلبية اليهودية. لذلك، ليس متوقعا أن يتخذ يهود إسرائيل هذا المنحى طواعية؛ ولكن يبدو باضطراد أن حل الدولة الواحدة هو النتيجة الوحيدة الممكنة، بل والحتمية، لعقود من التوسع (الاستيطان) الإسرائيلي في أراضي الضفة الغربية. وبينما كان أريئيل شارون وأضرابه يسعون لخلق "حقائق على الأرض" بالاستيطان؛ فقد قامت تلك الحقائق بالفعل، وهي تؤشر باتجاه دولة واحدة، وليس اثنتين! وهكذا يبدو أن هذا الصراع "قابل للحل"، طالما أن الاحتفاظ ب "دولة يهودية" لا يؤخذ به كمسلمة!