لم تشهد الساحة الثقافية مصطلحا أكثر هلامية وزئبقية من مصطلح ما بعد الحداثة الذى يفلت دائما من محاولات التأصيل والتأطير وبل الفهم أحيانا، وهوالأمر الذى حدا بالناقد إيهاب حسن أن يعلن استحالة تحديده ورصده أوالاشارة إليه بمعايير ثابتة راسخة كما هوالحال مع المصطلحات الأخرى . ظهر المصطلح بقوة على الساحة الثقافية العالمية فى اوائل الستينيات بعد تجارب مريرة عاشها العالم فى غمار الحرب العالمية الثانية، فما بعد الحداثة هى الابن الشرعى للحربين العالميتن ولكنها شبت عن الطوق وفرضت نفسها بقوة فى أوائل الستينيات من القرن الحالى، خرجت علينا ما بعد الحداثة والعالم مثخن بالجراح النفسية والفكرية، تسوده حالة من التمزق والتهرأ، صاحبتها اكتشافات علمية وبروز فلسفات وايديولوجيات نسفت الانساق الاجتماعية المحافظة وزعزعت اليقين فى البديهيات وتحركت فى عشوائية وعنفوان لهدم كل بناء وتحطيم كل الرموز وتقويض كل المقدسات، ولا عجب فى ذلك، فالعالم الذى شهد انهيار الدول والقتل الأعمى بلا رأفة ولا شفقة للرجال والأطفال، وشهد كذلك ادعاءات " موت الإله " وتلاشى كلُّ متجاوزٍ، والذى عاش حالة من الرعب والدمار المطلق إبان الحروب، لابد أن تخرج أفكاره مشتتة ممزقة وتنتهى ثقته فى كل مقدس أوكل متجاوز. فى عصر ما بعد الحداثة هبطت أفكار نيتشه (أوأشباحه) وفلسفته السوداء من الفضاء الفكرىّ لشغل مساحة فى حيز الواقع المعيش، فلسفة الحلولية الكمونية التى نفت الماورائيات ونبذت الميتافيزيقيات و وأصبح عالمها المرئى الواقع فى حيز بصرها هوالعالم الوحيد الموجود، عالم لا يتسع إلا بمقدار اتساع البيضة للكتكوت، عالم انسلخ من الماضى وتنكر للمستقبل ولم يكترس به أويعمل له، ولكنه كرّس حياته للفناء فى اللحظة الآنية، والعيش الكامل فى اللحظة الحاضرة، ما انتهت لحظة حتى عدّت من سالف الدهر لا رجوع لها ولا اكتراث بما حققته أوانجزته، ولكن استعداد وولوج فى لحظة جديدة، وبهذا يصبح الانسان كحيوان يركض ركضا مستميتا، ويلهث لهاثا شديدا لإنجاز اللاشئ، والتفانى فى الظهور بالمظهر اللائق (الكاذب) فى الحاضر. عالم ما بعد الحداثة عالم بلا مركز ولا مرجعية ولا معايير، فما بعد الحداثة نبذت كل القيم وهدمت كل المعايير، وجعلت المعايير والمبادئ تغوص فى دوامة التغيير العشوائى السرمدية، وأصبح المعيار الوحيد هواللامعيارية واستحالة التحدد وعدم اليقين المطلق من الثوابت، فلا معنى للثوابت ولا معنى للقيم ولا قيمة للأخلاق بمعانيها التقليدية، إنها عبث بالبديهيات، وانخراط فى كل ما هونسبى متغير بتغير الظروف والمكان والزمان، ففراش المطلقات الذى كانت تقف عليه المعايير والمبادئ قد جذب بقوة فغرق كل شئ فى النسبية العبثية التى لا تعترف إلا بذاتها ولا ترى إلا نفسها، ليصبح كل إنسان هومرجعية نفسه وواضع معايير ذاته. العالم من المنظور ما بعد الحداثى هوعالم هلامى بلا معنى ولا هدف، فالزمان يسير بتلقائية مطلقة فى طريق غير محدد ولا يعرف أحد نهايته، هوعالم هيولىّ لا يرى معنى لأى شئ ولا يرى خيرا فى أى شئ، فليس الخير خير وليس الشر شر، ولكنها أمور نسبية تختلف باختلاف الأشخاص، وتعمل ببراجماتية لتحقيق أهداف تدخل السعادة المؤقتة والنشوة الزائفة التى سرعان ما تتلاشى بتلاشى مسبباتها، فلا معنى للراحة النفسية أوالسكينة والطمأنينة، تلك الكلمات التى انزوت فى خبايا المعاجم دون دلالة على أرض الواقع منذ انبلاج فجر القرن العشرين، ومنذ أن تخلى الإنسان عن رمانة الميزان، وأختار الانتحار الإرادى الجماعى، ليس لشئ سوى لإحباط ألمّ به هومن صنع يده. كثرت أقوال النقاد والكتاب فى وصف ما بعد الحداثة ومحاولات رصدها ومعرفة نتاجها الثقافى، فقالوا أن ثقافة ما بعد الحداثة هى ثقافة الروث والهوس الفكرى والهلوسة الاستاطيقية، الثقافة التى أزالت الحدود والفواصل بين عالم الفن والعالم اليومى، بين الفن الراقى والفن الشعبى، تلك الثقافة التى ترى فى السيارة الفارهة والبدلة الأنيقة قطعة فنية، ووصفها أحدهم بأنها "التوعك فى قلب الثقافة المعاصرة"، وذاكرة هذه الثقافة لا تحفظ شيئا ولا تكترث للمعايير الفنية التقليدية، فهى عندما تمردت على كل التقاليد والمبادئ وثارت عليها، رأت أن كل شخص فنان وكل شئ مادى يواجد حولنا هوعمل فنى، ولذلك وصفت ذاكرة هذه الثاقفة ب"ذاكر الكلمات المتقاطعة"، التى لا تقف للتأمل والاستيعاب، ولكنها تنتج ثم تتخطى الانتاج بعد أن يعيش فى الواقع للحظات، ثم يترك ويُهمّش ليوسع المجال لأنتاج آخر . ما بعد الحداثة تعادى كل شخص وكل شئ، بل وأحيانا تعادى نفسها، ما بعد الحداثة تعادى الأديان بطبيعة الحال لأنها تدعى امتلاك الحقيقة المطلقة التى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولأنها تؤمن بعالم كلىّ متجاوز للعالم المعيش، ولأنها (الأديان) ترى هدفا للحياة وأنه مجرد مرحلة من مراحل الخلق، وتعادى الأديان كذلك لأن الأديان تضع المعايير والقواعد الأخلاقية التى يجب اتباعها دون حتى إدراك حكمتها، وتعادى كذلك كل الانظمة الشمولية الكلية ولا تعترف بالمؤسساتية والأنساق الاجتماعية المنغلقة، ولذلك فهى تحارب الأيديولوجيات وكل نظام يدعى امتلاك رؤية شمولية كلية للكون والعالم، ما بعد الحداثة تؤمن بالتشظى والتشرذم والتفكيك لكل شئ فى أى وقت وفى أى مكان، فهى لا ترى العالم كما نراه متناسقا منتظما فى وحدة جامدة، ولكنها تنظر له من منظور سريالى أودادىّ (نسبة للدادية)، يكون فيه أى شئ فى أى مكان، وتتداخل فيه الكائنات الحية بالجمادات، فلا فرق بينهم إلا فى الشكل والجسم واللون، فيها انتفت ثنائية الذات والموضوع، ومات "المؤلف" وأصبح النص مفتوحا أمام القارئ له الحق فى إنتاج النص وتأويله على الوجه الذى يرضيه، فليس للمؤلف علاقة بنصه بعد إنتاجه، لأنه لا أحد يملك الحقيقة المطلقة الشاملة التى يمكن أن ينقلها للآخرين، وكلما كان النص معقدا وغامضا كلما كان هذا حسنا، حتى يترك مساحة أكبر للتأويل والتفسير. عالمنا اليوم يزخر بآثار ما بعد الحداثة، فثقافة "الغندور المتأنق"، والفتاة "المانيكان" و"العروسة الباربى" التى تسربت إلى اللاوعى الجمعى للأمم الشرقية عن طريق وسائل الإعلام والاستهلاك النهم لكل ما هوغربى سعيا وراء مظاهر الترف الزائفة ما هى إلا مظهر من مظاهر ما بعد الحداثة، فكل الشباب يناضل لكى يظهر بأفضل شكل ممكن، وكل فتاة تنفق من الأموال وتسعى سعيا حثيثا للظهور كفتيات الإعلانات، أصبح الفتى العربىّ يضحى بحياته ومستقبله (الذى يمثل الكلى الشمولى)من أجل الظهور للحظة واحدة (اللحظة الحاضرة الآنية) بمظهر الفتى "الروش" الذى تتهافت الفتيات عليه، ويسعى بكل الطرق لجلب الأموال التى ينفقها على مرأى أصدقائه، ويدرب نفسه لكى يعرف كيف يتحدث بلباقة مثل نجوم السينما، وكيف ينمق حديثه مثل نجوم الطرب والغناء، هذا الفتى الذى قد يترك دراسته وأسرته ومجتمعه ليعيش سلسلة متواصلة من اللحظات الحاضرة التى يحاول فيها إثبات نفسه والظهور بمظهر المسيطر على من حوله الذىن ينال إعجابهم فى كل حركاته وسكناته، وكل هذه تجليات لثقافة تبنى المظهر ولا تكترث بالمخبر، ثقافة تولى الفروج والبطون الأهمية الأولى وتملأ العقول بتفاهات العصر الحديث من انشغال بشراء المنتجات الاستهلاكية، ومشاهدة الأفلام وجلب المال من أجل المال. ولكن السؤال : هل من علاج لهذه الأمراض؟ أم أن الثقافة الكونية وسطوة العولمة وكون العالم قرية واحدة يسير كله نحومصير واحد .. سيحول دون تلافى سلبيات هذا الفكر؟