مقدمات في البيئة الاستراتيجية للأزمة: أولا – النظام السوري دموي وفاقد للشرعية، نظام يعتمد مزيجا من الدولة الشمولية، والصبغة الطائفية التي تشتبك مع الاستئثار العشائري والسلطوي أكثر من البعد الأيديولوجي. ثانيا – النظام السوري لم يكن يتحرك في البعد (الممانع) خطابا أو دعما لحركات المقاومة بشكل غائي، ولكن كوسيلة استراتيجية للصمود الإقليمي كنظام وتمتين حيز من الشرعية الداخلية. خصوصا أن هذه الوسيلة مناسبة للسياق التاريخي والمجتمعي والسياسي لسوريا وحسها القومي. هذا دفع لظهور علاقة (اطمئنان استراتيجي) إسرائيليا تجاه السوري على المسار الأعلى للصراع مع وجود الشد والجذب والتحرشات دونه، ويفسر قلقا إسرائيليا شديدا أول الانتفاضة الشعبية وتوجسها من ذهاب هذا النظام والإتيان بنظام آخر قد تكون عنده من الإرادة السياسية والقابلية الاستراتيجية مايهدد الاطمئنان الاستراتيجي ذلك والمستقر منذ ثلاثة عقود. ثالثا – هذه الفرضية تغيرت عند الإسرائيلي بعد فترة من ظهور الانتفاضة الشعبية لصالح فرضية جديدة لسببين: العلاقات (الإيجابية) بين القوى المعارضة والإسلامية وبين الحالة الغربية والأمريكي، والتي تزداد وثوقا مع الوقت مما يساعد في إعادة تاهيل هذه القوى (خصوصا الإخوان) لتقبل الترتيب الاستراتيجي في المنطقة. ومن الممكن حتى القيام بدور داعم (في حالة وجودهم كنظام سياسي) في تصفية قضية الصراع عبر تتميم عملية (التسوية) بشروط إسرائيلية، أو إبقاء معادلة غزة – الضفة مع حرمان حماس من داعمها الإقليمي المباشر. السبب الآخر – أن وجود الأمريكي والغربي وحلفائهم العرب (قطر بالأخص) كعنصر مرتب وداعم - وممكن حاسم- لمسألة تغيير النظام يؤكد دورهم السيادي في مرحلة إنشاء النظام الجديد و تحكمهم في مفاصله السياسية والاقتصادية والاستراتيجية (ليبيا نموذجا). رابعا – هذه الفرضية الجديدة كانت حاضرة بشكل أو آخر في ذهن حركات المقاومة وإيران كذلك. بالنسبة لحماس آثرت أن تأخذ خطابا سياسيا فيه قدر من التوسط والتوازن، في ظل حيثيات البيئة السابقة؛ فتؤكد انحيازها للخيار الشعبي ولكن دون معارضة ونقد حاسمين للنظام وتصرفاته؛ بل وأحيانا إطراء هاديء وهذا سلبي، ثم البحث عن (بدائل) لما يقدمه السوري كملجأ سياسي ودعم سياسي لوجستي. وقد فهمت حماس أن النظام المصري (العسكري) الناشيء الذي يحاول أن يستوعب الإسلاميين في إطاره ويرضي نوعا من الطموح القومي لشرائحه الشعبية –دون تغيير التريب الاستراتيجي—ممكن أن يكون مناسبا؛ خصوصا إذا استقرت نوع من المعادلة مع الإسرائيلي .. سقفها بقاء غزة على وضعها مع استمرار التهدئة. وفي رأيي خيار حماس الاستراتيجي هذا لو تم يكون خاطيئا تماما، ولكن يقل نقدنا له إذا قيمناه من خلال النظرة الشاملة للإحداثيات السابقة. خامسا - بالنسبة لحزب الله فالوضع أكثر تعقيدا؛ لأن ما يقدمه السوري لحزب الله أهم مما يقدمه لحماس مائة مرة: من قنطرة استراتيجية بينه وبين إيران ومن دعم لوجستي وسياسي وعسكري كبير. البعد الطائفي في دعم الحزب لنظام بشار في الأزمة ليس حاضرا بشكل حقيقي، على الأقل على مستوى القيادة السياسية والاستراتيجية للحزب ولكن ممكن استخدامه كتعبئة داخلية (لا ننس رغبة السوري في تصفية الحزب بعيد حرب المخيمات). ومن الممكن تفهّم تطور الحزب في تأييد نظام بشار بشكل يفوق حماس؛ ولكن تورطه المباشر في الانتهاكات على الأرض هو خرق قيمي واستراتيجي.. يبدو أن الحزب قد بدأ يشعر به وآثاره. استراتيجيا، فقد حزب الله أغلب التأييد على مستوى الشعوب العربية (وهذا هدف استراتيجي مهم للحزب على مستوى مشروعه المقاوم أو رؤيته الإمامية طويلة المدى) ودمّر تماما المكاسب التي حققها بعد حرب تموز. كذلك، بدأ الحزب يدرك أن النظام السوري ساقط لامحالة عاجلا أم آجلا بفعل التداعي الزمني والجهود المشاكسة له واحتمال حصول تسوية إيرانية أمريكية –حوالي الضربة—لبيعه، وفي ظل هذا، تكون علاقته بأي نظام جديد كابوس حقيقي. سادسا – بالنسبة لإيران .. مايشغلها الآن موضوع الضربة وماقد يتبعها من متوالية عسكرية. لتأثير ذلك على أهم محركين لمتخذ القرار الاستراتيجي: بقاء النظام ومساحة الهيمنة الإقليمية (البعد الأيديولوجي سواء بمعناه المقاوم أوالطائفي يتأخر عنهما). هي الآن تقدم دعما حقيقيا للسوري، ومن الممكن أن تنخرط في حوارات بشأنه مع الغرب أو تستكشف آفاق مابعد النظام مع المعارضة، ولكنها لن تترك النووي من جهة وبهذا لن تمتنع الضربة الإسرائيلية، ولا أراها تبيع النظام إلا في حالتين: أن يكون هذا مفروضا ضمن معادلة تسوية مع الأمريكي بعد الضربة، أو ضمن معادلة مع (جهة ما) تقدم هذه الجهة لها (اطمئنانا) تجاه النظام الجديد في سوريا و(تعاضدا) معها ضد الضربة أو متوالياتها. سابعا - التدخل العسكري الغربي لابد من الإلحاح على تحريمه سياسيا وشرعيا، ففضلا أن فكرة التدخل نفسها ليست في أجندة التخطيط العسكري للناتو، إلا أن تكون حملة دولية ذات أهداف محدودة مرتبطة بتوفير معازل آمنة على الأطراف، فإن خطورة وضع سوريا الجيواستراتيجي وكونها مركز ثقل أساسي في أي مشروع نهضوي وتحرري في المنطقة يجعل تكرار السيناريو الليبي أو العراقي بها كارثيا. ثامنا – سقوط النظام السوري لا يتم –بشكل مقبول—إلا بانقلاب عسكري، أو بدرجة أقل – (الإنهاك الاستراتيجي) والتداعي الذاتي بعد فترة من فقدان مساحات السيطرة (السياسية والسيادية والعسكرية) وتوقف الدعم الخارجي (السياسي والاقتصادي والعسكري) وتنامي التمرد الشعبي. ولاتوجد مصلحة إجمالا في سقوط النظام إلا أن يتم عن طريق استراتيجية يديرها ويتحكم فيها طرف عربي مقاوم، وأن تكون هناك ضمانة على طبيعة النظام التالي وترتيب علاقاته الاستراتيجية خصوصا مع إيران وحزب الله وحماس وتجاه أمريكا وإسرائيل. التوصية الإجمالية: القيام بدور إيجابي في تحقيق أي من الخيارين السابقين للحسم وصياغة استراتيجية عربية مقاومة لإدارة شأن الانتفاضة الشعبية وآثارها دون تدخل غربي حاسم (والتحرك في الخيارين الاستراتيجيين السابقين وتلمّس إمكاناتهما العملياتية وهي عديدة)، والعمل على تأهيل الفصائل المعارضة –وفي مقدمتها الإخوان—لتبرأ من سقم خفوت الحس القومي والمقاوم، وإعادة تعيير علاقتها مع الوسط الغربي. ويرتبط بهذا: البدء بشكل جاد في تطوير مشروع سياسي عربي للتعاطي مع الأزمة الإيرانية؛ فهي ضرورة جوهرية على مستوى الإقليم كتعاضد لمشروع مقاوم وتغييري، ولتصفية المشاكل العديدة الحاضرة في العراق، ولبنان، والخليج، وسنة إيران، والتبشير الطائفي؛ وكذلك ضرورة استراتيجية للتعامل مع الأزمة السورية والضربة الإسرائيلية لإيران أو التعامل مع ارتداداتها. هذا المشروع السياسي الشامل – مشروع تغييري ومشروع تحرري ووحدوي – قد لاتوجد أدواته الحالية بدون تغيير حقيقي يحدث في مصر (المسئول الأساسي عن تعويقه في رأيي هم الإخوان)؛ ولكن ممكن البدء في تطوير بعض مفاعليه – خصوصا فيما يتعلق بالأزمة السورية والضربة الإيرانية. في هذا الشق، يكون من المهم فقدان النظام السوري حليفيه (إيران وحزب الله) وتقديم طوق نجاة لهما بخصوص سقوط النظام السوري والضربة الإيرانية. وبالطبع تفريغه من حلفائه الدوليين عبر حزم ترغيبية وترهيبية. ولكن كلا المسارين حتى ينجحا يحتاجان لتمايز أساسي عن المحور الغربي أصلا. الدعم الإسلامي والعربي لإيران، أساسا سياسي وشعبي إلا أن يحدث تحول حقيقي لسياسة إيران وحزب الله في الملف الطائفي يكون مرتهنا بموقفها –ومعها الحزب—من النظام السوري، مع الاعتراف بمخاوفهما (المشروعة) –وعندنا مثلها—من طبيعة النظام السوري الآتي؛ ولكن مهم العمل المشترك على تقليل النفوذ الغربي فيه وتحكمه في مفاصله أوقيامه بدور حاسم في إسقاط نظام بشار. طبعا هذا التصور لحسم القضية السورية هو على المستوى الاستراتيجي ولكن كل طرق الدعم السياسي والشعبي المؤيدة للثورة والضاغطة على النظام لابد من التحرك فيها بطبيعة الحال.