وضعت قبل سنوات قليلة كتاباً عاماً حول القوى الإسلامية السياسية في العالم العربي؛ وليس في نيتي الآن الترويج للكتاب بعد سنوات من نشره. ما أود محاولته هو مجرد إعادة التذكير ببعض المقولات التي انتهى إليها الكتاب، سيما وأن الانتصارات المتتالية للقوى الإسلامية السياسية قد أعادت الخلافات والمخاوف، التي طالما تخللت الجدل حول أدوار وسياسات ونوايا الإسلاميين العرب. منذ انطلقت رياح التغيير في المجال العربي قبل عام كامل، وسؤال وزن القوى الإسلامية السياسية يتردد في مختلف البلاد العربية التي تعيش تجربة الثورة والتغيير. اليوم، أضحت لدينا صورة أولية للإجابات الممكنة عن هذا السؤال. في تونس، حازت حركة النهضة ما يقترب من نصف الأصوات التي أدليت لانتخاب برلمان يقوم مقام الجمعية التأسيسية، ولكن حصة النهضة من مقاعد البرلمان اقتصرت على أربعين بالمئة من المقاعد، نظراً لطبيعة القانون الانتخابي الذي جرى الاقتراع على أساسه. في المغرب، حيث قابل الملك الحراك الشعبي في منتصف الطريق، قبل أن يتحول هذا الحراك إلى ثورة عارمة، حاز حزب العدالة والتنمية المغربي أقل بقليل من ثلاثين بالمئة من مقاعد البرلمان المغربي. في ليبيا، حيث عاشت البلاد حرباً دموية طوال أكثر من ستة شهور، ليس من الواضح بعد ان كانت القوى الإسلامية السياسية ستتجه نحو تشكيل حزب يمثلها لخوض غمار الحياة السياسية بعد انتهاء الفترة الانتقالية خلال سبعة أو ثمانية شهور. ولكن الخصوصية التي تسم الثقافة الليبية، وخلو البلاد من أي نشاط سياسي حزبي فعال، أو حتى الحد الأدنى من الحياة المدنية، يجعل من الصعوبة بمكان توقع الخارطة السياسية الليبية. مصر، بالطبع، هي الأهم، وهي اليوم حجر الرحى في هذا الصراع المحتدم على مستقبل العرب والمشرق. ولأن الانتخابات لتشكيل أول مجلس شعب مصري (كما يسمى البرلمان في مصر) بعد الثورة قد انطلقت بالفعل، وإن كانت ستستمر حتى منتصف يناير/ كانون ثاني المقبل، فقد توفرت، بانتهاء المرحلة الأولى، تقديرات أولية لما يمكن أن تأتي به هذه الانتخابات. طبقاً لنتائج المرحلة الأولى، حصلت قائمة الحرية والعدالة، التي تمثل الإخوان المسلمين وحلفاءهم، على 46 بالمئة من المقاعد التي جرى التنافس عليها في هذه المرحلة. أربعة بين الستة وتسعين مرشحا الذين حققوا الفوز على قائمة الحرية والعدالة، ليسوا من الإخوان المسلمين. أحدهم، في الحقيقة، ناشط مصري، قومي عربي في توجهه، ومسيحي في معتقده الديني. ولكن نتائج الانتخابات المصرية أكثر التباساً من نظيراتها في تونس والمغرب؛ ففي مصر، سارع التيار السلفي، الذي لم يعهد عنه خوض غمار العمل السياسي، إلى تشكيل ثلاثة أحزاب سياسية، تحالفت وجماعات إسلامية محافظة أخرى. وقد حقق تحالف القوى السلفية نتائج غير متوقعة، بفوزه بعشرين بالمئة من مقاعد المرحلة الأولى. المتوقع، على أية حال، أن لا يحقق السلفيون نتائج مماثلة في المرحلتين المتبقيتين من الانتخابات. ولكن هذا قد لا يؤدي إلى انخفاض كبير في حصة التيار الإسلامي من الأصوات ومقاعد المجلس، التي قد تصل إلى خمسة وستين بالمئة. ما قد تشهده انتخابات حرة في اليمن قد يكون أقرب إلى الحالة المصرية. ولكن سورية، عندما يسقط النظام ويحقق الشعب السوري إرادته في إقامة نظام حر وديمقراطي، ستكون شأناً مختلفاً على الأرجح. نحن، إذن، أمام صورة متفاوتة مما يسمى الآن بصعود التيار الإسلامي السياسي. فما الذي يعنيه هذا التطور في الحياة السياسية العربية؟ المسألة التي لا ينبغي أن تغيب عن كافة المراقبين للقوى الإسلامية، أنصاره وخصومه على السواء، أن الإسلام السياسي هو في حقيقته مشروع غير ناجز، مشروع مفتوح على المستقبل وعلى المتغيرات الموضوعية. والسبب خلف هذا الاستننتاج بسيط؛ فالإسلام السياسي ليس مؤامرة، ليس نتاج عقل تآمري، سياسي أو أيديولوجي، لم يولد لأن أحداً، فرداً أو مجموعة، عقدت العزم على طرحه والترويج له. الإسلام السياسي وليد ظروف تاريخية موضوعية، تتعلق بمفاجأة حركة التحديث التي طالت معظم المجال العربي والإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، وأدت إلى متغيرات عميقة في الاجتماع والاجتماع السياسي العربي الإسلامي. كما أنه نتاج رد الفعل العربي الإسلامي على التوسع الإمبريالي الغربي، الذي وصل في لحظة ذروته إلى السيطرة على أغلب البلاد العربية والإسلامية. في مناخ من التداعي المتسارع لبنى الاجتماع التقليدي، التي ارتبط الكثير منها بمواريث الإسلام وقيمه، وفي مواجهة سيطرة الأجنبي على مقدرات البلاد وحياة الناس، ولد شعور متزايد بأن الإسلام في خطر. كان هذا الشعور في أصل بروز القوى الإسلامية السياسية. ولأن طبقة العلماء، المتحدث باسم الدين وقيمه طوال قرون، لم تعد قادرة على التصدي لمهمات الإسلام في الزمن الجديد، فقد تبلور انقسام متزايد في صفوف الطبقات الحديثة في المجتمعات العربية الإسلامية: خريجو التعليم الحديث وأبناء المهن الحديثة. الإسلام السياسي هو صنيعة هذا الانقسام. جعل الظرف التاريخي الذي ولد فيه التيار الإسلامي السياسي، والفئات الاجتماعية الحديثة التي قادته، من القوى الإسلامية السياسية ظاهرة بالغة الحساسية للتحولات السياسية والاجتماعية التي ستمر بها البلاد العربية والإسلامية. الجماعات التي بدأت أقرب إلى الجمعيات الخيرية سرعان ما دخلت الحياة السياسية من أوسع ابوابها؛ القوى التي انطلقت من فكرة الجماعة المؤمنة، المختارة، تطورت في النهاية إلى قوى سياسية ديمقراطية؛ وتلك التي حملت في بدايتها فكرة الجامعة الإسلامية، انتهت إلى القبول بالدولة الوطنية. وفي الطريق، كان البعض يصبح أكثر راديكالية وتطرفاً مما كان عليه؛ والبعض الآخر يحمل السلاح، تماماً كما نظراؤه في الجماعات الماركسية المسلحة. بيد أن من الخطأ دائماً أن تقرأ القوى الإسلامية السياسية وكأنها إعادة إنتاج لمواريث إسلامية قديمة. هذه قوى حديثة، حديثة في خلفيتها الاجتماعية، في رؤيتها للمسائل الكبرى، المؤسسة لخطابها، من مسألة الدولة إلى مسائل التعليم والاقتصاد والقانون. ولأنها كذلك، فإن الاختلافات بين قواها المختلفة لا تقل عن الاتفاقات. الإسلاميون المغاربة، على الأقل من جهة علاقتهم بالقصر والأسرة الملكية، يختلفون إلى حد كبير عن الإسلاميين الأردنيين وتصورهم لما يجب أن تكون عليه الملكية. ولأن المناخ الثقافي والسياسي لتونس يختلف عن نظيريه في الجزائر ومصر، مثلاً، لم يكن غريباً أن تكون النهضة من أوائل القوى الإسلامية التي تبنت النهج الديمقراطي. وبالرغم من أن الأغلبية العظمى للقوى الإسلامية السياسية سارت في النهاية على خطى النهضة، فليس من الصعب رؤية الجدل المحتدم، ليس بين الإسلاميين وغيرهم وحسب، ولكن في داخل صفوفهم أيضاً، حول مسائل العلمنة وما تعنيه الدولة المدنية، حول الدولة القطرية وحدودها، وحول ما تعنيه أن تكون إسلامياً عربياً. ثمة من يرى في هذا الاندفاع الإسلامي نحو المشاركة الديمقراطية واستلهام المفاهيم الليبرالية المحافظة نوعاً من الانتهازية السياسية والسعي إلى الوصول لسدة الحكم بأقصر السبل. ولكن حتى إن كان هذا صحيحاً في بعض الحالات (وإلا كيف نفهم هذا الانقلاب السريع في خطاب القوى السلفية الجديدة)، فإن من الصحيح أيضاً أن ندرك أن امتحان الواقع، وليس قاعات الجدل والنقاش، هو البوتقة التي تطلق قوى تغيير وتطور المفاهيم واكتسابها معاني جديدة. الذين يحاولون التكيف مع واقع متغير، من أجل تحقيق أهداف فعلية وملموسة، يتغيرون هم أيضاً، سواء أرادوا أو لم يريدوا. قوة الواقع أكثر مضاء من نوايا البدايات. خلال الشهور القليلة الماضية، انتجت اختلافات الواقع، واستجابات الإسلاميين المختلفة لهذا الواقع، تجليات سياسية مختلفة، من المغرب وتونس، إلى ليبيا ومصر. وكلما فتحت رياح الثورة العربية نافذة جديدة للحياة السياسية الحرة، ستضيف حالة جديدة لتفاعلات القوى الإسلامية مع الوقائع العربية السياسية المستجدة. في بلدان، سيحقق الإسلاميون أكثريات برلمانية ملموسة؛ في أخرى سيضطرون إلى سلوك طريق الإئتلافات البرلمانية للمشاركة في الحكم؛ وفي حالات ثالثة، سيذهبون إلى معسكر المعارضة. وربما ينجح البعض في الاحتفاظ بالحكم لسنوات طويلة، كما نجح رفاقهم الإسلاميون العلمانيون في تركيا، بينما سيضطر البعض الآخر خلال سنوات قليلة إلى الاعتراف بالإخفاق، ومن ثم التنحي جانباً. فهل من المسوغ أن يستمر الخوف من الإسلاميين وصعودهم السياسي الحثيث؟ الإجابة في أغلب الحالات نعم؛ ولكن الخوف لا يجب أن ينبع من أسباب أيديولوجية، لا ينبغي أن يكون خوفاً أيديولوجياً، إن صح التعبير، بل الخوف من الإخفاق السياسي البحت، الخشية من أن تضع الشعوب آمالها وثقتها في قدرة القوى الإسلامية السياسية على انتشال البلاد من الهاوية التي دفعتها إليها أنظمة الاستبداد والتسلط وحكم القلة، وأن تخفق القوى الإسلامية في طور الحكم من تحقيق هذه الآمال. مثل هذا الخوف، على أية حال، تشترك فيه الشعوب جميعاً في لحظة الانعطاف السياسي، ويتم تداركه عادة بالروتين الديمقراطي المعروف. ما يجب التيقن منه، أن العرب يعيشون لحظة تغيير غير مسبوقة في تاريخهم الحديث، وأن الإسلاميين، ككل الظواهر السياسية الجادة في المجال العربي، لن يتوقفوا هم أيضاً عن التغيير. يضع الصعود الإسلامي القوى الإسلامية السياسية في قلب جدل العرب المعاصرين حول وجودهم، وحول بناء حياتهم وبلادهم من جديد، وحول نضالهم من أجل اكتشاف إجابات عن اسئلة الدولة والحكم، المواطنة والتعددية، والوحدة والنهوض، والحق والواجب. وقد بات الإسلاميون جزءاً أصيلاً من هذا الجدل.